ادب وفن

اضاءات حول رواية «النبطي» / عباس محسن الخفاجي

رواية يوسف زيدان الجديدة النبطي التي صدرت مؤخرا عن دار الشروق، وتقع في "381" صفحة هي قراءة واستكمال أو مواصلة لما بدأه في رواية "عزازيل" حيث يواصل يوسف زيدان حفرياته العميقة في أديان هذه المنطقة وآلهتها وصراعاتها وصراعاتهم وانكساراتهم وموتهم وانتصاراتهم..الخ .
غطَّت عزازيل صراعات الكنيسة وآباءها ومدارسها ومذاهبها وطوائفها وحروبها وفتنها وذلك في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، ويواصل في النبطي حفرياته لتغطي القرن السابع الميلادي وهي الفترة الأكثر خصباً والأكثر تأثيراً في تشكيل الوعي الجمعي الأعلى للأمة العربية.
تنتهي رواية عزازيل بخروج هيبا هائماً على وجهه قلقاً غير مُحدَّد الاتجاه وتبدأ رواية النبطي من التاريخ والصراعات التي ما زالت آثارها باقية في صعيد مصر وفي الكنيسة المسيحية بكافة طوائفها.
تبدأ الرواية من قرية صعيدية قبطية صغيرة كَفر النملة رحلتها المُضنية في البحث عن الأسئلة التاريخية والدينية والحضارية الكبيرة والتي ما زالت تُغذي حتى الآن حركة المجتمعات العربية وتقلباتها وانكساراتها وهزائمها وأشواقها.. الخ.
رواية النبطي رواية على لسان القبطية ماريَّة أو ماويَّة كما أسمتها أم زوجها النبطية
في حيواتها الثلاث، حيث قسَّم يوسف زيدان روايته إلى ثلاثة أقسام هي:
الحياة الأولى: وتسرد بها ماريَّة حياتها وحياة أهلها في الصعيد في الفترة الانتقالية بين حكم الفرس لمصر وخروجهم ودخول الروم إليها، حيث يصف يوسف زيدان هذه الفترة ببراعة روائية وإنسانية عالية "في هذه الحياة تبرز الصراعات المسيحية بطوائفها ومذاهبها المختلفة، حيث تكون ماريَّة في هذه الحياة على مذهب اليعاقبة".
الحياة الثانية: وتسرد بها ماريَّة رحلة زواجها من صعيد مصر عبر سيناء وأيلة ووادي عربة للوصول إلى مضارب زوجها النبطي سلامة في البتراء، في هذا الجزء تبدأ الأخبار تتوارد عن النبي القرشي وديانته الجديدة ومعاركه وانتصاراته، حيث تلتقي القافلة في الطريق بقافلة لـحاطب بن أبي بلتعة القرشي والذي كان يحمل معه جاريتين هدية من حاكم مصر إلى النبي وهما ماريَّة القبطية وأختها سيرين، في هذه الحياة تبدأ العلاقة بين ماريَّة المسيحية وبين ديانة الأنباط (الربَّة اللات وإيل وذو الشَّرى").
الحياة الثالثة: وتسرد ماريَّة بها حياتها في البتراء "مركز الأنباط" حيث تصف حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم ومساكنهم ونساءهم ورجالهم وآلهتهم وقلقهم وتوزُّع ولاءاتهم "حيث نجد عائلة زوج ماريَّة النبطي موزَّعة في ديانتها فأخوه الأكبر تديَّن باليهودية وزوجها سلامة بالمسيحية وأخوهم الصغير النبي النبطي يبحث عن ديانة إيل وأمهم أمُّ البنين تطوف كلَّ صباح حول تمثال الربَّة اللات"، هذا التشتُّت العميق داخل الأسرة كناية عميقة عن أن العرب ما زالوا مشتَّتين في أناهم الجمعي الأعلى "إلههم الأعلى".
تبرز في هذا الجزء شخصية النبيُّ النبطي كشخصية محورية في الرواية كرمز للتيه والضياع.
وأعتقد أن الحياة الرابعة مُضمرة في الرواية في الفصل الأخير من الرواية الخروج حيث أن هذا الفصل مفتوح على الحياة الرابعة، المُبهمة والغامضة والمستمرَّة حتى الآن.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مجموعة ملاحظات ربَّما تُضيء النص وتمنحنا مفاتيح لقراءته:
أولاً: الرواية قراءة لتاريخ الرسالة المحمدية من زاوية نظر أُخرى غير الزاوية التي قُرئ بها هذا التاريخ، حيث نقرأ رؤية أخرى "قراءة الآخر" لأحداث نعرفها بقراءتنا التقليدية، مثلاً:
1- إخراج اليهود من الجزيرة العربية وقتل سادتهم وسبي نسائهم، ووجهت بغضبٍ شديد من الهودي الأخ الأكبر لسلامة النبطي.
2ـ هدم كعبة اللات بالطائف وقتل كاهنتها الكبرى من قبل المسلمين والذي قرأناه انتصاراً للحق على الباطل تقرأه الرواية من خلال شخصية أم البنين والتي مثَّلت في الرواية شخصية إنسانية مُتحضِّرة وطيبة وذات أخلاق وسماحة عاليتين والجميع يحبونها ويجلّونها ويحترمونها حيث عندما يصلها خبر هدم اللات في الطائف تقوم بأكثر مشاهد الرواية تأثيراً وعُمقاً فتبكي بُكاءً شديداً وتقوم بحركات عصبية وانفعالية وتسقط ميِّتة عند صنم اللات التي كانت تطوف حولها كل يوم صباحاً قبل أن تبدأ العناية بشؤون أسرتها الكبيرة .
3ـ عندما أحضروا بعض آيات القرآن الكريم للنبي النبطي وقرأها وأُعجب بها علَّق: يأتي بهذا ويُسيلُ الدماء.
وفي الرواية أمثلة كثيرة على هذه القراءة المختلفة لأحداث التاريخ.
ثانياً: الحوارات التي دارت بين ماريَّة والنبي النبطي حوارات إنسانية عميقة وواعية ومُدركة لحركة التاريخ والنُّبوة والوحي والآلهة وأبرزت شخصية النبي النبطي بصورة عالية وكشخصية إنسانية ذات رؤية، والرواية بشكل عام تُضفي على شخصيته هالة عالية من الاحترام والحُب وربَّما بقراءة مقارنة مع رواية عزازيل، فالنبي النبطي يمثِّل الموازي الدرامي والمحوري لشخصية هيبا.
وربَّما تُعطينا هذه القراءة المقارنة مفتاحاً لفهم ما أرادت الرواية أن تقوله عن هذا النبي النبطي الذي قال عندما طلبه بنو تغلب ليكون نبياً لهم أن نبوَّته لم تكتمل بعد.
ثالثاً: البعد الآخر والرمزي والأكبر في سردية الرواية هو أن خروج الأنباط للشَّتات كان بقرار من عمرو بن العاص ليكونوا جواسيس له قبل توجهه لفتح مصر، حيث تصف الرواية مشهد مضارب الأنباط الخربة والفارغة إلا من الرِّمال والصحراء والموت حيث هجرها الناس جميعاً إلا ذلك النبي النبطي بثوبه الأبيض تُلوِّحُ له من بعيد ماريَّة وتُراودها نفسها بالهروب من القافلة والعودة إليه لأنه حُبُّها الحقيقي "وهذا يُعطينا مفتاحاً آخر لفهم ما أرادت الرواية أن تقوله حول هذا النبي الذي هجره قومه جميعاً وتركوه للرمل والصحراء وضِباعها ووحشتها وأفاعيها... صورة شعرية عميقة وفي غاية المأساوية، أبدع يوسف زيدان في رسمها كنهاية لهذه الرواية.
رابعاً: وظَّف يوسف زيدان معرفته التاريخية بعمق وذكاء عاليين حيث ربط الأحداث في سرد ماريَّة مع الأخبار التي تَرِد من التجار القادمين إليهم والقوافل المارة بهم، والذي أعطى صورة بانورامية للقلق الحضاري والتاريخي الذي كانت تجيشُ به الصحراء العربية وما زالت.
خامساً: هناك إشارة إلى نسطور الذي أقام بالبتراء في الجزء الأخير من حياته بعد نفيه ومحاكمته واتهامه بالهرطقة وهذا يُعيدنا إلى القراءة التكاملية بين عزازيل والنبطي.
سادساً: هناك ملاحظة ذات دلالة توجِّهنا إلى اتجاه حركة النص وماذا يريد أن يقول من خلال الحوار الذي دار بين سلامة زوج ماريَّة وأخيه النبي النبطي الذي انتقد هذا التديُّن الجديد لأخويه سلامة ومالك "صريع العواتك" وإسلامهم حتى يجنيان مكاسب مالية جديدة من خلال تجارة السلاح والخيول والعبيد.
سابعاً: هناك ملاحظة جغرافية متعلقة بمسار رحلة ماريَّة من صعيد مصر إلى البتراء، حيث تُشير الرواية إلى طريقين، طريق وادي رم وطريق وادي عربة، وتشير الرواية الى أن القافلة التي فيها ماريَّة سلكت طريق وادي عربة وتقول الرواية ص225 و 226 على لسان ماريَّة: فاعتليتُ البغلة وخرجنا باتجاه الشرق ثُمَّ عرجنا شَمالاً.. الخ وأظن أن هذا الوصف غير دقيق جغرافياً حيث أن المتجه من العقبة إلى البتراء عن طريق وادي عربة يتجه شَمالاً أولاً ولمسافة طويلة ويمر بوادي الأُحيمر والذي يحمل في جغرافية وادي عربة ذات الاسم الوارد في الرواية ثُم ينحرف عند وادي النملة باتجاه الشرق ليصل إلى البتراء، وهذا الطريق موجود كطريق معبَّد يربط طريق وادي عربة بالبتراء حتى الآن.
ثامناً: هناك طرح عميق لفكرة النبوَّة ومعانيها في الحوار بين ماريَّة والنبي النبطي ص227 و 228: ماريَّة: سمعتُ من عميرو أنك ستكون نبياً؟ فما معنى النبوَّة؟
- لها معان كثيرة، أشهرها الإخبار عن الإله
- وكيف يكون ذلك؟
- تشعر بالكلام في القلب، فينطق به اللسان
- وما الذي تشعر به في قلبك؟
برقةٍ وأدب ابتسم النبطي فأشرقت من بين شفتيه شمسٌ .. الخ
هذه الرواية ذات اللغة العالية والباذخة والشعرية في مقاطع كثيرة جداً منها تفتح أبواب التساؤلات الكبرى وإعادة القراءة لتاريخٍ موغلٍ في السلطة والذاكرة وبحاجة إلى الحفر عميقاً لرؤيته من زوايا مختلفة وتاريخية لا عقائدية ومنفتحة على الآخر لا منغلقة .
النبطي هي رواية النبي النبطي الذي حلم وكان يحاول أن يكوِّن حلماً ويحاول أن يكون نبياً لكنه لم يكتمل النبطي هذا النبي المهجور والملقى على رمال الصحراء حيث هجره أهله وهاجروا وراء الغنائم والجاسوسية وتجارة الرقيق والخيول والنساء في غلافٍ من رِقاعٍ جلدية طافت الأرض العربية فتاهت وتاهوا وتشتَّتوا وأكلتهم الرِّقاع والصحراء.
إن أهم ما تطرحه هذه الرواية هو النبش والحفر في مكوِّنات الأنا الأعلى الجمعي لهذه الأُمة، المتعدِّد والمُتشظّي والذي تتناوبه عشرات الأناوات العليا الصغيرة عشرات الآلهة بعضها قُتل وبعضها اغتيل وبعضها يُمارس السلطة غصباً وبعضها هاجر وبعضها هُجِّر وبعضها اعتزل الحياة وبعضها تيبَّس ومات وما زالت زبانيته وكهنته تمارس السلطة باسمه .
تطرح الرواية هذا الاشتباك بين الأنوات العليا "الآلهة" والذي لم يتم حسمه تاريخياً
وحضارياً بل قُمعَ هذا الاشتباك بقوة السيف لذلك ما زال الدَّم يجري من هذا القمع حتى الآن.
النبي النبطي، هيبا، هيباتيا، شخصيات أثيرة وعميقة وإنسانية تُمثل الخير والجمال والإنسان الطيِّب الواعي المُدرك لعمق التناقضات وغير القابل لتسطيح التاريخ وهي شخصيات قُهرت أمام جبروت الشر والفساد وهي شخصيات محورية في روايتي يوسف زيدان عزازيل و النبطي.
العبارة الأخيرة في رواية النبطي عبارة ذات دلالة حيث تقول ماريَّة وهي ترافق القافلة المهاجرة من ارض الأنباط الى الشَّتات: هل أغافلهم، وهم أصلاً غافلون، فأعود إليه، لأبقى معه، ومعاً نموتُ، ثُمَّ نولدُ من جديدٍ .. هُدهُدين.