ادب وفن

الاستهلال الفني في الرواية العراقية الجديدة نماذج تطبيقية / محمد يونس

إن بناء العمل الروائي يبدأ تدريجيا، حيث إن هناك عتبة مثلما يدخل القارئ للعمل من خلالها، فان الكاتب عليه إن يحسن صياغة تلك العتبة ويجعلها ضامنة للتدرج الفني، ويشكل الاستهلال أو المفتتح وظيفيا أهمية كمفتاح يكشف لنا مضمون العمل في حدود الفكرة أو يدل أو يشير عليه ويكشف المجهول بإطار يدعم التشوق إلى معرفته إجماليا، وقديما وحديثا تتفق الآراء حول أن جودة المادة الأدبية ترتبط بجودة الاستهلال، والاستهلال رغم تلك الحيوية غير منفصل عن الإطار الأساس للرواية، ففي الرواية لا يكون الاستهلال كما في بعض قصائد النثر والتي يكون فيها الاستهلال متصلا من جهة ومنفصلا أحيانا كنص بذاته، وقصدي من تأكيد أهمية الاستهلال ككيان أولي جزئي هو لتبيان فاعليته وعلائقه الضامرة مع جوانب أخرى في العمل الروائي.
إن أهمية الاستهلال في الرواية كبيرة وفاعلة وكونه مدخلاً كما يسمى اليوم أو عتبة يؤدي وظيفة فنية، إضافة إلى كونه جزءاً له أهميته في المادة المكتوبة، واعتقد أن الرواية العراقية الجديدة كما ونوعا اهتمت بالتوظيف الفني، وهي ليست هنا إشارة إلى الجانب الفني في الرواية كسعي إلى دعم الأسس الفنية واكسائها بملمح استاطيقي، كي تضفي على المتعة العامة بعدا جماليا، وضروري أن يكون الاستهلال الفني له تأثير مباشر في فتح آفاق السرد إلى مساحات أوسع، أو قد يقوم بموجه للميتا سرد، فتبدو البنى الضامرة بسعي البنى الظاهرة إلى دعمها للصعود لسطح الرواية، وقيمة التجديد في إطار المفتتح أو العتبة الأولى.
إن الرواية من جهة قد تجاوزت تلك السمة العاطفية في كسب ود المتلقي، ورسم ملامح حياة مجيدة، وتبدل من حين موقع الإنسان فلم يعد مركزا، وغابت تلك الحياة التي فيها شخصيات جليلة كما (جان فال جان) بطل رواية "البؤساء"، وصارت اليوم الشخصية موضوعة وليست ذاتا، وهذا طبعا له تأثيره الإجمالي، وهنا يكمن دور المفتتح، واعتقد أن كلمة مفتتح ذات أهمية، ومؤكد أن الفتح الفني له أهيمة مضافة، إن كانت صياغته وتوظيفه بمستوى متقن ويدعو إلى التميز، وسنأخذ نماذج نعرضها، وندعها هي تبدي تميزها وأهمية التوظيف فيها، ولنأخذ بداية مثال قد يكون تمرد إلى حد ما على الأطر التقليدية، وهو رواية فيرجوالية لسعد سعيد، والتي تواجهك من أول مفردة بشكلها الفني المفترض جنس رواية، والتي تتحقق تدريجيا، والمفتتح أو الاستهلال في هذه الرواية يبدأ بحوار غير تقليدي، ويعبر عن مضمون روح العصر (من تكون)، وصيغة السؤال بالبدء قد تصعق، لكن تدريجيا تجد أن التوظيف تجاوز أن تفقد الرواية ما تسعى إليه، وضمن ذلك طبعا المتعة الروائية، وتشارك رواية سعد سعيد إلى حد ما رواية داود سلمان الشويلي "الحب في زمن النت"، ومؤكد هناك وضوح نسبي في العنوان لمنظور الروائي، وهي أيضا فنية المفتتح والبناء، حيث خالف المعهود في تسمية المفتتح أو المقدمة كما في تعبير البعض، والتي اعتقد لا تتفق مع الرواية في جميع الجوانب، ويقول فيما اسماها ليس بمقدمة،يعد بداية توضيحية ليس إلا (وأنا إذ اكتب هذه الرواية لا ابتعد عن الواقع،وبنفس الوقت لم اترك للخيال أن يقيدني إليه)، ومن ثمة يرمي الأمر في سلة القارئ اللبيب، ورواية "صلاة الغجر" لناهي العامري أيضا تدرج في الإطار الفني للبناء، حيث بيدا الاستهلال بنقاط, ومن ثم يتواصل مقطع الوصف ، والذي يشير الى واقع بل أحاسيس ( .... ذاكرتنا مثقلة بعبء التاريخ)، وكذلك احمد سعداوي في روايته البلد الجميل، حيث يبدأ الاستهلال باسم عابر/ زمن ثم تليه جملة رمزية هي إشارة له، وتقريبا كانت لغة الاستهلال شعرية، وهذا يحتاج بالتالي إلى جهد كبير( نود، أغنيتي التي رحلت)، واعتقد أن احمد سعداوي أراد أن يوسع المعنى الروائي ويميز بمضمون بؤرة السرد، وان يشرك متجاورات يمكن للرواية استيعابها، ولا يكون هناك تأثير سلبي إذا أتقن صنعته، وخضير فليح الزيدي في رواية خريطة كاسترو، حيث كما روب غرييه في روايته غيرة يبدأ بمفتتح خارجي يسبق مفتتح الرواية، فخضير فليح الزيدي باشارة ضمنية تميز مفتتحه الخارجي بانه تقديم افتراضي، لكن مؤكد هو جزء من التخطيط الأولي، والمفتتح الخارجي كان طويلاً نسبيا، وهذا لصالحه كي يندمج تدريجيا بكيان الرواية، وعلى الأخص ان الكاتب كتبه بصيغة روي, وتحسي كرمياني في رواية "أولاد اليهودية"، والتي هي ذات أيقونة مثيرة ومغرية، ويفتتح الرواية بإشارة تحتم ان تكون إلى زمان مثلما هي تحتمل ان تشير الى مكان، وتقنيا تصرف بآلية الكتابة، حيث وضع مفردة تليها نقاط اعتبرها سطرا تاما، ومن ثم في السطر التالي الذي يشير به الى زمن ومكان معينين، فبعد (حدث ذلك.. بعدما دكت السماء بلدة (جلولاء) بمطر استثنائي غير مسبوق)، وصراحة استوقفتني مفردة ( دكت)، حيث هي خالية من المضمون الروائي، رغم ما سعى إليه الكاتب من مقصد، اما أطياف ابراهيم سنيدح في روايتها مناديل انثى، فهي إضافة للمفتتح الخارجي الذي أشارت إليه على انه تنويه بتاريخ كتابة الرواية، وذلك مهم، لان زمن القراءة لا بد أنه يقف أمام مواضع مسكوت عنها، والمفتتح الداخلي كان حسيا وفيا النزعة (الحقيقة حبات تلتقطها السياسة فتبدو أكثر عمقا)، واعتقد أن اللعبة الفنية التي بدأ بها جابر خليفة في رواية مخيم المواركة، كانت بتقنية عالية وميزة إقناع أيضا، حيث المفتتح بما انه ينقل المتلقي الى الولوج للنسيج الروائي والولوغ داخل كيانه، فلابد من وظيفة مثلى، وجابر خليفة جعل مدخل الرواية يحتمل مفترضات شتى تدريجيا ستتكشف وتكون حقيقة بائنة، (لان عمار اشبيليو هو من ارسل هذه الرواية كاملة الى بريدي الالكتروني )، ثم يدون جابر بريده الحقيقي، ان المدخل مثير ويجلب الانتباه، وذلك جعل الكاتب يضفي على اللعبة وجها آخر ويعي انه ألف تلك الرواية، وعبد الخالق الركابي في روايته سابع ايام الخلق، حيث يكتسب المفتتح شكل لحظة تاريخية تدلل عليها لغة الاستهلال، حيث تغور بك الجملة الاولى بعيدا،(اخبرني شبيب طاهر الغياث)، ويتوالى إطار العنعنة المعروف في السيرة والحديث، لكن أجد أن الركابي ابهرنا منذ الاستهلال بأجواء روايته، وقد اقترب بها إلى أسلوب امبرتو ايكو، والذي يأخذك الى أسفار التاريخ دون أن تغادر مكانك، وتلك العملية هي صنعة متقنة، وتحتاج إلى وعي وخبرة كبيرين، وبرهان الشاوي في رواية "متاهة حواء"، حيث يبدأ الاستهلال بمعنى واسع في مفتتح لم يعينه، لكن يمكن ان نعتبره خارجيا، لكن الروائي اراد ان يكون شكل روايته أكثر جدة مما هو معهود، وربما لأنه أول الفصول يبدأ باسم ، وهذا ايضا يحال إلى وجود بعد فني اعتمده برهان الشاوي بتصور ووجهة نظر خاصة باطار جدلي، وهذا احد اطر ملامح الرواية الجديدة (الانسان ذاهب الى بيته الابدي والنادبون يطوفن في السوق)، والاستعارة مؤثرة وذات قيمة في محتواها، ومحمد الاحمد في رواية ورد الحب وداعا، حيث في اعلى الصفحة هناك جملة خارجية وهي قول لابن الفارض، ومؤكد هي ترتبط ببؤرة السرد على الأقل من احد جوانبها، ومن ثم كان هناك تقديم، والتقديم أشبه بخارطة غريبة في روايات غيرها، وكذلك فعل مرتضى كزار في رواية السيد اصغر اكبر، حيث تواجهك خارطة لمدينة النجف، بعد مدخل خارجي استعاره الروائي، ومن ثم بدا المدخل الداخلي (نحن، معينة ونظمة واوحدية بنات لسيد خنصر علي، وحفيدات السيد اصغر اكبر)، وان المفردات الثلاث هن ذات عنوان الرواية، وان كان الورود سياقيا فهو طبيعي، واما ان كان تقنيا فذلك يحسب للكاتب، ورواية التشابيه لداود سلمان الشويلي هي أيضا توظف إطاراً فنياً في الاستهلال، ومؤكداً لهدف هو دعم رؤية الكاتب ومنظوره الأساس، والرواية تبدأ من مدخل ممكن أن يكون خارجيا حسب مفردة الإشارة الأولى التي يبدأ بها المفتتح، ومؤكد مفردة (تنويه ) ذات مدلول.
لكن هو إشارة قبلية وليست ضمن المتن الروائي، وهذا تأكيد طبعا على أن المدخل خارجي إذا ارتبط المدخل بدلالة المفردة ومضمونها، أما إن كان داخليا، فهو يرتبط بمحتوى الأداء الإيهامي بأن الكاتب هو مدون لأحداث مدينة وأبعاد تلك المدينة العقائدية، واعتقد أن الكاتب قصد أن يكون المدخل داخليا، لكن كتب اسمه الصريح ليؤكد فيه موقفه الشخصي (إليك يا من سألتني أعزك الله ما كنت ترغب بقراءته من صفحات عن الأيام الخوالي)، وحسنا فعل أن وسع مساحة الوصف ليتدرج نحو الإشارة لموقف كذات اجتماعية تروي أحداثاً مرت بها مدينته.
هناك روايات أخرى يتمثل فيها البعد الفني، لكن في إطار الحوار الذي تبدأ به تلك الروايات، بدل الوصف المعتاد، وطبيعي أن نرجح الحوار باعتباره يعد بعدا فنيا، ومؤكد هو جزء من التخطيط الأولي، وكذلك يمكن اعتباره تجديداً في مضمون الاستهلال، ومواكبة ذلك المصطلح في طور التطورات الإجرائية التي مر بها، وطبيعي ان مفردة ( مدخل ) تحمل في ثناياها مدلولاً يؤكد بعد المعاصرة .
إن روايات لمحمد علوان مثلا وشوقي كريم وحميد الربيعي وسنان انطوان ومحمود سعيد، هي في إطار استهلال مختلف أسميته الاستهلال الحواري ، حيث ان روايات ذاكرة ارانجا وفضاء القطرس وتعالى وجع مالك ويا مريم واسدوران وروايات أخرى، تبدا بمفردة أو بجملة حوار، وطبعا هذا نسق جديد قلما تجده.
لكن ليس عيبا أن تبدأ الاستهلال الروائي بحوار، ولا اعتقد ان الكاتب سيدع المتلقي يسقط بعد عتبة الرواية، واعتقد تلك الصيغة صعبة نوعا ما، لكن إن وجدت جودة في الانتقال وآلية منظمة، لا ريب أن الرواية ستنمو تدريجيا كما معتاد في الاستهلال التقليدي، بل ربما ستضفي على متعتها متعة أخرى.