ادب وفن

الاستذكار والحنين / جاسم العايف

الكاتب العراقي المقيم في السويد "محمود بدر عطية" يهدي كتابه: وجوه في السوق القديم إلى عراق ما بعد زوال الدكتاتورية، الذي "تختلط فيه رائحة البارود برائحة غبار الطلع" وخلال استذكاراته التي تفجرت، حينما غادر العراق مُكرها ، كان قضاء "أبو الخصيب"-المكان - مصدراً للتوازن لديه بين يوم عمل شاقٍ متواصلٍ، مُتعِبٍ، وذاكرة تحاول مواجهة ليالي الوحشة والحنين، كي تخلق عالما تعويضياً، في رحلة الغربة. تلك المشاعر التي بواسطتها يتم التزود بإضاءات مستمدة من ماضي المدينة وحيواتها التي باتت "هناك".
وتمتد في التاريخ الشخصي للكاتب وديمومة الحياة وتواصلها، ويظل "المُستذكِرْ" قابضاً عليها لأجل مداواة انقطاع الروح وتمزقها الموزع بين ذلك الماضي وألفة مكانه وخصوصيته الحميمية، والحاضر المعاش وتعقيداته، فينحو لاصطياد جزء من ماضي العلاقات الاجتماعية و نكدها ومنها المصائب التي يسببها حريق "سوق أبو الخصيب القديم" وتحوله إلى "أثر بعد عين"، أو في حضور بعض شخصيات قاع المدينة ومنها "خضّوري" الذي يوهم نفسه بالبحث عن "حاجة الآخرين في القمامة ومخلفاتها وليس عن حاجته"، أو في الطرق الفرعية الريفية المتربة - المتعرجة والض?قة التي تفصل الطريق العام عـن الساقية الممتدة إلى اليمين، و"فزّاعة" البستان والتي تواجه الريح والبرد والندى الليلي والشمس وتقلبات الطقس، مبعدة الطيور عن بساتين الطماطة والخيار والذرة الصفراء، وشجيرات العنب. وبوابة البستان الذي تندفع فيه بتدفقات متتالية روائح القداح والجوري والرازقي والياسمين كغيمة مرئية في خليط متجانس، وحمرة العنب ونداوة الشط، وبرودة نسائمه المسائية مخلوطة برائحة أوراق اليوكالبتوس الندية.
في بستان "المغتسل" تتوالد الميثولوجيا الشعبية وتتخلق الحكايات، في مواجهتها للمالك الجديد "الغريب" على الناس وتاريخهم ومكانهم، وتحاصر محاولاته اليومية المدعومة سلطوياً، وقدراته المادية مجهولة المصدر، لغرض الاستحواذ على إرث الأزمنة والأسلاف، في محاولته اقتلاع النخل الذي "يُحدث وشيشاً وصفيراً في الهواء حينما يهوي مطعوناً، و تهتز الأرض إثر ذلك". وتواجه الأجير "قريبول" محنة فصل رأس النخلة عن جسدها، ليصاب إبهامه و يقعي محاطاً بالشماتة والازدراء والعار، ملطخاً بالدماء مملوءاً بالندم والمرارة، وهو في طريقه إلى ا?مركز الصحي. أما "عبد الرحمن زنبور"، الذي أكمل مهمة "قريبول" بعد أسبوع من العمل المنهك، فإنه يفقد حافظة نقوده التي تحوي أجوره، وتظل حركته اللولبية على "دراجته الهوائية" القديمة وهو يتوسل المارة عنها، شاهدة على قداسة "النخلة" والمكان، كجزء من القصاص المادي والمعنوي الذي يطارد الطارئين عليهما والعابثين بهما. وتكتسب المناطق النائية وعزلتها، اكتمالها مع هامشيتها، حينما يظل "أبو صالح" يعاند الزمان الجديد ورياح التغيير، معتمداً المقايضة في ما يقدمه من خدمات للمحتاجين، الفقراء بالذات، لقاء حشائش لإطعام بقرته الهرم?، ويدفن أيامه وذاته في مشغله الصغير محاطاً بأسرار العمل اليدوي البدائي، وهو يواجه الحاضر ومتغيراته الحديثة ،التي تجاوزت "مطرقته.. سندانه.. مثقبه.. كلابه.. ومنفاخه الهوائي الصغير". ويبقى "أبو صالح" رغم ذلك يحتفي كل صباح "بصمونة الفرن الحجري الراقدة قرب رماد جمره المنطفئ" وهو "يمضغها، بمتعة، مع رشفات الشاي البائت" من "القوري المتسخ" و"وروده الذابلة".
يذكر الأستاذ "فرات المحسن" في مقدمته للكتاب بأنه "قص قصير". ووصف هذه الاستذكارات بـذلك تجاوزاً على ما تشكّله مكونات القصّ من رؤى و أساليب وطرائق سردية، فــالكاتب لا يعتمد القص وتقنياته المعروفة وحدوده ورؤاه وثيماته، والكتاب في متنه جزء من الألوان الاستذكارية التوثيقية للمكان ومحيطه الاجتماعي، بعد الابتعاد عنه، وبقاء تفاصيله شاخصة في ذاكرة المهاجر في زمن محدد، وثيمته الأساسية المدينة التي تقبع في أقصى الجنوب العراقي، ومحاورها البيوت القديمة، بيوت الطفولة، والألفة، وعبرها تتم محاولة تفعيل الذاكرة وتكييف الخ?ال وتنشيط مركزيته للاحتفاظ بألفة المكان الذي كلما "نبتعد عنه نظل دائماً نستعيده ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية، ذلك الإحساس بالحماية والأمن اللذين كان يوفرهما لنا"- غالب هلسا-. وثمة متابعة محدودة وشاحبة للبيئة الاجتماعية وتحولاتها، ولحيوات تزخر بها المدينة، عَرَفها الكاتب وجالسها وأُخرى سمع، عبر الرواة، عن سيرتها ووثـّقها، وكذلك شخصيات تفخر بها المدينة، بسبب ألمعيتها وشهرتها التي تجاوزت المدينة الغارقة في واقعها اليومي المتردي، واستطاعت أن تبعثها وتضعها في قلب المتغيرات العراقية وأحداثها المفجعة?وتاريخها الدامي، كبدر شاكر السياب، الذي وضع"جيكور" تلك القرية القصية النائمة في "ظلام السنين.. " ونهرها الصغير"بويب" في قلب العالم، و يعيد الكاتب رواية سيرته المعروفة، وثمة التقاطات عابرة عن زيارة الشاعر القتيل محمود البريكان وأستاذ الفلسفة محمد جواد الموسوي إلى صديقهما وصديق السياب أيضاً الشاعر محمد علي إسماعيل، وهي في طريقة روايتها والمادة المستعادة عنها، لا تشكل إضافة للمتلقي ولا تمنحه شيئا خفياً أو متفرداً عنها، ولا يسعى الكاتب للعمل على أهمية وقيمة التجنيس، بل يُفعّل ذاكرته دون محاولة الاتصال بجوهر ا?مكان واكتشاف مكنوناته أو الاستذكار الفني الذي يتعالق مع مدينته الجنوبية وحياة الناس فيها وبساطتهم وشموخهم رغم محن الحروب وقسوة الأزمنة الممهورة بالبطش والعزل والفقر والتردي والإهمال. والكاتب يستعيد ويدون استذكاراته ومروياته العامة والخاصة الراقدة في ذاكرته، ببساطة دون محاولة صقلها أو تشذيبها بل يسعى في استذكاراته لتجاوز سنوات الحروب العبثية وتأثيراتها المدمرة على ذلك المكان الجنوبي المعروف بألفة حياة مكوناته وتحاول ذاكرة الكاتب مواجهة الإحساس بضياع المكان والفته. والاستذكار هذا يوثق ذواتها ، المجبولة عل? الوداعة والمسكونة بالعفوية والإصرار، مبتعداً عن تشريحها، لاستقصاء مدلولاتها، ويقدمها، بمثابة صوراً فوتوغرافية عائمة بمحيطها الاجتماعي المُحّبِط، منطوية، في إيقاع حياتها اليومية، على قهرها وآمالها وفراداتها القروية الجنوبية بالذات.