ادب وفن

أوراق سيدة الشجر.. المكان و سيرورة السرد / عبدالعزيز لازم

يواصل عبد الزهرة علي استثمار العناصر المادية للمكان لتخليق السرد في روايته التي تضج بصخب الأشياء والتجاويف المكانية في موازاة صخب الصراع وعنفوانه.
لقد لعب المكان على الدوام دوراً مركزياً في احتضان البناء السردي في العمل الروائي، و تعد أولى وسائل بناء دوره في السرد ، قدرته الإضافية على احتضان الزمان أيضا بنوعية الزمن الفعلي والزمن الفني «لم يكن بيني وبين الذئب إلا لحظة امتدت امتداد العمر» الشخصية الرئيسية سلمى قالت هذا الكلام وهي تواجه الجلاد في الأمن العامة ص 55 . فمن النادر ان نتعرف على الزمان الا بمقدار تأثيراته على المكان نفسه ولو حصل عكس ذلك فلا بد للكاتب ان يلجأ الى التقرير للتعريف بالزمان وهو أمر قد يبعد العمل عن الجهد الفني الصعب والمدهش. ان مساحة المكان تتمثل في ثلاث حواضن الأولى هي اليابسة والثانية المياه والثالثة الهواء ويوجد اضافة الى ذلك تفرعات مكانية نابعة من هذه الحواضن الثلاث وهي تشكل أنماطاً من المستودعات القادرة على اختزان هموم الشخصيات وشواغل الثيمة، بل ومجريات الصراع الذي هو العنصر الرئيسي المحرك للأحداث. ان هذه التفرعات المكانية يمكن تقسيمها الى قسمين رئيسيين الاول: هو التفرعات المكانية الثابتة كالمدرسة والسجن والنهر والتنور والحائط والمياه الجارية، الشوارع والحافلات، والمرافق الصحية، فراش النوم، الزنزانة ،المحلة ،الحدائق، ساحة المحكمة، باحة السجن.. الخ.أما الثانية فهي التفرعات المكانية المتحركة كالحافلة، السيارة، جناح الطير، حركة الطيور والحمام، حقائب المدارس، التابوت، وحل الشوارع، الكرسي، المصباح ساحة المحكمة. ان هذه الأمثلة مأخوذة من الرواية نفسها.
ونضيف إليها نمط من المخلوقات والحالات السردية التي هي ليست بالمكان ولا الزمان لكنها ذات تأثير عظيم على تصرفات الأشخاص وتحريك اتجاهات السرد وتعرجاته، وهي ذات تأثير حاسم في خلق الأجواء النفسية للشخصية مثل البقرة والحصان والعصافير، الورد، أنواع الطيور، تقلبات الطقس.. الخ.ان من هذه المخلوقات ما ينطوي على طاقة رمزية رئيسية لتكثيف المعنى وتعميق الدلالات التي تبثها الرواية.
المزاوجة بين الريف والمدينة
رسم الكاتب علاقة جغرافية محسوبة بين الريف والمدينة فالقرية التي ولدت وترعرت فيها الشخصية الرئيسية «سلمى» واقعة على تخوم المدينة وتمتد بشكل قوسي وكأنها تحتضن المدينة رغم هيمنة الوجود المادي للمدينة. لكن القرية واصلت امداد الشخصية الرئيسية بالشحن الوجداني المتصاعد وهي تواصل رسالتها النضالية ضد جلادي الديكتاتورية.يبدأ السرد بتجديد هويته من العنوان الذي هو من المكونات المعنوية للمكان «أوراق سيدة الشجر» وهو تدبير خاص يحمل معاني رمزية يرمز الى الشخصية الرئيسية وهو يحمل التشبيه المنسجم مع ثنائية الدال والمدلول «الغلاف..» ان سيدة الشجر هي سلمى والأوراق هي الفصول الثلاثة والعشرون التي تتكون منها الرواية، فقد فضل الكاتب ان يطلق اسم الورقة على الفصل الواحد. الشجرة من الناحية المادية تحمل اوراقاً، لكن المعنى المادي للأوراق حمل تفجراً انقلابياً محولا الأوراق الى فصول يتكون منها المتن السردي، أما الشجرة فهي المرأة التي تمثلها الشخصية الرئيسة كما جاء في الصفحة 115 على لسان محمود زوجها الثاني والأخير.ان سحب معنى الشجرة على المرأة المناضلة يؤسس لحقيقة سردية مفادها ان الرواية برمتها هي انتصار لقضية المرأة بشكل عام وتمجيد لدور المرأة المناضلة بشكل خاص، فلدينا سلمى وسميرة وفريال ومحاسن ولينة محمد وهناك انتصار المنكوبة وهناك العلوية التي لا تكف عن البسملة. وكن يمثلن المكونات الاجتماعية العراقية، بل وهناك اخريات يمثلن احزاب المعارضة الاخرى، فضلا عن الحزب الشيوعي الذي تنتمي اليه سلمى، كما ان هناك نساء بريئات مما نسب إليهن من تهم، وهذا الظرف الاستبدادي كان سائداً في فترة الحكم السابق.يتسم المكان في «أوراق سيدة الشجر» في اولاً: يحمل روح الاشياء والناس ففي الصفحة 76 تتحدث سلمى عن غرفة الضيوف التي كان باسم حبيبها وزوجها لاحقاً يجلس فيها: «بعد ان شممت رائحة المكان الذي كان باسل جالساً عليه. انتهيت الى القناعة بأن قدري كان مكتوباً.. لم يكن ثمة مهرب منه» .فبعد ان تعرضت سلمى للتعذيب والاغتصاب من قبل جلادي الأجهزة الأمنية، لم تنكسر عزيمتها في البقاء امرأة تنبض بالحيوية وأنها إنسانة قبل كل شيء فاكتشفت ان قلبها كان ما زال ينبض بالحب. وكان المكان جاهزا لاحتضان هذه الحقيقة. حصل هذا في بيت سلمى الذي زاره باسل الشهيد وحصل الوضع الآخر في مقر جريدة «طريق الشعب» الذي شهد مقدمات الارتباط الاجتماعي بأحد المناضلين العاملين فيها.
ثانياً: يواصل وجوده المادي اليومي في حياة الشخوص، وليكون ميداناً شاهداً على احداثهم. سواء تلك التي يصنعونها هم او تلك التي يكونون ضحايا لها. او تلك التي يكونون هم شهوداً عليها، بل وتشكل جزءاً من همومهم وشواغلهم، ففي ص79 هناك وصف جميل لشارع عشرين في منطقة البياع يعطي صورة عيانية دقيقة لحالة الحصار التي عاشتها البلاد والمدن العراقية في ظل النظام السابق.ولدينا في ص 66 وصف المعتقلة «شيرين» الكردية لواقع عراقي متشح بالفنتازيا المرة وهو يؤسس بناء حكائياً مستمدا من حكايات الف ليلة وليلة، يمكننا ان نطلق على المشهد عنواناً بالغ الطرافة بما ينسجم مع أجواء الليالي العربية التي كان ميدانها بغداد وهو عنوان «القائد بين فخذيها» فتلك المرأة كانت تخيط ملابس داخلية من أقمشة اليافطات الحكومية والحزبية التي يجمعها زوجها في الليل في الشوارع دون ان يعلم العسس والمخبرون، وكانت تلك اليافطات مليئة باسم القائد الضرورة وشعارات حزبه وربما صوره ودون ان تقصد شيرين او تدري ارتدت سروالا داخليا مخاطاً من قماش يحمل اسم ذلك القائد وربما صورته، فعندما دفعها الجلاد بقوة ارتمت على الأرض رافعة ساقيها الى الأعلى وبان اسم القائد هناك فكانت الكارثة فصاح صيحته تلك «القائد بين فخذيها» فأخذ الجلادون شيرين وزوجها الى أقبيتهم الرهيبة حيث اعدم الزوج وبقيت شيرين تعيش عذابها بعد ان اكتشفوا ان اسم القائد كان مركونا في لباسها الداخلي .
ثالثاً: يواصل المكان تفرعاته المتخيلة في أحلام الشخوص فيصبح الحلم هنا حاضناً مؤهلاً لاستخلاص ذروات من الشجن والمعاناة التي تسحق الشخوص الذين يتعاملون مع الشرك الذي يتحركون في تلافيفه. كانت سلمى تواصل تلقي السياط المعنوية الوعرة فاستيقظت متأخرة في ذلك الصباح الذي كان عليها كتابة الورقة السابعة ص 54، فتصف كابوسها بالقول: كنت هاربة في درب طويل يفضي الى صحراء مترامية. درب ترابي متعرج يتيه فيه كل من سلكه وهو يصعد نحو ربوة عالية.. الخ في هذا الحلم يتراءى لها ذئب قريب تحاول التخلص من خطره فترميه بحجر الا انه يواصل ملاحقتها لدرجة الانقضاض عليها، فصرخت مرتعبة دفاعاً عن نفسها. الا أن الواقع هو ان الذئب ممثلا بالجلاد (سامي) قد استطاع افتراس عفتها دون ان يتمكن من افتراس معنوياتها فواصلت السير في الطريق الصعب من أجل قضية اكبر من الذئب وأعلى من عوائه الإجرامي.تحاول الرواية إقناع المتلقي بأن الحوادث التي غطت المتن السردي مستلة من الواقع العياني وقد نجحت في ذلك بكفاءة عالية من خلال منهجين مهمين في ذلك، أولهما اتخاذها أسلوب السيرة الذاتية وثانيهما استخدامها التوثيق لإثبات ان ما حدث يؤكده الواقع الصارم، فواقع تعرض السجينات المناضلات لهجوم الجلادين الذي استهدف عفتهن لا يمكن إنكاره من قبل أي متابع او متلقي عاش زمن الأحداث ومكانها. كما ان تقديم وثيقة مصورة في صفحة 14 تضم قراراً جائراً بالحكم المؤبد ضد الشخصية الرئيسية «سلمى» بعد ان حذف اسمها من الوثيقة عزز القناعة الصارمة لدى المتلقي في ان ما حدث ليس محض اختلاق من بنات خيال الكاتب، رغم ذلك لم يترك الكاتب الحقائق الهائلة تجري كتيار الحصى الجارف، بل تدخل بشكل خلاق لجعل تلك الحقائق تبوح بما انطوت عليه من معانٍ كبرى، فرغم ان الشخصيات النسوية في الغالب قد واصلن فرض وجودهن المادي بين الأمكنة السردية وأمام أنظار المتلقي، الا ان الكيان السردي واصل إطلاق بياناته المكونة للمعاني الكبرى الكائنة خلف حركة الشخصيات ومعاناتهن وخلف التقرير الذي اتخذ شكل السيرة الذاتية.
وقد استعان الكاتب في ذلك بإطلاق قصيدة ملتهبة للشاعر المغترب المناضل سعدي يوسف تصف اعتقال الأمكنة الأثيرة واعتقال الوطن:
«حرس على بيتي/ حرس على صوتي/ حرس على حبر الجريدة/ حرس على سجني/ حرس على السجان/ حرس على الزهرة/ حرس على تهويمة الخمرة/ حرس على الغصن/ حرس على وطني».