ادب وفن

خطاب الشعر المتناغم / جاسم عاصي

لا شك أن همَّ الشعرِ أن يكون أكثر سعة في الرؤى، وأغنى حالاً في اقتناص اللحظات، والدخول إلى الظواهر النفسية بمجسّات أكثر حساسية ورهافة. وهذا لا يتوفر إلا حين تكون الرؤية متشبعة بتجربة حياتية ومعرفية. فالشعر إناء الاختزال، وصورته الفائقة الإيجاز.
فالعبارة الشعرية تُكثف ما نراه على سعة في كلمات، تشتغل فيها البلاغة وبناء الصورة. وهذا لا يتوفر سوى للنادر من الفحص، والفائق في توفير مستلزمات انبثاق الشعرية. فالشعر شجرة، لا ينضب استدعاؤها للمعرفة، والتوسل حتى بأطراف الثقافة النادرة، لأنها ترتبط بشكل مباشر بسعة الرؤى والرؤيا. الحلم مستلزم شعري، والبهجة الأسطورية لازمة للإشراق وفتح المجال للحيوية الشعرية، لأنها ــ تتمرغ ــ بمعنى ــ تتلوّن ــ بألوان الطيف الأسطوري، خالقة مجالاً يحقق النمط الشعري وشخصية الشاعر. المعرفة تتوزع في الشعر مثل سماد الأرض. والشاعر يواقع النص برؤيته المعرفية، الحسيّة منها والمدرَكة معرفياً. من هذا نتوفر على شعر غني بمعارفه، وشعر كان قد اغتنى عبرها بالرؤى الواسعة. مقابل شعر لا يمتلك سوى هيكل الشعر، الذي لا يمنحنا جمالية صورة الحياة أو قبحها. لأن كلاهما متحقق شعري.
سقت هذه الملاحظات، أثناء قراءة قصائد الشاعر "حسين الدايني" التي قرأتها عشرات المرّات، كي أقف على محاورها الأساسية، وتوفرها على مناخ شعري خاص، فتوفرت على ركيزتين تتشظى من خلالها المعاني الأولى: انعكاس ظِلال الحرب، وثانيهما: وضع الأنثى موضع الشاهد على نهايات الضمير المتكلم شعراً ـ الشاعر ـ فقد غذا فضاءات القصائد بمثل هذين المحورين. معتمداً التلوين كشرط جمالي، تتخلله حالات متشظية من حالة واحدة، أراها مهيمنة شعرية على ذات الشاعر الموضوعية. وهذا ما وضعه موضع النمطية في صياغة بيته الشعري، الذي استنفد قدرة تغيير المفردة والصورة المؤثرة في الشعر. بمعنى ينساق وراء الرؤى بتماد، مما يفقده الشعرية الصادمة بتشكلها. غير أنه بتعامله التلقائي وليس العفوي مع المكوّن الشعري، الذي يمزج بين المؤثِر والمؤثَر به، ليخلق فضاء الشعر الأكثر إشراقاً . العلاقة مع صورة المرأة، ليست على نمط التغزل والاندهاش بجمال جسدها، أو فتنتها المخبأة، بقدر ما يضعها موضع الشاهد ــ الحكيم ــ على ما يواجه الإنسان مع نفسه ومع الآخرين. كذلك ما تضفيه على حياته مجموعة المؤثرات، ومنها يتصل مباشرة بالمفاهيم كالحرية والاستلاب، والذات والوجود. هذه الصوّر يجدها الشاعر مهدَدة، سواء بقوى معلنة أم خفية. لذا فملاذه الأنثى التي تُحقق له معادلاً موضوعياً ، بين ما يواجَه به، وبين مستقره أو قلقه الذاتي. فالعلاقة هنا، هي أقرب إلى الصوفية منها للعلاقة المستعادة من الإرث الجمعي. فإذا كانت حوّاء ملاذ آدم، فهي في نهايات المطاف فتحت له آفاقاً رحبة في صورة الواقع الأرضي. فالهبوط إلى الأرض، هو هبوط معرفي ــ انتاجي، أو هو بفعل تكشف الصورة المخصِبة للوجود البشري حالة جدلية حققت معنى الوجود. ذلك لأن العلاقة الثنائية أو الأثنينية كما يطلق عليها عبد الرزاق الجبران في كتابه "مبغى المعبد والصادر عن دار الانتشار العربي 2010" وهي علاقة العشق والحي، وليس "الزواج" المبارك من قبل المعبد. لذا لا نجد ريباً من ميل "الدايني" إلى أنثاه بمثل هذه السمة من العلاقة. فعتابه معها لم يكن بمعزل عن شك الأسئلة الوجودية وفعاليتها:
"لهفاً.../ لقبرين منكِ/ ينضحان الحياة بلون نفسك/ كيف مات فيهما.../ الحنين".
فهو هنا يميل إلى التماهي مع سؤاله المخبوء، لذا ينظر للأنثى بوقار المتهيب. فلا يهمه إلا الإشراق، من خلال لين العبارة المقفلة بـ "الحنين" وبهذا نجد أن ذات الشاعر ــ الإنسان أكثر قوة. فوهم الصورة التي تتبدد أمام نظره، يأخذها مأخذ الإيهام ، مغلفاً إياها بغلاف يكون قناع المفارقة والإيهام. وهوما يسود المشهد الشعري:
"لا يهمني.../ أن يكون وحيداً/ أن يسير بطيئاً أو مسرعاً/ أن يجد في نهايته التي تكاد لا تبين/ انخساف أو هاوية/ ........... /......... / لا يهمني/ سوى أن أرى خيبته كيف ترتسم على وجهه".
ولعله أيضاً يعمل على جلي الصورة التي يراها بعين الشاعر، مستخدما مفردات مثل "النقطة، الأضداد، خاوياً، صفر، وحيد ، يستدين" ليصل من خلالها الى تعبير شعري يقف موقف المقتنع "هو الشعر من يمشي بي/ من يكتبني".
ولعل الصورة الشعرية تؤكد على الدوران حوّل ثيمة تتلاقى معانيها مع هاجس العلاقة مع الأنثى باعتبارها الملاذ القوي، والمحاور لذات الشاعر. فهي علاقة متكافئة، بالرغم من هاجس العتاب الذي لا يتمكّن من إخفائه:
"أدور حوله/ كما الريح حول لسان اللهب/ أرقص.../ ما طاب له الهوّس/ أجمع ذرات الهسيس/ ومضاً يقدحني، أراوده/ شيطان الحرف / من أين لي أن أصل/ عمقه الأكبر/ معناك".
في هذا المقطع الشعري/ نتوفر على نوع من الحوار مع الأخرى، لكنه حوار حذر، حيث يعترف في نهاية المطاف بقدرة من يحاورها في "معناك" إن جدلية ما يراه "الدايني" في ما يظهر له من حراك، مغلّف ببعد نفسي، يستنهض جوّاني الذات لطرح الأسئلة المستلة من واقع الحياة، لكنه يحوّلها إلى رؤى فلسفية من خلال "الذات + الآخر/ الآخر + الذات" هذا الحوار يبدو متكافئاً كما ذكرنا، لكنه في مواقع يحوّله إلى قوة من ذات سلطة الأنثى المعرفية. وأرى إنه استجابة لجدلية العلاقة الأولى بين "أدم، حوّاء" وهي مشغولية استجاب إليها الشعراء، كل حسب رؤيته لمثل هذا الصراع المعرفي الذي استمر إلى لحظتنا هذه. وإزاء هذه الرؤية للطرف الثاني المكمل لوجود الذكورة "الرجل مقابل الأنثى" حاول الشاعر أن يضعها موضع المركز. فالمعرفة لديه؛ أن نكون أكثر عقلانية في فهم الطرف الآخر، مقابل فهم الظواهر المحيطة. فهو لا يراوغ بكذب شعري، بل يفتح كتابه الشعري على بيّنة في فهم الذات. وفي هذا لا يفرّط في الشعرية بحساب المماحكة في التعبير، بل يترك الانسياب في اللغة الشعرية بتلقائية واضحة:
"تحملين نفسك مظلة/ المطرُ بأنينٍ يرسم الخطوّ تحت قدميك/ أرصفة غربة تتوشح بها حنايا الجسد/ حريراً/ زائغة نظرات الجميع/ حالمة بفتنة الحضور/ وأنا.../ في طرف الإطار / تأخذني بارقة عطر/ هكذا الصورة المعلقة على جدار.../ السرير".
إنه في نهاية المطاف محاولة لاستنطاق الصامت "الصورة" أو انه يعكس فتنته بصورتها "أرمقك.../ وأنت تبرقين/ تومضين"، لكي يصل رسم المكمّل لصورته من خلال فتنتها المهيمنة "لألوّن حزني/ بحزنك" وهو يكرر هذا الحس الذي يستميل القرب من وجودها عبر "أقترب/ كي لا يكون للطريق نهاية واحدة/ كي تكون كل النهايات/ لكِ.../ طريق".
والخطاب الذي يوجه للأنثى يتخذ له مسارات وصورا متعددة، فهو لا يبقى أسير صورة الحبيبة، بل يتعداها إلى الأم . وقد ذكرنا إن هذه العلاقة محددة برؤى صوفية مجردة من الرومانسية. إذ يخاطب الأم بمثل ما يوجه خطابه إلى أنثى يعرفها أو لا يعرفها "تعود.../ لتكتب وصيتك/ مرة أخرى/ على عباءة أمك/ بفحمة/ تكتب...." أو "واهم أنت/ لا ريح.../ تُعيد الصحو لجدرانك/ إن هي إلا كوّة/ مد كفك من لحدك/ علّك/ تمنح المزيد من اشراقاتك/ للحياة".
وللشاعر ممارسات في كتابة القصيدة القصيرة، التي تقتصر مسارها في التعبير لتعطي المعنى. فالإيجاز والتكثيف يعملان على تحقيق المعنى بضربة شعرية، كما في نماذجه. وهي مجموعة رؤى لم تتخلص من مهيمنة أجواء الحرب، بسبب المناخ الذي يعيشه الشاعر وسط حيّز "وطن" تتناهبه القسوة وصورة القتل المجاني وعوامل تضليل الحقيقة، وعرقلة تصعيد الحياة:
ــ "كلهم متشابهون/ أولئك المنحوتون داخلي/ عدا وجهي"
وواضح هنا الفارق بين "منحوتون، متشابهون، عدا".
ــ "للحرب أيضاً لغة/ ضعي رأسي قرب سُرتك / أتسمعين نوح الفخاتي؟
غنّي بهمس/ في أذني الصماء/ علّها تنسى/ صوت قبلة القذيفة"
ــ "كلما أخذني الليل/ جلباباً لعتمته/ ينفذني وجعك/ حيث الله يُضيء"
لقد حاول الشاعر "حسين الدايني" عبر قصائده أن يطرح رؤاه من خلال منظور فلسفي، ملوّن برؤى صوفية، لأنه أساساً وضع معادلاً بين علاقتين ووجهين للحقيقة البشرية هي علاقة "الأنثى + الرجل" والإضافة العددية هنا تعني استكمال كل طرف بالآخر، أي التكافؤ وليس الاستعلاء.