ادب وفن

قراءة مجاورة لــ «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» .. القسم الأول / مقداد مسعود

في تتبع الحالة التي أنتجت مثقفين في بلد لا يشكل متعلموه إلاّ نسبة ضئيلة من السكان كما كان عليه العراق نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تصبح فعالية هؤلاء محصورة في مجال ضيق، ولكن مساحة فعلهم تتسع لتشمل ميادين صناعة الأدب والفن إلى بناء المؤسسات والقيم الجديدة / ص55
(*)
أرى في هذه الوحدة السردية الصغرى، خلية موقوتة في غاية الخصوبة، فيها يتجسد الدرس السوسيولوجي العميق الراصد للتحولات الثقافية لعراق نهاية قرن وبداية قرن آخر وستتحول هذه الخلية الموقوتة خيمة معرفية على مدى (455 صفحة ).. وسيكون لها تسعة أوتاد مفصلية..
(*)
في (تمثلات النهضة..) تستعمل الباحثة العراقية فاطمة المحسن حنينها إلى (أول منزل)، استعمالا معرفيا، وهكذا تنجو من مفهوم (تثبيتات السعادة) الذي أشار إليه باشالار في كتابه (شعرية المكان). وهنا التساؤل هل (المكوث في الخارج .. يحمي فعل الكتابة من ذات الفنان... وذوات لا يستطيع التماهي معها بل يجد نفسه باستمرار في حالة غربة أو في سؤال مقلق عن وجوه الاختلاف والتنافر ؟ /ص114)(2).. وهل هذا الدرس السوسيولوجي .. هو فقط فاعلية رصد لتحولات عراقية بين قرنين؟ كما تعلن المؤلفة في السطر الأول من مقدمة كتابها: (هذا الكتاب هو قراءة في التحولات الثقافية التي شهدها العراق نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين،ومحاولة للبحث في مقدمات ونشوء النهضة قبل وبعد هذا الوقت /ص7 )، وأي صيرورة حولت غياب الجغرافيا نسقا ثلاثيا مرآويا.. تشقق منه مثنوي اتصالي: (وكل مكان أحل فيه، غدا الأدب والثقافة والتاريخ جزءا من هذا الإحلال والإبدال. مهمة تشابه الوقوف أمام مرآة الزمن والبحث عن تلك التضاعيف التي تخفي الباب المفضي إلى طريق العودة ).. ألاّ تحتوي الكتابة في سيرورتها، تعويذة سحرية،مزدوجة الفاعلية؟ إختزال/ اختراق
لجهامة الجغرافيا وشروطها الواخزة..بالأدب نقشر الزنجار
عن اليوتوبيا. ونحصل على وطن بنكهة أليفة .. ونديم كرنفالنا بالحياة، حتى ونحن نوقد شمعاتنا في الشاطئ الثاني من الوجود.. فالغراب لا يحذفنا من الحمامة.. لأن اللسان وهو ثابت في الفم، سوف يتدفق في رعشة الأصابع المتفكرة وهكذا ربما يكون تكلّم النص.. من هناك إلى هنا.. وحسب الباحثة (الأدب كما هيئ إلي، هو التخفف من عبء المكان، فعندما تكتب تكون في كل الأماكن، بما فيها مكانك الضائع،فالكتابة هي الحيز الذي لا يطردك منه سوى الموت /ص7) وشخصيا أرى أن الكتابة تقهر الموت نفسه، وستحصل الكتابة على حيوات أضافية من خلال تحريك سيرورتها عبر إعادة إنتاجها في أفعال سرد المتلقي....
(*)
هذا الدرس السيسيولوجي، المنكتب تمثلات نهضوية ثقافية حداثية ضمن (الوجود القلق لفكرة الوطن/ ص7) ألا يمكن اعتباره ردة فعل معرفية، أو محاولة صيانة الذاكرة العراقية من رمد الرؤية بسبب تشتتها..من هنا يأتي دور الباحثة في تفعيل اتصالية تنضيد معرفي من طراز خاص فهو تنضيد مفلتر معرفيا وفق قراءتها للمجهود العراقي الساعي.. الى(إشاعة ثقافة الوعي..لتتقدم نحو خطوة إزالة الاستيحاش بين أطراف العراق الممتد قوميات وطوائف وأديانا.../ص373)..
(*)
في نقده للخطاب العربي الراهن، يركز المفكر سمير أمين على (إظهار التباس المفاهيم المستخدمة في الخطابات السائدة مصريا وعربيا وعالميا /ص7) وينفي أمين البراءة والموضوعية والحيادية من المصطلحات الإجتماعية ص141 (3)، إذاً كل مصطلح اجتماعي يومئ لأيديولوجيته، فمفردة اضطهاد تنتسب للفكر الماركسي.. ومفردة: مظلومية تنسب للفكر الشيعي.. كما أن مفهوم (مجتمع مدني) ينتسب لأيديولوجية التوافق الأمريكية... وحين يذكر الملك فيصل الاول في خطاب العرش 1921 مفهوم (الأمة العراقية) فهو يحدث انزياحا دلاليا، لمفردة (الأمة) بنقلها من حقلها الروحي المتداول إسلاميا إلى حقل واقعي جديد، فقد استعمل من أنتج للملك خطاب العرش..(المستوى الرمزي لإنتاج المعنى المفضي إلى تحديد الهوية،حسب أحد تعريفات الثقافة/ ص25).
وفي عام 1923 يثبت في كتابه محمد مهدي البصير (تأريخ القضية العراقية) مصطلح (الأمة العراقية) على نحو متواتر..
والمؤلف من قادة ثورة العشرين ،ورغم ان البصير لم يستعن بالنظريات الحديثة في قراءة الأحداث، غير أن النزعة الليبرالية الموضوعية..تدفع إلى الاعتقاد بأن الكاتب قد تجاوز المنهج المثالي في الدرس التاريخي كما ترى الباحثة / ص160.. ومن جانب آخر لم يكن في وارد المثقفين تحديد مفهوم واضح عن (الأمة العراقية) لكن انبثاق الوعي بالتاريخ العراقي المعاصر وبأهمية الحدث القريب والثورات والانتفاضات التي سبقت تأسيس الدولة ورافقته يحمل في منطوياته مشروعا حديثا يعتمد تكوين صورة عن العراق ككيان موّحد/ ص160
(*)
سينتقل مفهوم (النهضة) من حقله الأدبي والفكري المحصور بين نصوص الكتّاب ووجدانهم واجتهاداتهم إلى الحقل السياسي وخطابه الذي يرتبط بالثورة/ ص27...وهناك من يمارس قسرا معرفيا مع المفهمة كما فعل محمد بهجت الأثري،في تأليفه..(محمود شكري الآلوسي وآراؤه اللغوية/ إصدار جامعة الدول العربية/ القاهرة/ 1959)، فقد جعل صناعة الثقافة تعني الثقافة الإسلامية وأستثنى الشعراء والناثرين في تلك المرحلة من غير رجال الدين أو الذين لم تكن ثقافتهم أسلامية ووضع الموظفين والضباط في مقدمة منتجي الثقافة الجديدة؟! وهي ثقافة كما يقول مغتربة عن العراق العربي وتعتمد على اللغة التركية أما رجال الدين فيمثلون ثقافة أسلامية محافظة ص58..على ضوء أطروحات الأثري، ترى الباحثة فاطمة المحسن أن الأثري
(يصف الجانبين من خلال مصطلح لم يكن متداولا في الزمن الذي يكتب عنه (تقصد الباحثة زمن محمود شكري الآلوسي(1857-1924)..) .. اذاً على مرويات الأثري تتشكل (قراءة تحدد اتجاهات لما ينبغي أن تكون الثقافة أو لا تكونه وهي تعني قبل كل شيء إعادة تعريف النهضة في سياق تحديد مفهوم المثقف/ ص59).. انه تنضيد تشدد أصولي يفعّله الأثري لحقل الثقافة.. وشتان بين من يرى الحدث ويشارك فيه حد المكابدة ،وبين من يأتي بعد فاصلة زمنية ويكتبه دون مرونة، ويصادر تجربة الأول وهنا تعقد الباحثة المحسن مقارنة بين محمود أحمد السيد وبهجت الأثري (إن السيد وهو يدون مروية الثقافة يكتب تاريخا كما رآه في العام 1922،في حين يسجل الأثري التاريخ الواقعي نفسه ولكن في العام 1958، وهكذا يكون بمقدور محمد بهجت الأثري إعادة تركيب وترتيب النماذج الثقافية الفاعلة ،كي تناسب كل المسيرة التي قطعها هو،وبهذا أستطاع استعادتها من السيد الذي كان قد أعتزل الكتابة في الثلاثينيات ومات في 1937/ص63).
من هنا تكون لفاعلية المفهمة دورها النشط في (تمثلات النهضة..) وحسب قول الباحثة.. (حاولت ضمن هذا المسعى، الاقتراب من بنية هذا الشكل في مقولة النهضة، لا صيغتها النهائية، فهي مشروع يحمل من التنوع ما يؤهله جميع صيغ الأزمة التي تتقاطع عند تخومه: ماضيه وحاضره ومستقبله /ص8)
(*)
مفردة (النهضة) كمفهوم، تقودني إلى ثريا كتاب يشتغل على الفضاء ذاته،أعني (النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث) للناقد الدكتور غالي شكري (4). والكتاب كما يؤكد العنوان الفرعي له: (دراسة نقدية مقارنة بين عصريّ محمد علي وجمال عبد الناصر) ويعلن غالي (هذا العمل هو محاولة الكشف عن أبعاد الظاهرة الجدلية في تاريخ الفكر العربي الحديث - من داخل زمان اجتماعي ومكان تاريخي وعينة نموذجية ظاهرة النهضة والسقوط/ ص12) أما هدف الكتاب فهو كما يؤكد غالي (أما الهدف فهو استخلاص القوانين الاجتماعية الثقافية المضمرة في ظاهرة النهضة والسقوط ، فالوعي بهذه القوانين قد يساعد العقل العربي على ابتداع مقولات جديدة من شأنها تثوير النهضة واستمرارها..)
(*)
تعلن الباحثة المحسن في السطر الأول من الصفحة الأولى
(هذا الكتاب هو قراءة في التحولات الثقافية التي شهدها العراق نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومحاولة للبحث في مقدمات ونشوء النهضة قبل وبعد هذا الوقت/ ص7).. هنا سوف أقرأ مفهوم النهضة من خلال ما طرحه المفكر الشهيد مهدي عامل (5)الذي يرى أن البرجوازية الكولونيالية في العالم العربي هي التي استخدمت هذا المفهوم أي مفهوم(النهضة) لتدل على حركة فكرية ظهرت، بشكل عام في النصف الأول من القرن التاسع عشر،أي في الشروط التاريخية نفسها التي بدأت فيها عملية تكّون تلك الطبقة المسيطرة،والحركة هذه هي حركة فكرها بالذات التي أرادت لها أن تكون مماثلة لما كانت عليه حركة فكر البرجوازية الأوروبية في بدء نهضتها في القرن السادس عشر، أذاً هي ولادة فكر البرجوازية الأوروبية الناهضة وهي الولادة الجديدة للفكر بولادة فكر البرجوازية نفسه،ومن باب التماثل فالنهضة العربية في العالم العربي هي أذاً ولادة فكر البرجوازية الكولونيالية! والتساؤل هنا من إنتاج مهدي عامل :هل كانت ولادة فكر هذه الطبقة ولادة ثانية للفكر العربي،أي ولادة فكر عربي جديد؟ وكيف تمت هذه الولادة؟ أن الفكر البرجوازي الأوروبي ان وجد عبر القطع المعرفي مع الفكر الإقطاعي الذي سبقه..على مستوى بنية المجتمع العربي فكلمة نهضة لا توحي بما توحي به كلمة (الولادة الجديدة) التي هي جديدة لأنها ولادة شيء جديد. وكلمة الإيحاء هنا تعني ان النهضة كمفهوم حسب مهدي عامل يوحي بما فيه وبما تضمنه. أي أن المفهوم يدل بهذا الإيحاء منه على ما يحمله من واقع ينقله إليه في تكوّنه كمفهوم.وفي مفهوم النهضة ليست ولادة شيء جديد بل نهضة الشيء نفسه الذي عليه أن ينهض من ركود أو خمود هو فيه أو هي النهضة بالشيء هذا، بمعنى ان شيئا آخر عليه أن ينهض به، وهذا هو بالضبط، ما حصل في نهضة البرجوازية الكولونيالية بالفكر العربي- ص166-167.