ادب وفن

عطا صبري.. مناسبة للكتابة عن الرسم العراقي / خالد خضير الصالحي

حينما دعيت الى أصبوحة حول التشكيلي الرائد عطا صبري كان اول سؤال يلح علي اثناء الكتابة: ما شرعية التساؤل عما بقي من اي مبدع بعد عقود من وفاته؟ وتحديدا، ما الذي بقي من عطا صبري بعد خمسة وعشرين عاما من وفاته؟، وامكانية تعميم هذا السؤال على مبدعين كثيرين بعد عقود من وفاتهم..
وللإجابة عن هذا السؤال لجأت الى محرك البحث جوجل فلم اجد فيه الا سيلا من المعلومات الببليوغرافية والتاريخية من قبيل: ان اسمه مركب، وان اباه ضابط عثماني اسَرتْه القوات البريطانية اثناء الحرب العالمية الثانية، ثم توفيت امه وهو صغير..
وهكذا، مما يدخل برأينا في باب اجتماعيات او تاريخ الفن؛ فازددت قناعة ان كتابتي عن عطا صبري سيكون فيها عطا صبري مناسبة للكتابة عن الرسم التشكيلي العراقي ليس الا..
ان كل تجربة فنية، جمعية كانت ام فردية، تنطوي على عنصرين يشكلان جوهر تجارب الفن التشكيلي هما: المنجز المتحقق، والجهاز المفاهيمي (المنتج للخطاب النثري)، وان القضية الحاسمة في تشكيل اي جهاز مفاهيمي في اية تجربة تشكيلية هو تعريف الرسم، اي الجواب على سؤال: (ما هو الرسم؟)، وان السائد في الفن التشكيلي العراقي، او هكذا يتم الاعلان معظم الوقت، ان تتخلق التجربة المتحققة من الجهاز المفاهيمي، ونادرا ما يحدث العكس، وان لم يكن ذلك مستحيلا فقد حاولت الرسامة الدكتورة هناء مال الله تخليق جهاز مفاهيمي من تجربة متحققة هي فخا?يات تل حسونة وسامراء حيث السمكات والطيور والفتيات الاربع التي تدور حول نبع والتي اسماها الراحل شاكر حسن آل سعيد (النظام التربيعي) الذي اعتبره آل سعيد الجذر التصويري للكتابة المسمارية، وهو ما اسست عليه الدكتورة هناء مال الله رسالتها للدكتوراه الموسومة ( النظم المنطقية للرسم العراقي) التي اشرف عليها الدكتور مالك المطلبي في كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد.
كان الأمر الحاسم في قضية تعريف الرسم عند جيل الرواد هيمنة (خطاب عصر النهضة العربية)، بقدرته الالتهامية، على تعريف الرسم؛ فأشاع في ذلك الجيل روحا مطمئنة في قبول خلطة ذلك الخطاب لإنتاج الرسم من: (المعاصرة) الحداثة، مع التراث، كشرط قبلي لقبول العمل كاثر فني، بينما تخلخلت تلك الروح المطمئنة عند جيل الستينيات وحلت محلها ما أسميتها (شيزوفرينيا ثقافية) حيث انفصل الجهاز المفاهيمي عن المنجز المتحقق، حيث ظل الخطاب رواديا (خمسينيا)، رغم محاولات تزويقية، بينما انطلقت اللوحة بشيئيتها العالية (صالح الجميعي إنموذجا)، وقد?كان لفهم اللوحة باعتبارها (واقعة شيئية) ان تنتظر ظهور جيل الثمانينيات لتكون اللوحة عند هذا الجيل وما بعده واقعة شيئية متيريالية مادية، رغم اننا لا ننكر بقاء مخلفات العقلية الخمسينية المتكئة على الخطاب اللغوي النثري حتى الان عند الرسامين في تفوّهاتهم اللغوية التي تبقى طافحة على سطح اللوحة دون اثر فاعل في تشكيل العمل الفني، ولكنها (بقايا الخطاب الخمسيني) كانت ذات تأثير مخرب كثيرا في صياغة المفاهيم النقدية السائدة.
لقد كان الجهاز المفاهيمي وخطابه عملية استيراد وترحيل لمفاهيم نثرية (لغوية وسردية) (خارج بصرية) يمكن ان تُقدَّم استنادا لها اتجاهات اسلوبية وحلول عملية مختلفة تمثلت بثلاثة اتجاهات: قاد (التعبيرية) فيها (جواد سليم)، وكانت اكثر الاتجاهات الخمسينية تجريبية وحداثة برأينا، وكان ابرز رساميها كاظم حيدر، ثم: ستار لقمان وضياء العزاوي وصالح الجميعي وعلي طالب ومحمد مهر الدين وغيره.
واستلهم ثاني الحلول، (الاتجاه الواقعي)، التجربةَ السوفيتية والمكسيكية، وكان رأس الحربة في هذا الاتجاه محمود صبري ثم محمد عارف وماهود احمد وفيصل لعيبي وعفيفة لعيبي.
وكان الحل الثالث من الحلول العملية لخطاب التعبير عن الروح المحلية، الاتجاه (الاكاديمي الانطباعي)، وكان رأس الحربة فيه: فائق حسن والجماعة البدائية (الرواد)، ومن رواده الاوائل الرسام عطا صبري، واسماعيل الشيخلي.
لقد كان عطا صبري، كما هو حال غالبية الانطباعيين برأينا، رساما قنوعا اكتفى بالحلول التي قدمتها الطريقة الانطباعية لتمثيل مشخصات الواقع، وهي انطباعية تفارق الانطباعية الفرنسية؛ ففي الوقت الذي كانت الانطباعية الفرنسية تجربة قد ترقى الى التجارب الامبريقية المخبرية في معرفة علاقة اللون بالضوء، او تاثير الضوء على اللون، كانت الانطباعية العراقية برأينا (جثة محنّطة) للانطباعية الفرنسية، حينما ارتضى رسامونا لأنفسهم درجة من التعامل مع الانطباعية لا تعدو ان تعتبرها طريقة في تمثيل مشخصات الواقع واشكاله، وكان عطا صبري?إنموذجا لهذه القناعة؛ فانتمى، كما انتمت الانطباعية العراقية برأينا، الى (التاريخ الحديث) للرسم العراقي اكثر من انتمائه لتاريخ (الرسم الحديث) في العراق؛ فلم تشكل الاسانيد النظرية للتعبير عن الروح المحلية خارطة طريق قبلية عنده لبناء عمله الفني كما لم تشكل شرطاّ قبلياّ لا يتحقق الرسم إلا به، مثلما غدت عند الكثير من الرسامين الاخرين الذين ارتقت عندهم الى منزلة الايديولوجيا المقدسة؛ فظلت لوحته بمنأى عن هيمنة الايديولوجيا ولكنها بالمقابل اكتفت بان تظل لوحة انطباعية مدرسية دون قدرة على خرق السائد..