ادب وفن

مساء سيزار».. صباح القصيدة / حميد حسن جعفر

ذا ما كان الثبات قانوناً للتحجيم فان المتغير هو اللاقانون للانفتاح.هل الحياة مفصل ينتمي إلى الثبات، وإذا ما كان كذلك، وان لم تكن كذلك أبداً ؟ فان المظهر/ الشكل لا يمكن أن ينتمي للحياة بالمفهوم السطحي للحياة.وإذا ما كانت الأذن/ الاستماع قانوناً لوجود الاستقبال. فان شطبها واستبدالها بالعين. فان ألاستقبال سيكون للصورة/ المدون.
وإذا ما كان للمهمل نشاط غير معترف به فان المكان بمتغيراته الظاهرية هو الذي يشكل أكثر من مهمل. أكثر من مفصل يحمل صفة الغرابة.
فالعادة/ الاعتياد والتعود على استقبال يومي لمفصل ما سوف يؤدي بالتأكيد الى نسيانه/ الشطب.
إلا أن الشاعر - علي الحسينان- يمسك بكل ما ينتمي إلى المهمل- ضمن فضاء الذاكرة- من اجل فركه. وكما يفعل الاثاري لحظة يضع يده على حجر. وعلى رقيم/ عمله فلا بد من الاستفادة من حك القشرة- غبار أكسدة، تراكمات- وإزالة ما علق بها من رطوبة وإهمال.
الشاعر في - مساء سيزار- يعمل على استغلال قدرة المهمل على التجديد.على طرح حالة أخرى على التأثير على ما يدور في فلكه من كائنات.
***
إضافة إلى صناعة الموجهات للقارىء. وان كانت هذه الدعوات ما هي إلا تدخلات في الشأن القراءاتي الذي سيرتكبه القارئ غير المعلوم.
إلا أن الشاعر هنا لديه/ أو ما يمتلك من مواصفات القارئ ما يجعله يحاول أن يقدم مدوناته وأمام ناظريه كائن ينتمي للقراءة.
من الممكن أن يكون الغلاف- لوحة الفنان العراقي «صدام الجبيلي»، «تحالف مكاني بين شاعر وفنان تشكيلي بصراويين»، معتمداً على قصيدة «الحلزون» تلك القصيدة التي تعتمد التناقضات. ما بين ثنائيات حجري الزهر/ الزارات، حيث الكائن الهلامي بمواجهة الحلزون، حيث القوقعة/ الدريئة. التي تشكل فعلين متناقضين فعل الحماية من جهة وفعل الاعاقة حمل البيت. حيث هو الكائن الوحيد الذي يحمل بيته على ظهره. حيث الاطمئنان من جهة . والقلق من جهة أخرى.
هل من الممكن ان يكون لـ «كفافي» وتأكيده على قوة المكان توجيهات شديدة التأثير في سحب القارئ. وإثارة حواسه من اجل تشكيل هدف الشاعر من صناعة القراءة؟، أم أن القصيدة ذاتها «الحلزون»، والتي وضعها المصمم- صاحب اللوحة على الصفحة الاخيرة من الغلاف وسط مستطيل باضلاع سوداء، وتحت المستطيل حلزون يقتعد حجر الزهر/ الزار!
وهل هناك دعوة لقراءات محددة؟
من الممكن أن يكون هذا، وقد لا يكون،
فالقصيدة أو القصائد لا يمكنها أن تشتغل على القصدية، التي تحتاج إلى قراءة محددة، لأن القراء لا يمكن أن يجتمعوا على قراءة واحدة ، فلا بد للقصدية - هنا- أذاً الاّ أن تلغي نفسها.
قد تكون القصدية من مكونات/ مفاصل القصيدة الكلاسيكية. وبمقدور القارئ أن يضع يده على ما يريد ان يقوله الشاعر غير ان الحداثة استطاعت أن تشطب على ما تريد القدامة أن تصنعه في رقبة القصيدة من جرس يشير الى وجودها.
وجود القصيدة في الحداثة يعتمد على حدس القارئ، وليس على قرقعة طحن القرون.
من الممكن أن يدخل- سيزار فاييخو، الشاعر البيروفي المحاصر بالقلق والبؤس والفعل غير التقليدي.
وبعد أن منح الشاعر- علي الحسينان- احد أماسيه للشاعر الاسباني في اللغة والثقافة عليه ان يكون مدعوا ليشغل احد مقاعد/ قصائد الشاعر.
القارئ وسط هكذا دعوات/ غوايات متعددة، من الممكن أن يدخل فضاء الاختيار ليجد نفسه وسط خيارات من الحميمية المفرطة للمكان والماضي كزمن، والماضي كفعل - علي الحسينان- شاعر مهووس بالحفر بالذاكرة.
جميع القصائد تشتغل على استحضار التاريخ، ولأن التاريخ من الممكن أن يتمتع بحالة شديدة من الصمت. ولان الصوت العالي- الصياح أو الصراخ لا يجدي نفعاً مع الحجارة وذاكرتها ، أو مع الطرقات وتحولاتها، أو مع الإنسان ذاته الذي تخلى عن أذنيه ليحتفظ بعينيه. لذلك لم يجد الشاعر أمامه سوى سلطة الإشارة أو الإيحاء أو الهمس.
***
الصفة الأساسية لبنية القصائد التسع عشرة هي انها كتبت لتقرأ» أنا في انتظارك/ هل قرأت قصيدتي».
أتذكر فوجو» صاحب المكتبة»
«حين نسرق بعض الكتب»
«يقولون مر بالمكتبة وضاع في قراطيسها»
«يقرأ وهو يمشي.../ كتاباً لهنري مالر»، « سيطبق الكتاب حين يرى ركبتها».
فالشاعر وعبر هكذا إشارات يؤكد على أهمية القراءة كوسيلة استقبال لقصيدته. فهو لم يكتب القصيدة لتُسمَع.
أي أنها قصائد من الممكن أن تتضارب مع السائد العام. أو تتناقض مع ما هو مطروح من نماذج شعرية قد يعثر عليها القارئ في الكثير من الكتب والدواوين والدوريات، قصائد تنتمي إلى عزلة القارئ بمعناها التأملي. فهي بحاجة إلى ما لا تشتغل عليه الإذن من موسيقى صاخبة أو مكبرات صوت او سلطة المنابر.
هل من الممكن ان يقول القارئ ان الشاعر يكتب ليقرأ؟
القصيدة التي يكتبها - علي الحسينان- من الصنف/ الجنس الشعري الذي أطلق عليه الدكتور - كما أتذكر- محمد مندور- الشعر المهموس. هذا المصطلح الذي أطلق على قصيدة التفعيلة قبل خمسين عاماً أو أكثر.
إلا أن قصيدة العمود المطور/ قصيدة التفعيلة، ما كانت تشتغل على فك الارتباط مع القصدية الكلاسيكية. وذلك عبر تشبثها بالمنبر. أو بما يطلق عليها بالقصيدة الصوتية.
إلا أن قصيدة علي الحسينان- لا تشتغل على صناعة النص السمعي. بقدر انشغالها الوفير بالنص العيني بل ان الشاعر ذاته كثيراً ما يعمل على صناعة صورة القصيدة. عبر توزيع الكتل- العبارات التراكيب والجمل والكلمات والفراغات البيضاء وكتل النقاط.
هذه القصدية في الكتابة التي لا تعتمد الاستقبال المجاني. بل ان الشاعر من الممكن ان نقول انه يكتب لنموذج شريحة من القراء الذين لا يمتلكون عناوين وبعد ان تحولت القراءة الى فن. الى صناعة.
***
كتابات علي الحسينان- تشتغل ومن غير ضجيج على الإيحاء المفتوح فهو ما عاد بحاجة إلى إخفاء ما لديه ورغم هذا فعلى القارئ ان يتوقع وجود عالم آخر، عالم يتماهى خلف الظواهر البينة.
فالشاعر لا يمكن ان ينتمي للوضوح، حيث العقل وقوة الواقع في الوقت الذي فيه من الكثير المخيال، ليدمر ثوابت الحياة المعيشة.
مسار الشاعر- علي الحسينان- لا يتعجل استهلاك ساعاته، وكذلك القصيدة بتأنيها/ بتمهلها بالظهور تحاول أن تتشكل داخل سياقاها هي/ خارج سياقات الآخر/ القارئ، أو الآخر/ الشاعر رغم أهمية كل منهما في صناعتها.
الشاعر المحتار بأساه، الواقف وسط الذاكرة. يقف تحت سلطة الجبرية بكتابة قصيدة تثير وتتلبس الروح لا الجسد، تلك التي لا يستسيغها القارئ المنبري. فهي تفرض حيثياتها على الشاعر. لأن الاتفاق هكذا كان بين الشاعر والشعر.
الشاعر ينقاد لحالة الإبداع «والإبداع هنا مكان- زمان، وقائع وكائنات»، أي هناك تاريخ وجغرافية ومنظومة بشرية تتشكل من الشاعر والقارئ وما بينهما من مدونات.
واذا ما كان المكان يشكل ملحماً/ علامة لدى تجربة الشاعر - علي الحسينان- فان ما لم يفعله او ما لم يستطع ان يقوله. أو ما لم يتحول بين يدي الشاعر إلى كلام أو إيحاء، وأعني به الفراغات. التي استطاع الشاعر ان يحمّلها من الصمت ما لم يستطع القول ان يبوح به.
فهناك عشر قصائد من مجموع التسعة عشرة قصيدة ، يكاد يشكل الفراغ المنقط لغة أخرى، أو عنصراً مهماً من عناصر التعبير الملغي.
بل هناك العديد من القصائد تعتمد البياض/ الفراغ غير المنقط كوسيلة من وسائل تحويل القارئ إلى شاعر رديف لصاحب المدونة الأولى.
قصائد - مساء سيزار- هي قصائد لمساء بصرياثا مساء الشاعر. انها القصائد التي تعمل على تغيير الحياة . تعمل على التبديل. لا على التجميل. وإذا ما كانت هناك حروب تلفّ الامكنة. مما تترك خلفها - تلك الحروب - سوف يظل من ممتلكات الشاعر الخاصة . انها الخزائن الأليفة رغم أساها.
ثماني عشرة قصيدة تشتغل على الالفة والأماكن الاليفة.
إلا قصيدة واحدة هي «B52»، أنها آخر القصائد التي لم يمنحها الشاعر لحظة تاريخية تنتمي للكتابة، انها اللحظة السائبة غير المنتمية للتاريخ.
بل ان الشاعر حاول جاهداً وباصرار على ان يبقي الكثير من القول مطوياً. ضمن حالة من السرّانية.
فالقصيدة تركت للقارئ مهمة القول الذي كان من الواجب ان يقوله الشاعر عندما كنا فتياناً تلاميذ المدارس الابتدائية أو طلبة المدارس المتوسطة وما يليها. وضمن تمارين دروس قواعد اللغة العربية.بل والعديد من الدروس الأخرى. العلوم، التاريخ، الجغرافية. كنا نواجه
تمريناً مشتركاً، له وجود حتمي في كافة التمارين، بدءاً بأجزاء الكلام وحتى المفاعيل/ الأسماء المنضوية.
هذا التمرين/ النموذج بات يشكل مفصلاً مهماً من مفاصل كتابة القصيدة . حتى ماعاد بياض الصفحة بياضاً خالصاً. بل تحول الى ما ينتمي إلى الطروس، حيث تتوالى الكتابات الممحوة الواحدة بعد الأخرى.
فعندما كنا تلاميذ مدارس ابتدائية، لم يكن الكثيرون منا. وفي الكثير من الاحايين يمتلكون ثمن الدفتر. مما يدفعنا هذا الوضع الاقتصادي الى استخدام الممحاة في محو/ ازالة الكتابات التي كانت بقلم الرصاص/ الغرافيك. من الصفحات والتي ما عادت يشكل البقاء عليها حاجة ملحة لتتحول الاوراق والتي ما عادت بيضاء والتي مازالت تحمل اما كتابات من الممكن ان تتم قراءتها وان لم تكن بسهولة ولتتحول هذه الأوراق الى طروس مكتوبة سابقاً وممحوة لاحقاً ولتعد الكتابة عليها.
الشاعر اليوم استطاع كذلك من الاستفادة من بث الكثر من الكتابات السابقة من خلال الكتابة اللاحقة، وعلى القارئ ان يستفيد من هكذا فعل في الكشف عن المخبوء.
***
الشاعر في مسائه هو لم يكن حاطب ليل. رغم معرفته المسبقة بما تمتلك الغابة من جماليات. إلا انه يشتغل وفق حالة عالية من الانتقاء.
هذا الانتقاء لم يأت نتيجة لما يحاذي القرقعة/ الصخب. بل كان طالعاً من لجة الهدوء ورغم اعتماد القصيدة الشعرية على إذكاء العاطفة. وطغيان الأحاسيس والمشاعر تلك التي كثيراً ما تشوش الرؤية وتشطب وجود الآخر سواء كان مكاناً أو زماناً .
هذا الهدوء... وهذه الرؤية. ما الذي من الممكن ان يطلع منهما. سوى القراءة الهادئة.قراءة الدواخل. دواخل كائنات القصيدة.
فالشاعر - علي الحسينان- لم يستطع صخب القراءة للقصيدة العمودية، رغم أهمية الإلقاء في إيصال الغرض الشعري. في فرض سلطته على النص ذاته.
لذلك كانت قصائده تبحث عن «فسحة للتأمل» وسط فضاء مليء بكل الاصوات التي تدعو المواطن الاعتيادي- من سكنة او رواد الشارع- شارع الوطني- والواقف خارج القصيدة الى ان يكون من رعاياها.
وإذا ما كانت قصيدة شارع الوطني تمثل مفصلاً متقدماً في عالم قصائد الشاعر -علي الحسينان- وذلك عبر انتمائها للمتعدد من الاماكن والكائنات والازمان. وللمتعدد من التوجهات. والمستقبلين لانتمائها للمنقح من النصوص على الرغم من ان جميع القصائد تشتغل على الابتعاد عن تحجيم قدرات القارئ.
***
احتفاء القارئ بالقصيدة الطويلة لم يكن كافياً لمنع الشاعر من كتابة القصيدة القصيرة قصيدة من غير مساحة بيضاء من غير وحدات تكوينية، من غير فراغات حيث الجملة المتواصلة من غير استدراك او تعليق ومن غير تساؤلات.
لقد استطاع الشاعر - علي الحسينان- ان يشكل بنية القصيدة. ومعمارها الهندسي المعتمد على انفتاح النص/ انفتاح بنية النص على سواه. بعيداً عن التحجيم وتحويل النص إلى قفص غير واضح المعالم.