ادب وفن

حامد الهيتي ..رحيل ذاكرة من طين / مازن المعموري

ذلك الطائر الأبيض الذي عاش في مدينة الحلة, عاش أجواء طيبتها القديمة, وسط أناس أحبوه وأحبهم بكل جوارحه, عاش تاريخ تحولاتها السياسية والفنية والثقافية طيلة عمر امتد منذ عام 1943, وعلى أجنحة مقاهيها مثل مقهى الشعب الواقعة على الحدود الفاصلة ما بين محلة الأكراد وڰاع سيد عباس/ حي شبر, وأبو سراج, يومها كانت مقهى المرحوم سعيد شهيد الصفار ومن بعده ماجد جودان مكاناً وفضاءاً للسياسة والحوارات الحادة بين خنادق اليسار العراقي والقوميين وغيرهم ممن كانوا ينهلون من موضات الفلسفة الوجودية, يوم كان اسم سارتر والبير كامو ترنيمة الشباب الطموح لتغيير العالم بأحلام النوارس البيضاء العزل من كل شيء الا الأدب والشعر والرسم والمسرح.
حامد الهيتي وجد نفسه يلتقط اثر اللون وسحر الفرشاة فدرس في كلية الفنون في بغداد يوم كانت في أبهى حلتها مع كبار الرواد العراقيين, وتخرج على يدهم عام 1967, ومنذ ذلك الوقت كانت بغداد المدينة التي لا يستطيع مفارقتها, عاش أجواء الحرية والعبث وصار احد صعاليك الأدب العراقي مع كبار أدبائها وقصاصيها, وكان احد رواد قصيدة النثر مع حسين مردان وجماعة كركوك, كما لا يمكن نسيان نصوصه القصصية التي اصدر منها عدة مجاميع منها الخنادق والعندليب وارض من الياسمين بالإضافة الى روايته المهمة "قبل ذلك".
عرف حامد بعاطفته الجياشة, شديد التأثر بالمشاهد والأحداث اليومية القريبة من الناس, أصدقائه ومحبيه, لم يكن يمضي يوم واحد إلا وكان لحامد الهيتي مكان في ذاكرة الطرفة اليومية والموقف الساخر تتناقله الألسن في أماسي وحلقات الأدباء والفنانين, كما لا يمكنك سوى أن تواجه ذلك النقاء والألفة في ملامحه وصوته الأجش بعد مقدمته الأثيرة قبل كل شيء صوت "كحته" المعهودة وهو يتلفظ أولى كلماته عن مقال كتبه او قصة نشرها, لذا نجد ان كل من يتحدث عن المدينة لا بد له من المرور على شخصية متفردة في كل شيء بدأ بالوقائع اليومية المحببة الى الموقف الإنساني والسياسي والفني, ولا يخفى على كل من عاصره حبه للمسرح ويمكن القول ان أولى خطواته كانت مع المسرح الذي لم يفارقه كتابة وتمثيلا, واعد الكثير من الديكورات للأعمال المسرحية في ذلك الوقت وتحديدا فترة السبعينات, التي اتسمت بموجة هائلة تعنى بالثقافة الثورية, وكانت قضية فلسطين من أهم الهواجس التي تلهب انفعالات الشباب, وقد نشر في مجلة الهدف الفلسطينية التي كانت مجلة مهمة, حيث تربطه في ذلك الوقت علاقات حميمة مع قادة وزعماء الثقافة حينذاك ومنهم/ غسان كنفاني وسميح القاسم ومحمود درويش ومحمد الماغوط/ وتعد أهم علاقة تربطه بالفنان والأديب العراقي الراحل ابراهيم زاير الذي انتحر في بيروت.
أما في مجال الفن التشكيلي وتحديدا في مجال فن الملصق ألجداري فانه صمم ملصقا كبيرا وعرض في ساحة التحرير مع مجموعة الملصقات بمناسبة الاتفاق على الجبهة الوطنية سنة 1972 وقد فاز ملصقه بالمرتبة الأولى بين جميع الملصقات المشاركة وقد أشار الى ذلك الفنان ضياء العزاوي في كتابه الموسوم "فن الملصق في العراق".
لا يمكن لحامد الهيتي ان يكون غير ذاته الصافية والمعروفة بالغرابة أحيانا والتحدي المدهش, ومن المواقف التي تحسب لتاريخه المشرف انه في عام 1969 أقام معرضه الشخصي في المركز الثقافي السوفيتي سابقا, والظريف في الأمر انه جاء الى المعرض من مسافة بعيدة من منطقة الحيدرخانة في بغداد الى شارع أبي نؤاس حاملا لوحاته على رأسه لأنه لا يملك أجرة التاكسي الى المركز, وفي لحظة الافتتاح, حيث كان الجمهور مكتظا وكان بينهم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري الذي فضله حامد الهيتي لافتتاح معرضه على شخص وزير الأعلام في ذلك الوقت الذي تأخر عن موعده نصف ساعة, وما هي إلا لحظات حتى وصل الوزير ليجد المعرض

مفتتحا, مما أثار حنقه على حامد الهيتي, ويكمن خلف هذا الحدث موقف الفنان الجريء في اختيار علاماته الثقافية, ونقاء روحه الفياضة بالجمال ورفضه للتبعية ونظرته الاستشرافية لغد مختلف.
بقي حامد الهيتي طيلة السنوات العجاف في التسعينات وما بعدها يعاني من المرض والعزلة, في حين انه كان يمثل ثراء معرفيا قدم الكثير من الإبداع المتنوع في مجالات الرسم والنحت والخزف والكرافيك والمسرح والتصميم والديكور والكتابة في القصة والشعر والمقال السياسي والنقدي, مما يؤكد مواهبه المتعددة في مجالات الثقافة الإنسانية, وعلى الرغم من عطائه الثر الا انه لم ينل عن جهده أي استحقاق يذكر, انه الدرس الذي يتكرر دائما في العراق دون ان نتخذ منه حكمة, ومما يؤسف حقا بان الكثير من رموزنا الإبداعية يموتون على هامش الحياة.