ادب وفن

السؤال الروائي.. الاعتبار والموقف / محمد يونس

إن التجربة الثقافية وبكل أبعادها تثير تساؤلات عدة على أكثر من صعيد، وكان أهم هذه الصعد، هو السؤال في إطار إنسانية ذات المثقف وبعدها الاجتماعي، وهذا السؤال أدبيا حقيقة غير متكشفة بوضوح، إذ بقي المثقف العراقي، في أكثر الأزمنة بوحا، متكتما على مهام عدة في درايته، أن الظرف المابعدحداثي، يكون منتجا في بلاغة مقتدرة لأجرأ الايروتوكيات ويطري على البوح وصفة بلاغية، فمثلا (في مديح زوجة الأب) لا يمكن أن نقول، إن الرواية كسرت حاجزا أخلاقيا عبر البراعة الفنية المقتدرة، إننا سوف نتهم كاتبا دافع عن أخلاقيات الكون، بل وحتى النص، ولكن بأية مقاييس معرفية نتهمه، دون أن نعلل تطرفنا إزاء حالته المتقدمة حضاريا على وعينا وإنسانيتنا؟
لا ريب أن هناك توازيا منطقيا بين ثقافة كل عصر، وطبيعة الشكل الاجتماعي، وهل نملك إزاء (جان فال جان) اية مقومات تفسير عبر أخلاقياتنا الاجتماعية؟، لا ريب اننا في ظرفنا الحالي نجده حالة متقدمة إنسانيا، فيما شاء الشاعر والكاتب الفرنسي الكبير (فيكتور هيجو )، ان يلقي باللائمة على طبيعة السياسة المعاصرة حينها، كنوع من الاحتجاج عبر مديات النص لأنها أبلغ تأثيرا واشد قوة في الإقناع، نعم فالطبيعة البشرية مجبولة على الانسداد إلى الحكاية، ونحن ما زلنا نستذكر (حكايا جدتي) بطابع القص الارسطي، وليس بالطابع النقدي السديد.
قبل قرنين من الزمن كانت المأساة الإنسانية أبلغ من أن تعاش، فتروى أو تسرد عبر مباني الحكي، فكان ديستوفسكي يثير ما يمكن أن يكون احتجاجا بليغا عبر بطل رواية (الجريمة والعقاب) الذي جعله كأنموذج عبر «راسكالينكوف» المتطرف إنسانيا، بإشارة واقعية لا غبار عليها، وقد أضحت في ما بعد من أقوى المصادق على انتهاك الإنسانية بسبل معيبة، وكأن عدم الموازنة صفة الكون الأساسية ويجب على الجميع ان يقنع بذلك. لا شك ان ديستويفسكي كان يشاطر فيكتور هيجو الرأي، وقنع أن يبث سؤاله الإنساني عبر أبطاله وبعدها لا يندهش للنتائج، واذا كانت إدارة ظهره للعالم بشكل غير مبرر، دفعته إلى ما يسميه العالم في منظاره جرما، ولكن اعتى الآلام ستعصف هنا بحياة الكاتب، وهذا ما حصل، إذ أضحت حياة ديستوفسكي تجربة أخاذة من عدة أبعاد. وأجابت الحياة عن سؤاله بذلك القدر المأساوي الذي أطر حياته في ذلك الوضع السياسي القائم ومحاولته كفرد اجتماعي له ميزته الثقافية التعبير عن مخزونات عدم الرضا.
فكان ذلك عبر رواية مدام بوفاري لغوستاف فلوبير الروائي الفرنسي!! والتي كانت بتفاصيل واقعية تعطي صورة مرئية عن الاجواء الداخلية لشخصياته التي عكست الشجاعة الأخلاقية للكاتب، وبررت عبر بطل الرواية، لتؤكد ان المرارة هي سمة الكاتب، لكن ذيقت عبر البلاغة الأدبية، لذا كان امتيازاً للثقافة وللكاتب في آن، إذ غمز للحياة بطرف خفي، مشيرا لعيب كبير يقنع به المجتمع دون إرادة منه، بقناعة اضطرارية، هي انهزام متخف، لعبته الرواية عبر هذا الإطار بدور كبير وهام ، رغم ان الكثير منها هي أزمته غير المقنعة لتحقيق احتجاجه الإنساني، الذي أثاره عبر سؤال، كان أحيانا ينزف دما، فمثلا (لاعب الشطرنج ) الذي جعله ستيفان زفايج مثالا تقليديا لهروبه من الحرب لكنه جرده من هاجس الانتحار، وجعله يعيد صياغة العالم المضطرب، عبر رقعة الشطرنج، فكان يدرك أن البراءة التي حاول أن يواجه العالم بها، لا تكفي في كل الأحوال، فانتحر زفايج احد أعمدة الفكر العالمي في القرن الماضي، لأنه أدرك أنه وهم كبير.لقد كانت مأساة انتحار الكاتب الكبير، اشد تأثيرا من بطل لا مسمى على ظهر سفينة ينتصر للإنسانية بهزيمته المريرة.
كان كامو كذلك قد جعل من «ميرسو»، يدخن بدله، وان اضطرته الظروف، التي تحقق ذلك عبر اللا مكانات، فيدخن في إطار ساخر من الكون، ومعتبرا الشكل الوجودي حالة قصوى دون تقنيات أو ارتباطات، لذلك الألم الذي اشترك في التعبير عنه الكاتب «لعربي ابيض»، لكنه خجول على مستوى النص، إذا استثنينا، محمد شكري الذي يكتفي بأن يرى الأشياء ولا يعبر عنها، فكان في أسلوب مغاير في طابعه السردي، أي كان عاريا حتى من ورقة التوت، ولا يملك لعالمه الفاسد أي عزاء، كونه افتقد أي خيار وجودي، ولابد للنص في هذه الحال من مقومات إقناع في كل المناحي، ولا يمكن له تبرير سؤاله الأخلاقي، دون معايير بناء محكم في المنطق الاجتماعي للنص ، وهنا تكمن قوة سؤاله وجرأته وسمة شجاعته الأخلاقية، في كيفية البناء المحكم، وكذلك ميلان كونديرا، الذي يقر بأنه يلبس رواياته بنطاله، بنطال الاغتراب والهم السياسي والإنساني، فصاغ سؤاله الإنساني عبر فهمه كمثقف للحياة، وجعل طابع ثقافته سمة سردية، فكان قي غاية الإثارة والإمتاع، مؤكدا في أحد العناوين في رواية (الحياة في مكان آخر) ، وكان آخر الأسئلة المثارة على مستوى الرواية، ما يمكن ان يكون اشد قلقا وخوفا من الوضع البشري، والسؤال الذي حققته بلاغة نابكوف في روايته (لوليتا) المتفردة هو الأنموذج الروائي، قيمة وأهمية وميزة جمالية واعتبارا حسيا.
في إطار إمكانية التجدّد الذاتي، اعتقد هناك قوة روحية بلورت تلك البلاغة، وكان نابكوف في بلاغته هو مثال الروائي متوقّد الاجتهاد وانفعالي السؤال، وقد جعل من موضوعة الجنس بصيغتها غير الطبيعية بين شخص ناضج وواعي وله حكمته وبين صبية انفعالية ولا ترى الأمر بوضح أو توازن ولا تهتم في انفعالها إلا غايتها، و لم تتأثر القيم الاجتماعية بالصدمة الحادة، وأيضا كان «دوس باسوس» الذي يعد أحد أهم روائيي أمريكا في بدايات القرن الماضي، بلغته الروائية الشيقة وبمستوى بلاغته الرصينة، وكان المشهد الروائي لديه لا يتكرر، بل يتبدل وفق ما يعطي للرواية قوة تشويقية، كانت حينها تعرف بأنها من الأمور المهمة، وقد برعم باسوس في ثلاثيته الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت مثال أمريكي لحجم رواية قريبة لرواية بروست، وتعد روايته من الأعمال المهمة ليس على مستوى أمريكا فقط، بل تعدتها إلى البلدان الأوربية، وكانت براعة باسوس في نقده للحرب عبر سؤاله الروائي البليغ بعد ان عايش الحرب العالمية الأولى والثانية، وقد أثرت السياسة على قيمته الإبداعية، وعصفت به الصراعات السياسية، وكان يميل لصالح موقف الإنسان، بتعبير ان الرواية قد تحطم حواجز لا يستطيع المجتمع تحطيمها، وهذا ما مضي عليه كونتستان جورجيو في روايته (الساعة الخامسة والعشرون)، والتي تعني ان الساعة الزائدة عن ساعات اليوم الأربع وعشرين، هي ساعة أمل، لكن لا سبيل للتعبير عنها غير ان يتضمنها سؤال الرواية، وما أبلغ من سؤال رواية يجبر بطلها مورتز على الابتسام قسرا؟