ادب وفن

البحث عن منظور الحرية في أعمال الفنان قتيبة الشيخ نوري / جاسم المطير

إذا كان كتاب الدكتور حمدي التكمجي عن الفنان محمود صبري هو الشكل الثاني لــ "البانوراما الثقافية" المنشغل بها هذا الكاتب، المنطلق لتدوين مراحل حياة رواد العملية الابداعية العراقية، فأن الوثبة الفنية الخيالية، التي اتحدثُ عنها في هذه المقالة هي الشكل الثالث لهذه "البانوراما" التي رائدها الطبيب الفنان قتيبة الشيخ نوري، في حال اعتبرنا ان كتابه عن الشخصية السياسية عبد اللطيف الشواف هي حجر الأساس في البناء التكمجي الشامخ لمستقبل التوثيق العلمي الرصين لمعارف بلادنا، ولأسماء خالدة في الثقافة العراقية الحديثة، كانت قد جوبهت منذ زمن طويل بأحجار ثقيلة لتغطية زمانها وخيالها وأحلامها وفعالياتها الواقعية فأقدم الدكتور حمدي التكمجي، بعمله المتتالي، على زحزحة تلك الأحجار من اجل ان ينتزع بها ومن خلالها الحرية الحقيقية في التعبير، الحالة الأكثر حساسية، التي نحتاج اليها في ظروف المنحنيات الثقافية العراقية الراهنة والأخطار التي تواجهها بالتزييف والتحريف.
الحرية والوطنية

لا حياة فضلى من دون حرية. كما قال صموئيل بيكيت ذات يوم. ها هنا تظهر فرص "الحرية" بجهدٍ عالٍ وبقصدٍ ثوري نبيل بقلم مواطن عراقي، يعيش على ارض ليست وطنه، لكنه يتساوى بأفعاله مع أعلى اشكال الشعور بالوطنية الصادقة، حين يسعى لربط المطالب والمنجزات الفنية والروحية بتطلعات شعبنا إلى مستقبل افضل خالٍ من اي صراخ او عويل او اضطراب او فوضى او قمع او سجون. ها هو المواطن العراقي حمدي التكمجي يثير، اليوم، بوعي حر وبزوايا متسعة جداً، شغف المثقفين العراقيين بصدور كتاب موسوعي رابع. اعني كتابه عن الفنان المسرحي يوسف العاني الصادر قبل اسبوعين، يكتب فيه بحرية عن نجم عراقي ساطع استطاع بفنونه المتعددة وبمسرحياته تشريط المجتمع العراقي الذي شلــّه اضطهاد الدولة وقمعها واصاب مواطنيها بالضعف العقلي والجسدي طيلة اكثر من عشرة عقود عاشها شعب بلاد الرافدين بلا حرية.

المثقف يختار الحرية

يمكنني، أولاً، القول ان موسوعة حمدي التكمجي بأجزائها الاربعة، الصادرة حتى الان، صارت كطائرة بوينج ثقافية، ضخمة في حجمها وهديرة في صوتها، عندما تجوب في سماء الثقافة والفنون العراقية، كاشفة، عن علوٍ شاهق، حقيقة ان المثقف العراقي قد اختار "الحرية" بجميع فرصها المتاحة في ظل ظروفٍ سياسية، صعبة وقاهرة.
يجب علينا ان لا ننسى مثقفاً عراقيا ،مثل المهندس الدكتور حمدي التكمجي، وهو يتجاوز الخامسة و الثمانين من عمره حينما يفكر في انجاز موسوعة عراقية ثقافية فنية كبرى لا بد انه يواجه مصاعب عدة رغم تقدم الوسائل الالكترونية في التدوين والكتابة والطباعة والتصميم، ولو انني على ثقة ان وسيلة التدوين والكتابة التي يستخدمها التكمجي لا زالت من النوع الكلاسيكي "قلم حبر باركر، وورق مخطط ، وحبر اسود.." وقد سألت نفسي كثيراً: كيف استطاع هذا الرجل ان ينجز كتاباً بمستوى فني خيالي يوفر لقارئه نزهة سياحية - ثقافية جميلة ومن نوع خاص..؟
الكتاب الموجود تحت ناظري في هذه اللحظة عنوانه "قتيبة الشيخ نوري .. الطبيب والفنان المبدع". كتاب متميز ومعتمد بوثائقه المتنوعة نظرتُ إليه كجبل ثقافي شاهق سأكون سعيدا حقا حين وصولي الى قمته، أي الى اخر صفحة فيه. انه كتاب من نوع ليس له مثيل في ساحات النشر العراقي ففيه وفرة من المعلومات ورفاه في التلوين وحضارة في التصميم وجمال في الاخراج الطباعي . ربما سوف لن يتوفر لفقراء الناس من القراء الاطلاع عليه لعلو سعره في سوق الكتب لكنه سيكون مفخرة وتحفة فنية زاهرة في رواق النخب الثقافية والفنية وعلى رفوف مكتباتهم . رغم ثقتي الكبيرة الطويلة عن هذا الرجل التكمجي انه كان قد مارس الرياضة الذهنية منذ زمن بعيد لكن بدا لي ان تاريخ تأليف هذه الكتب الاربعة هو ناتج سلسلة من افعال الارادة الحرة المتصلة بإرادة او إرادات اخرى تعاونت مع المؤلف لتثبت حقيقة ان التاريخ العراقي بجميع تصنيفاته انما هو تاريخ فني.
الدهشة والتجربة وأصحابها
يندهش كل قارئ حتما عندما يحتضن بكفيه كتاباً من انجاز الوقت المفيد في التذكير والتفكير والانتقال في سباق مع الزمن العراقي لدراسة تجارب متراكمة لدى العديد من اصدقاء الرحلة الذين حولوا عروق وعرق اجسادهم الى ذرّات نضال من اجل حرية المواطن العراقي، وقد كرس المؤلف جلّ وقته لتوظيفه بصورة كثيفة في الوسط الثقافي العراقي بإطار متماسك. ليس الاندهاش يواجه القارئ من التاريخ العراقي الحسن، المضموم بين كل غلافين مجلدين من هذه الكتب، بل من حسن الألوان الطباعية الزاهية والتصاميم المبتكرة كأنما يراد لهذه الكتب الموسوعة ان توضع في قصر لويس الرابع عشر ذي الالوان الزاهية والتصاميم الفاخرة والطباعة الرائعة . هكذا وقبل ان يكمل اي قارئ صفحات هذا الكتاب ليجد حقيقة مُرّة امام ناظريه مفادها: كم كانت رغبة واهداف الدكتور حمدي عظيمة وكم كانت المؤسسات الرسمية الثقافية العراقية هاربة من واجبها في تخليد وتمجيد مبدعيها..؟ الفرق شاسع بين وطنية وامال حمدي التكمجي وبين خيبة الدولة العراقية التي لا تنطبق عليها صفات الحياة الحقيقية في جميع المراحل التي مرّت بها وعليها.

الفنان في نقرة السلمان

تعرفتُ الى المكتوب عنه في هذا الكتاب "الدكتور قتيبة الشيخ نوري" في اثناء وجودنا معا، في سجن واحد "نقرة السلمان عام 1964" لكن باب التعارف الواسع لم يكن مفتوحا بيننا لكي نصبح اصدقاء في تلك الأيام القاسية، فقد كان قتيبة مشغولا بقضيتين، الأولى تطبيب سجناء مرضى. الثانية انشغاله بمنظور عالمهم السيكولوجي اليومي في نقرة السلمان وانشغاله بتحويل ذلك العالم الى لوحات تشكيلية. بينما كنت منشغلا أيضاً بقضيتين: الأولى قيامي بمهمة تدريس مادة "الاقتصاد السياسي" صباحاً. الثانية قيامي بجانب من تحرير الجريدة السجنية اليومية طيلة ساعات المساء حتى منتصف الليل. لذلك ما التقينا داخل السجن الا بصورة عابرة لكن حتى في تلك اللقاءات العابرة كنت قد أحسست ان هذا الانسان يملك قطباً موجباً من الابداع لا بد ان يأتي يوم يرى فيه العراقيون نتائج هذا القطب. هذا انا من أوائل العراقيين أملك بيدي نتائج مواهب السجين قتيبة الشيخ نوري منسوجة بخيوط ملونة دقيقة زاهية صاغتها يد، وافكار، وصفات وفاء، وإرادة، ورومانسية صديقه الدكتور حمدي التكمجي.
كان الدكتور قتيبة يحقق نجاحات كثيرة في معالجة السجناء المرضى من الشيوعيين والديمقراطيين واليساريين عموماً، الذين حبسوا في أوحش وأبشع وأقسى سجن على وجه الكرة الأرضية، خاصة وان صحراء نقرة السلمان كانت مهباً دائمياً لعواصف ترابية يومية هائلة تؤذي السجناء وتصيب اغلبهم بأمراض الانف والاذن والحنجرة. ليس هذا فحسب بل كان هو أول طبيب سجين يسمح له بالدوام، خارج جدران السجن، في "مستوصف القرية" الذي يديره مضمد. كان قتيبة يقوم بمعالجة امراض سكان القرية من الرجال والنساء والأطفال مما ساعد على ايجاد علاقة ايجابية ناجحة بين السجناء وسكان القرية ، حتى صرنا نسمع بعض السجانة والشرطة يقولون ان سلوك أهل القرية صار مهذباً ومتعاطفاً اتجاه السجناء واتجاه مبادئ الشيوعية أيضاً. السبب الرئيسي في هذا التعاطف يعود الى السجين الذي يحمل حقيبة الفحص والعلاج والادوية من داخل السجن الى خارجه لينقذ ناس القرية النائية من الاختناق. واحدٌ من افراد شرطة البادية قال يوما انه يرغب رغبة قوية في رؤية السجناء جميعهم احرارا للذهاب الى اهاليهم باستثناء سجين واحد..! كان الشرطي البدوي البسيط يفصح عن أمنيته ان يظل الدكتور قتيبة في نقرة السلمان إلى الأبد لأنه "صار واحدا منا ..نحبه جميعا.. نريده ان يتزوج امرأة من باديتنا وينجب أبناً نجيباً لنا"!

كتاب ضخم بلا ملل

من المعروف لدى القراء ،جميعا، ان الكتابات الضخمة يحتمل ان تكون مضجرة ،مثلما الكتابات اليائسة تبعث على اليأس والكتابات المملة تبعث على الملل . لكن الحقيقة أقولها هنا من أمام كتاب "قتيبة الشيخ نوري الطبيب والفنان المبدع" انني ما وجدت فيه شيئا مضجرا او مملا او باعثا على اليأس. ربما هذه نقطة جيدة حفزتني على محاولة جادة لتقليب صفحات الكتاب بدقة، وبنظرة فنية لمعرفة الصلة الوثيقة بين مضمون الكتاب ومنتجيه ومبدعي تصميم صفحاته وغلافه. وجدتُ ان كل من اشتغل بهذا الكتاب إلى جانب التكمجي كان يعي وعيا كاملا مهمة "الابداع" كصفة مميزة له من الضروري اظهارها ، بما يليق بمكانة الكاتب وبمكانة المكتوب عنه. تبيّن لي ان مصممة الكتاب الفنانة التشكيلية العراقية "كفاح الشبيب" تحمل بين ضلوعها ضميراً فنياً متمدناً. وهبتْ وقتها ونشاطها ليس لتحريك العمل الفني الكبير المرتبط بهذا الكتاب بصورة روتينية مجردة، بل كانت بأشد الحرص على ان لا يكون هناك في هذا الكتاب أي خلل. ادركتْ منذ البداية، كما يبدو، ان واجبها يملي عليها ان تأخذ بنظر الاعتبار ان هناك فنانين عراقيين كثيرين من مختلف الاجيال سيعاينون صفحات هذا الكتاب، معاينة دقيقة، أكثر من غيره، لأن نظراتهم ستتركز على نحو استثنائي حول كيفية اخراج اللوحات الفنية على صفحات كتاب بمنتهى الجمال والأمانة ولأن الفنانين القراء سيتملكهم شوق شديد للمعاينة والتدقيق في كل صفحة من صفحات كتاب عن فنان عراقي مرموق في الرسم، وفي الطب ايضاً، وفي الكفاح من اجل الناس العراقيين، عرباً وكرداً، معا. اشتغلتْ كفاح الشبيب لتنفيذ الكتاب بقدرٍ عالٍ من الدقة بعيداً عن الكلاسيكية والفانتازيا فجاء الناتج مزيجا إبداعياً جامعاً ليس منفصلا عن رغبة الكاتب ولا عن روح المكتوب عنه .

الطبـّاع فنان أيضاً

إلى جانب الفنانة كفاح الشبيب التي تحدّت ظروف الغربة ورتابة العمل الفني، الذي تعلق بالعمل الصحافي والكتبي العراقي لزمان طويل مما أدى إلى تراجع آلية الابداع العراقي في تصاميم الكتب ونشرها كان هناك هيثم فتح الله . وقف هيثم الى جانب الفنانة كفاح. هيثم فنان كتبي تربى منذ طفولته وعن كثب، بالقرب من ماكنة الطباعة التي جذبته عن موهبته الاولى الرئيسية اعني التصوير الفوتوغرافي في رحلته نحو الحرية . كانت الكاميرا تنام تحت وسادته كل ليلة لتفتح في صباح اليوم التالي عدسات طريقه نحو "الحرية الفنية" عبر الصورة الفوتوغرافية التي كان يريدها ان تكون واقعية. لكن والده الطبّاع القديم ،صاحب مطبعة الاديب البغدادية، كان لا يريد لابنه ان يبتعد عن ميدان الفن الطباعي وان يكون، هو وكامرته، عونا له في مرحلة كهولته، التي صارت مضجرة من دون ان يكون ابنه وريثا لخميلة الطباعة البغدادية التي أنشأها خطوة خطوة رغم الظروف الصعبة التي عاشها خلال 35 عاما من سيطرة صدام حسين التي جعلته رأسماليا ساخطا يبحث عن "الحرية" في العمل والانتاج الوطني والفني . دوى صوته مع نفسه ومع عائلته في الانتقال الى العيش والعمل في عمان - الاردن للخلاص من دوي صوت اطلاق الرصاص في اذنيه بمنطقة البتاويين ، وسط بغداد، بعد عام 2003 حين اهتزت ومالت ارضها بعبث عصابات القتلة بعد ان اصبحت، هذه المنطقة، فضاء حرا لواقعٍ وحشي خلقته عصابات تنظيم القاعدة وغيرها.
هذا الثنائي الفني "كفاح وهيثم" حققا عقلاً فنياً مركزاً في تصميم كتاب يتناول سيرة حياة فنان تشكيلي عراقي يحتاج فنه كله تكنيكاً فريداً خاصاً في الكتابة عنه، بعيدا عن المأساوية تأكيداً لحقيقة ان الشمس لا تزال وستظل تشرق على بغداد حسب نظرية ورؤى الفنان الطبيب قتيبة الشيخ نوري. الروعة كل الروعة أن يكون مع هذا الثنائي دور للفنان التشكيلي العراقي ابراهيم العبدلي في بناء وتشييد غلاف الكتاب ورسمه ليكون بابا جميلا مرحبا منذ الخطوة الاولى لدخول القراء الى عالم فني جميل.

من هو قتيبة؟

في كثيرٍ من الاحيان يعتقد الباحثون القدامى في الفن وأصوله، أن الرسم لا يغدو جسما متحركا في المجتمع إلا بيد النوابغ من الافراد القادرين على الانتقال بسرعة الضوء لرؤية مراحل التطور الاجتماعي. ربما هذا مبدأ صحيح. لذلك فأن مثل هؤلاء الباحثين يستنتجون نتيجة اخرى هي ليست صحيحة ليقولوا: ان الرجل النابغ لا بد وان يكون من اصول بورجوازية او ارستقراطية . واقعية حال الفن العراقي وتطوره لم تكن ضوءاً من اجزاء البورجوازية العراقية .هذا الاحساس الواقعي ارتكز اليه حمدي التكمجي حين بحث في الاصول الطبقية الاجتماعية للفنان قتيبة الشيخ نوري إذ وجده منحدراً من عائلة متدينة . كان أبوه المتدين ليس متطرفاً ولا عنيداً ولا ثقيلاً على عائلته، بل كان متفتحا يريد لولده ان يكون فعالاً في المجتمع. اختط قتيبة الشيخ نوري لنفسه مواقف تمثل شكلا من اشكال ارتباط شخصيته وتكوينه الفكري مع الوجود اليساري في الحركة الوطنية العراقية. كان اولها وقوفه خطيبا في ساحة السباع برصافة بغداد ليلقي كلمة أمام جماهير الطلبة العراقيين في اكبر اجتماع يساري في العراق عام 1948. في ميسور كلامه اعلن عن تأسيس اكبر منظمة جماهيرية عراقية "اتحاد الطلبة العام". منذ ذلك اليوم غدا قتيبة الشيخ نوري مقرونا بالحركة النضالية اليسارية وبالحزب الشيوعي العراقي ثم اصبح اسمه ملازما لسيرورة حالات القمع والشقاء والاضطهاد في "قطار الموت" وفي سجن "نقرة السلمان" وهما ابشع عنوانين للقهر والقمع استخدمته السلطات الحاكمة لصعق القوى اليسارية في العراق. اعتقل قتيبة بعد انقلاب شباط 1963 لحجبه وآلاف اخرين عن استخدام "الحرية" كوسيلة من وسائل "الفن" و"التعبير".
لكن المؤلف حمدي التكمجي وضع الفنان قتيبة الشيخ نوري على عرشه الفني بعد أن اصبح الفن قضيته الكبرى التي طبع نفسه بها ليصل بأفكاره إلى احترام الذات المبدعة مثلما احترام ذوات الاخرين. كان قتيبة الشيخ نوري يطمح ان يكون فنانا عظيما وقد استطاع "المؤلف المعد" من خلال صفحات كتابه البالغة أكثر من 400 صفحة من القطع الكبير ان يكشف الارادة الحرة لطالبٍ تدفق حيوية ونشاطا في أيام دراسته الثانوية والجامعية حتى صار طبيباً انسانياً ضليعاً وفنانا انسانياً ضليعاً ، أيضاً.

مرحلة الوعي الفني

كشفتْ جهود حمدي التكمجي بعد عملية بحث واستقصاء وترتيب يقظ ان الفنان قتيبة الشيخ نوري استطاع بسرعة ان يجتاز مرحلة "الحرية الفنية" لينتقل الى مرحلة "الوعي الفني" المتميز و العالي . لذلك فأننا نجد في هذا الكتاب - الموسوعة تلويحاً وتلميحاً مباشرين الى الطريق الفني المفتوح ليجعل من قتيبة أحد رواد الحركة التشكيلية العراقية ، وفنانا مبدعا في التصوير الفوتوغرافي، له المام كبير في فن النحت والبوسترات والموسيقى، ثم واصفا اياه انه المثقف الوطني الذي ساهم بشكل فعال في الحركة الوطنية وهو القائل:"لا استطيع ان أعيش على منطق فن واحد".
كان التكمجي قد تمعن جيدا بكل ما يحيط بصديقه قتيبة وبكل ما يضيء سعادته في الحياة وبهجتها حين وصفه بانه فنان ملهم في كل مجالات الحياة، فنان حتى في هندسة بيته وعيادته واثاثه وملبسه واختصاصه. احب الفن والادب والشعر والموسيقى واحب الثقافة الوطنية والفلسفة الانسانية واحب كل ما هو جميل وخير وطيب ومفيد في الحياة.

في ضيافة محمد غني حكمت

اللقاء الثاني والأخير كان في ليلةٍ جمعتني بالدكتور قتيبة قبل رحيله بوقت قصير جدا .فقد كان ذات ليلة في نيسان 1978 ضيفا على محمد غني حكمت في بيته بالمنصور مقابل بيتي. دعاني محمد غني للسهر معه في تلك الليلة. لبيّتُ الدعوة على الفور لأجد قتيبة وجبرا ابراهيم جبرا وضيفة تونسية هي، الفنانة التشكيلية "طِيبة"، كما أتذكر. كانت السيدة غاية الرحال زوجة محمد غني راعية الجلسة الجميلة في تلك الليلة. استمر الحديث عن الفنون التشكيلية في المشرق العربي ومغربه. كما تناول حديث السيدة غاية شيئاً عن الآثار العراقية المتنوعة. في تمام انتصاف الليل غادر الدكتور قتيبة ثم غادرتُ بعد قليل لتهيئة حقيبة سفري إذ عليّ ان أكون في مطار بغداد في السادسة صباحاً مسافراً إلى سويسرا لعلاج عيني.
بعد أيام قليلة من وجودي في جنيف قرأتُ في أحدى الصحف العربية الصادرة في لندن خبر رحيل الفنان الدكتور قتيبة الشيخ نوري في حادث سيارته على طريق الناصرية التي كان يقودها متوجها من بغداد الى الكويت لإقامة معرض تشكيلي شخصي. حزنتُ وتألمتُ كثيرا لفقدان مناضل من زملاء سجن نقرة السلمان. لا بد من القول هنا ان اكثر سجين رسام استحوذ عليه الرسم في نقرة السلمان كان هو قتيبة الشيخ نوري، الذي عبر فيها عن عقيدته الاساسية في مواصلة النضال ضد الظلم والظلام، حيث كانت معاناة السجناء، مادة واسلوباً، لموضوعات رسوماته في تلك الفترة ،مستخدما رموزا عميقة في المزج بين دفء النضال وبرودة ارضية السجن وقد نجح مؤلف الكتاب الدكتور حمدي بتوظيف تلك اللوحات توظيفاً فعالا على صفحاته.

ارتباط الابداع والحرية

في الفصل الاول من الكتاب نشر المؤلف مقالات ومحاضرات الفنان قتيبة المعبرة عن افكاره الفنية وبصيرته التشكيلية مؤكداً حقيقة ان هذا الفنان حمل كاميرته الفوتوغرافية ليعرض بعدستها وبعينيه وبمشاعره نوعاً جديداً من وحدة الموضوع التشكيلي، النظري والعمق العملي الفعال عن نظراته الرائعة بما يتعلق وموقفه من تيارات الفن الحديث وازمة النقد الحديث وعن الفنون الثلاثة: التصوير الفوتوغرافي، والملصق التجاري، والملصق السياسي.
ثم حاول الدكتور حمدي التكمجي في الفصل الثاني من كتابه الموسوعي ان يكشف الرابط القوي والوثيق بين ابداعات الفنان قتيبة الشيخ نوري وقضية "الحرية الفنية" فقد جمع اراء الكثير من النقاد والباحثين العراقيين والعرب ممن سعوا لكشف الاشياء الجديدة التي اضافها قتيبة الشيخ نوري للفن التشكيلي العراقي موحياً ان هذه الاضافة ستكون عاملا مؤكدا من عوامل التقدم في هذا الفن . نشر الدكتور حمدي مقالات وابحاث فاضلة اهتمت بشؤون وعطاء اهم جوانب الابداع في شخصية الدكتور قتيبة. مقالات عديدة بأقلام فنانين ونقاد ممتلئين بالمعارف الفنية من امثال شاكر حسن ال سعيد، بلند الحيدري ،وليد نويهض، رشدي صالح، فيصل سلطان، عبد الله الخطيب، عبد الرزاق حبيب، الدكتور خالد القصاب وغيرهم. كما عرضت الدكتورة سميرة بابان زوجة الفقيد بعض ذكريات حياتهما المشتركة بأسلوب نادر عن العلاقات الزوجية الملونة بأفكار الابداع والنضال.
لا اقول في ختام مقالتي غير حقيقة واحدة هي ان انطلاقة الدكتور حمدي التكمجي من التجارب والحياة الشخصية للفنان قتيبة الشيخ نوري كان هدفها الاول والاخير، ليس تفسير هذه التجربة، بل لجعلها شيئا من اشياء العطاء الثقافي العراقي عبر وسيلة تدوينه تدوينا متطابقا مع الانتاجية الخلاقة للمثقفين العراقيين من الشيوعيين، والتقدميين واليساريين، في مختلف مراحل التطور الاجتماعي في بلادنا.
يظل الجهد المبذول في هذا التدوين مأثرة من مآثر حمدي التكمجي، الرحّال المتعطش الى كشف المجهول في الثقافة والفنون العراقية.