ادب وفن

المشهدية التأويلية في شعر كولينز / باسم سليمان

يقبل الشعر الموسيقي بسلاسة، ليس لأنّ الوزن هو الطاولة التي يجلسان عليها بل لأنّهما يتفقان بأنّ النّصف الفارغ من الكأس ليس من اختصاصهما ملؤه وليس من أحد معيّن يملك هذه الخاصية حتى لو كان الساقي.‏
لنفهم ما سبق أميّز بين نوعين من الوصف: الأول الذي يختص بالصفات التداولية والتي تخرج من فعل الأنسنة الذي يجد جذره في ميثولوجيا: تعليم الكائن البشري الأول، الأسماء وبالتالي النداء. هذه التداولية هي التي تجعل اللغة وسيطاً حيوياً إخباريا إنشائياً بين المجموع البشري الذي يتكلمها. في حين الوصف الآخر، هو التأويلي أو ما بعد المعنى التداولي، فالشعر مهما قيل عن أغراضه يبقى مصراً على أن يترك النصف الفارغ من الكأس لكل عابر سبيل لكي يملأه بعطشه. هذه الخاصية التي من الممكن تسميتها: ضدية تداولية بحدود النصف؛ كون اللغة هي?حامل الشعر وهي تداولية بطبعها.‏
‏بالعودة إلى موضوع الشعر والموسيقى، فلا يمكن لأيّ كان أن يقومس "من قاموس" الجمل الشعرية والموسيقية في قاموس ما، وبالتالي تفتح على حرف/ جملة "الحياة مسدس محشو/ يحدق فيك بعين صفراء" وتستخرج المعنى اعتماداً على التداولية اللغوية ونفس الشيء بالنسبة إلى جملة موسيقية.‏
ما سبق ذكره هو مدخل لقراءة شعر بيلي كولينز الذي يعتمد الوصف التأويلي أو بمعنى آخر المشهدية التأويلية، فالكثير من شعره يقدم وصفاً لمشهد ما يعترضنا أو نلقاه أو نفارقه يومياً، لكن بنظرة مختلفة تعنيه هو. ومع ذلك يترك للقارئ النصف الفارغ لكي يؤوله كما يشاء. وهذه المشيئة تبتدئ من مفتاح كولينز الذي يدخله القارئ في قفل الباب الذي ينفتح معه كما الكلمة السرّية "افتح يا سمسم".‏
من قصيدة "مقدمة في الشعر"، اختار: أريدهم أن يتزلّجوا‏
عبر سطح القصيدة‏
ملوحين لاسم الشاعر على الشاطئ‏
غير أن كل ما يريدون أن يفعلوه‏
هو أن يوثقوا القصيدة بحبل إلى كرسي‏
وينتزعوا الاعترافات بالقوة منها‏
يشرعون بجلدها بخرطوم المياه‏
ليعرفوا ماذا تعني بالضبط.‏
في الوجه الآخر نجد كولينز يعتني جداً بالقارئ وبنفس الوقت يستخدم نصف التداولية اللغوية أي المشترك: الأسماء/ النداء؛ ليوقع القارئ ويقنعه بارتياد المشهد التأويلي وإقحامه بالتجربة الخاصة للشاعر ليكون للقارئ تجربته الخاصة بالنصف الفارغ من الكأس.‏
يقول كولينز في إحدى اللقاءات: ثمة دائماً فجوة ضخمة فاصلة بين: أولاً الأهمية الشخصية لزرع تجربتك الذاتية الجادّة في القصيدة، وثانياً حقيقة أنه لا أحد يبالي بما تفكّر، «أو تشعر أو تصنع»، ما لم تستطع باستراتيجية أدبية ماكرة إجباره على المبالاة. واحدة من تلك الاستراتيجيات الأدبية الماكرة لحثّ الناس على الاهتمام بمحتوى القصيدة الجاد «والذاتي»، هو أن تخفي هذه الجدّية والذاتية، موقّتاً، من خلال استخدام التواضع الجمّ، أو صنع مفارقة مذهلة، أو حتّى السخافة الغبية، أو أي أدوات فنّية تصنع كوميديا.‏
ويتابع: القصيدة قد تبدو بريئة ومُرحِّبة بالقارئ، لكن هذا الترحاب يهدف إلى إغوائه لدخول القصيدة لأتمكّن من قول أشياء «جادّة» قد لا تكون محبّبة ومريحة له.‏
من قصيدة "بعض كلمات ختامية"، أختار:‏
"يعزّ عليّ فراقك دون أن أقولها: الماضي لاشيء‏
سلوان‏
طيف: خزانة عازلة للصوت يؤلف فيها جوهان شتراوس‏
فالسا آخر ليس بوسع المرء أن يسمعه. إنّه تلفيق، أحلى المنسيات‏
معين الأسى الذي لا ينضب‏
الذي يسقي حقلاً من نبات مرّ".‏
شعرية كولينز، هي أثر الفراشة، فهو لا يثير الضوضاء بل يتسلل بهدوء العاطفة إلى داخل متلقيه ليمتزج بتجربته كأنّه يقول لمتلقيه: تعال وشاركني باستماعك، فهو ما يعطي الشعر الأجنحة واملأ القسم الفارغ من الكأس بتأويلك أنت لا أنا.‏
من قصيدة "طيران القارئ":‏
مهما يكن الذي يجعلك تبقى‏
فإني أكره أن أتخيل ذلك الصباح‏
الذي أستيقظ فيه وأجد أنك رحلت‏
في طريقك إلى البحر اللانهائي‏
تجرّ الحبال التي أوثقتنا سويّة‏
تاركاً إيّاي دونما جديد أضيفه.‏
ولد بيلي كولينز في عام 1941 في نيويورك، وهو ابن وحيد لممرضة وفني كهربائي، حصل على دكتوراه في اللغة الإنكليزية وعلى دكتوراه في شعر وردزورث وكوليردج ويدرس في جامعة ليمان التابعة لجامعة سيتي يونيفرسي في نيويورك وهو يُدرس الأدب في هذه الجامعة.‏
إنه شاعر أمريكا في أعوام 2001-2002 وهو أرفع لقب شعري في أمريكا؛ لكن كولينز يقول: الذي دفعني في أكثره لكتابة الشعر هو كون الشعر عملاً تقوم به بنفسك.‏