ادب وفن

البيت، السياج، الطريق.. سيرة ذاتية لـ "جليل حسون عاصي" / محسن ناصر الكناني

السيرة لون من ألوان الأدب القديم والحديث، تنقسم إلى قسمين، ذاتي وموضوعي، وقد عرف الأدب السياسي العراقي بعد تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 هذا اللون على يد أركان الحركة الوطنية العراقية، ودخل الى عالم التاريخ الحديث كمصدر لا غنى عنه ، يضاف الى الوثيقة. ولم تخل الدراسات الحديثة من الاعتماد على السيرة واعتمادها كمصدر أساسي ، في الإطارات الجامعية والحزب الشيوعي العراقي الذي تأسس في العام 1934، على يد مجموعة من المناضلين والمثقفين العضويين ، وقد تركوا سيرهم، او مذكراتهم الشخصية التي أصبحت تقليداً ، وجد له حرية أوسع بعد التغيير.
ومن هذه السِير التي صدرت في كتاب "البيت، السياج، الطريق - سيرة ذاتية" بقلم الرفيق جليل حنون عاصي الذي حاول فيه إضاءة فترات مهمة من تاريخ الحزب، من الخمسينيات من القرن الماضي الى العام 1979 ، في المنطقة الجنوبية من العراق، والرفيق كتب سيرته مستعرضا طفولته الريفية في منطقة "أم الشعير" بين قضاء الحي وناحية الموفقية، وانتقاله الى مدينة الكوت للدراسة في المتوسطة، ثم تعرفه على الحزب في فترة دراسته. ثم توثقت هذه العلاقة أثناء دراسته في دار المعلمين الابتدائية في بعقوبة. وتعيينه معلما في قضاء الحي. وانتقاله الى قضاء الشطرة، فالناصرية، والعمارة، والبصرة، ثم جنوب العراق. تعرف فيها على كوادر الحزب المطاردين بعد ردة 8 شباط، ثم محاولتهم الجريئة في إعادة تنظيمات الحزب الى الوجود بمعاونة ومؤازرة الجنود المجهولين الذين عضدوا من مسيرة حزب مناضل وتربوا في مدرسته الفكرية والنضالية ضد أشرس أنظمة مرت في تاريخ العراق الحديث.

البناء الفني في الكتاب

أراد الكاتب أن يكتب رواية أول الأمر، لكنه تراجع، لكون الرواية تحتاج الى رؤية وممارسة ومعرفة بأصول الفن الروائي، فلجأ الى السيرة الذاتية. وكنت مطلعاً على فصول من عمله. الذي جاء في "245" صفحة من القطع الكبير ومعززاً بالصور.
لجأ الكاتب الى شطر سيرته الى "متن وهامش"، المتن يتسع الى "26" لوحة، بحيث نأى بنفسه عن الفصول ولجأ الكاتب الى اللوحات لسلاستها. وعفويتها، وتنامي أحداثها، ووضوح صوت الراوي "الكاتب"، وأبقى "الهامش" التعليقات والاستدراكات والتعريف بالشخصيات الاجتماعية والكادر الحزبي الذي عمل معه فضلا عن تعريفه بشخصيات من القاع الاجتماعي الشعبي، الجنود المجهولون، الفلاحون، والفلاحات، والمعلمون وصيادو الأسماك وعلماء دين، وجنود وطلبة ، ونساء ، وشباب الهور، والبدو، كل هؤلاء لهم الفضل في بناء جسد كتابه، الذي كتبه بالدم والعرق، والتجربة المريرة. لذا جاء الكتاب محملا برائحة الزمان والمكان والشخوص الحقيقيين من دم وعرق، وليس من حبر وورق!
منهج كتابه سليم، فقد أطلق رؤاه، وتأملاته، في البيئة الريفية متفاعلا مع "عائلته" المتدينة، كاشفا عن طبيعة العلاقة التي تربط أفراد عائلته المحبة للعلم والدين، وكيف لعبت المدرسة. ومعلموها في التأثير الايجابي على الصبي الصغير، وانشداده الى التعليم ثم انفتاحه المرهف على فضاء الريف، بأجوائه، وطيوره، والطبيعة الساحرة، وتناغمه مع الحكايات والسير الاجتماعية التي ينقلها له والده عن المضيف لكن الوالد كان برماً من حياة الملاكين، والإقطاعيين والذين "يهينون" المزارعين و يسخرونهم في خدمتهم، مما جعل العائلة في موقف آخر، فتشكلت لدى الصبي، أولى أشكال الوعي الجنيني ضد الواقع المرير، الذي دفعه الى سلوك طريق العلم، والتفوق في الدراسة كل هذه الرؤى نلمسها في السيرة بعيني صبي حساس فقير، في متن تنمو أحداثه بشكل طبيعي، وبتسلسل زمني على شكل "لوحات" اجتماعية، ترتبط الأولى بالثانية بدون "حواجز" أو "تعليقات" أو "تحليلات". اذ تركها في "الهوامش" التي أضاءت مجموعة من الشخصيات والمناسبات المهمة، والأماكن التي جاء ذكرها في السيرة الذاتية.
والسيرة الذاتية للكاتب اندغمت مع "الموضوعية"، عندما تقدم في العمر، وتعرف على أفكار الحزب، والبرنامج السياسي، والنظام الداخلي، وقراءاته للأدبيات الحزبية، وأراء الكادر المتقدم، ودخوله في النقاش، والجدل، ثم التخطيط المنظم للقراءة الذاتية والتثقيف الحزبي الداخلي الذي أصبح تقليداً في حياة الحزب اليومية.
وكان تعرفه على النظرية الماركسية، من خلال الكادر الحزبي المتقدم أثره على السرية، وارتباطها بالموضوعية، ومعرفته بقوانين تطور المجتمع، والجدل الماركسي الذي يحلل الظاهرة الاجتماعية الى عناصرها، ويعطي البديل الثوري، من قراءة السيرة، نستخلص من هذا تفاعل الشخصيات مع الأحداث من جهة، وتأثير الشخصيات على تغيير الواقع الى الأحسن.

حول دلالة عنوان الكتاب

عنوان الكتاب، جاء منسجما مع شكل ومضمون الكتاب، ولم يكن مفروضا عليه من الخارج. وقد استطاع الكاتب أن يستخرج من "اللوحة 36ص242" حيث جاء فيها: "لا بد من الإشادة بالعشرات من العوائل التي احتضنت الشيوعيين وحافظت عليهم، وقدمت المساعدات الشخصية للتأكيد على حقيقة أن الجماهير في حياتنا" هي "السياج الذي يحمينا، هي المعين الذي لا ينضب لتزويدنا بخيرة المناضلين، فلا بد أن نكون معها، نعمل بين صفوفها، نتدارس مشاكلها ونرشدها "للطريق" الذي يوصلها لتحقيق أهدافها: نسمع مقترحاتها، وأراءها نتقبل انتقاداتها. فقد علمتنا الحياة مدى أهمية التعامل بروح متفتحة على الآخرين، وفيما بيننا انه الطريق السليم الذي يجنبنا الكثير من الهفوات، والعثرات والإخفاقات" هذه الزبدة اضاءات في الصفحات الأخيرة من الكتاب وفعلا فعندما يكون الحزب بين الجماهير، يحتضنها، وتحتضنه، فيندفع في الطريق السليم، وعندما ينقطع الحزب عن الناس، يدب الضعف في الجسم الحزبي لذا كانت السيرة الذاتية، محملة بهذه الصفة وتنقل العلاقات الايجابية الحقيقية.
والرفيق مؤلف الكتاب كان من خلال عمله الوظيفي كمعلم، ونشاطه السياسي في واسط وذي قار وميسان والبصرة قد اكتسب خبرة عالية، بين الجنود المجهولين، فاحتضنوه في بيوتهم وعززوا ثقته بنفسه كمناضل أصيل. واندفع الاثنان في طريق النضال.

أهداف الكتاب:

السيرة الذاتية لم تكن رغبة ذاتية في الكتابة، ولا عملاً إنشائياً، بل تنطوي بداخلها أهداف نبيلة، تتمثل في إعادة تاريخ الحزب لصفحاته المنسية والتي تركها المؤرخون والمناضلون بدون معالجة، وحينما اطلع الكاتب على "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي-الرفيق عزيز سباهي" شجعه على الكتابة بعد ان "لاحظ عدم الإشارة الى الدور الذي نهضت به المنطقة الجنوبية إبان محنة شباط، فلقد حصر الرفيق عزيز العمل الحزبي بثلاثة مراكز "بغداد، كردستان/ الفرات الأوسط" غير ان سباهي تحدث عن مراكز حزبية أخرى لقيادة النشاط الحزبي وصفها بالمنعزلة هنا وهناك، تقودها كوادرها الخاصة" ثم يعود الى القول "الى جانب هذه المراكز الثلاثة كان هناك عدد من القادة، والكوادر الحزبيين خارج البلاد" ولم يتطرق الى دور المنطقة ويتساءل "الرفيق جليل: كيف نلغي دور لجنة المنطقة الجنوبية. ومحليات البصرة والكوت والعمارة والناصرية والتضحيات الكبيرة التي تكبدتها؟ هذه الأسباب دفعت بالرفيق الى الكتابة المسؤولة عن فترة حرجة شديدة الخطورة بعد 8 شابط المشؤوم. اذاً هدف الكتاب واضح هو: استجلاء فترة ما بعد شباط ومساهمات الرفاق والكادر الحزبي في إعادة خلايا الحزب، وإنشاء "ركائز حزبية" جديدة، وجمع العناصر المبعثرة الى جسد الحزب في المدينة والريف والهور. وقد استفاد الرفيق من طروحات الرفاق الآخرين الذين كتبوا سيرهم بعد التغيير وتوفرت له الفرصة للكتابة الهادئة، ثم خروجها الى النور في العام 2010 عن دار الرواد المزدهرة، السيرة الذاتية، هي سيرة شخصية موضوعية ابتدأت في الخمسينيات من القرن الماضي، وانتهت بفشل الجبهة الوطنية في العام 1979 ومما يعطي للسيرة منهجها الموضوعي السليم، هو اعتمادها على وثائق حزبية كثيرة، واطلاعه على قرارات المؤتمرات والكونفرنسات الحزبية، فضلا عن اشتراكه في عمل القرارات، مع نخبة متقدمة من الكادر الحزبي المتقدم، ثم نقده الجريء لخط أب ، ووثائق الجبهة الوطنية وفي الختام، اوجه تثميني الخاص لجهود الرفيق جليل ، وعمله، الذي كشف عن كاتب سياسي متمرس واسلوب رشيق وبين، وقدرة في التحليل والاستقراء والاستنتاج وفهمه للجدل الماركسي العلمي الذي اغترفه من المدرسة الفكرية والنضالية للحزب، وجدير بنا، أن نقرأ الكتاب بعناية، بعين فاحصة، والإفادة منها في إعادة وبناء تنظيمات الحزب الان.