ادب وفن

الاستعادة والاشتباك .. رواية "الذباب والزمـــرد" أنموذجاً (2-2) / جاسم عاصي

"تحترق هذه المدينة بلا نيران ولا دخان. فتاريخها الطويل كان يحترق بصمت دائماً، إنها رأس إبليس بصرياثا"
وهو توصيف للمدينة التي عانت من الأمّرين في الحروب والإهمال والقسوة من قبل الحكام على مر التاريخ . وبهذا يحاول السارد أن يجمع بين تاريخ المدينة وتاريخ الإنسان فيها.
"ليس من المعقول أن أرى نصف معلمي مدرستي الابتدائية وهم يرتدون الدشاديش ويروّجون لبضاعتهم إلى حد الاستجداء !؟".
وهو توصيف لفترة التسعينيات، وما لحق الشعب من دمار اقتصاد جرّاء فرض الأمريكان وحلفائهم الحصار على البلد وتخريب البنية التحتية في المجتمع.
"كان يردد كساحر مجنون: لا ذباب قرب بلّورة الزمرد. وإذا رأت الذبابة هذا الحجر الغامض في أي مكان لا تدخل فيه ،وإذا رأته الحيّة تفجّرت عيناها".
وهي رؤى يراد منها وضع حجم للسلطة التي تنظر وتراقب من خلال موشورها "الزمرد" إلى كل شاردة وواردة.
"هل كان ذلك الرعب وموج طنينه الحاد، هو ما يشدني إلى مثل هذا التبرؤ؟، أم أنني لم أصل بهُ إلى ما هو أقسى منه كي أشهد مزيداً من الخاذل !؟".
وهو جزء من مكوّن شخصية السارد المترددة، وحجم هذا التردد الموصوف بالخذلان.
"ووجدته في ضحى نهار مشمس يجلس على كرسي متحرك قرب باب البيت موّلياً وجهه شطر مقبرة اليهود".
ولعل شخصية "شفيق" خير ما يمثل الإشكالية في الرواية. فهو شديد الرغبة للنزوح إلى إسرائيل، لأنه يحن إلى انتماء أمه إلى عرق يهودي. ولعل نظرته التي يصفها السارد، من بين ما يُشير إلى رغباته المكبوتة.
هذه العيّنات لا تعفينا من تذكر ما حفلت فيه الرواية من سعة في تناول الكثير من الأحداث والظواهر الاجتماعية والسياسية والشعبية، في ما يخص المحلات والأزقة والأسواق. ولعل أبرزها ظاهرة "الطواشات" اللائي يقمن في جني التمر في موسم قطافه، حيث يتعرضّن إلى شتى أنواع الظلم والاستغلال، وأبرزها الامتهان الجنسي. كذلك التعمق في بنية النماذج لتقديم قناعة موضوعية على وجودهم المتمثل في حراكهم اليومي، ولقاءاتهم مع بعض. يُضاف إلى ذلك حالات التعذيب والإعدام التي كانت تجري داخل أقبية الدوائر الأمنية.
إن رواية "الذباب والزمرد" نص أمين إلى التاريخ العراقي. وقد قدم الكاتب الأحداث بموازنة فنية عالية، اقترنت بحرارة التجسيد ورهافة نماذجه، وقدرته الفنية على جمعها في حاضنة الرواية. ولعل ما يختم به السارد الرواية تلخيص لوجهة نظر ورؤى الجماعة الضائعة في خضّم التعسف والاستبداد ومصادرة الحرية والرأي:
"إنهم لا يحتاجون إلى المجاهرة بالرفض والتحدي كما فعل سليمان البياتي، ومن المؤكد أنهم لا يصغون إطلاقاً إلى فلسفة التمّار بضرورة إعادة صياغة الإنسان والواقع والمساهمة في خلق الأحداث. فهم في أحسن أحولهم يفضّلون أن تتكشف لهم الأحداث من غير تدخلهم، من غير أن يتعرّضوا إلى سوء أكثر مما أصابهم. وهذا الشعور يسّر الطغاة ويطمئنهم على البقاء لفترة أطول".
وهذا التصريح من لدن السارد، يعبر بجلاء عن طبيعة المجموعة التي شغلته طيلة مسار الرواية.