ادب وفن

رواية عصا الساحر: رمزية الحقيبة والأرشيف السري / ناجح المعموري

التقط القاص عباس الحداد رمزه المركزي وأضفى عليه سرية، لأن الحقيبة مقفلة، يعرف الناس لونها، لكن لا أحد يدرك ما تحتويه. منحها القاص سرية، وإخفاء متوازياً مع وظيفتها التي كانت في دائرة الأمن قبل السقوط. وتتسع دلالة هذا الرمز وتتنوع، لكن كشوفه حازت على التكتم والتستر على ما فيها، وكأن القاص أعطى للحقيبة أحدى خصائص الوظائف الأمنية. وتمركزت الحقيبة في السرد وتحولت قنطرة له، لان أكثر الوحدات السردية ذات علاقة مع الحقيبة، بشكل مباشر أو غير مباشر.
كان التعرّف المحدود جداً على محتويات الحقيبة متزامناً مع انكشاف المغلق/ الداخل السري، بعد انفتاح كل شيء وسط البلد بعد احتلاله من قبل الأمريكان ، الوسيط غير المعلن عنه في نشوء رمز الحقيبة وحركاته الدالة على داخله، ومحيطه السري الأول المتكتم على محيط خارجي وسري منحته السلطة هذه السرية المتمتع بها سرية قال بها المواطنون وأضفت عليها السلطة نوعاً من الإخفاء والتستر. لكن الاحتلال الذي دمر كل شيء، لم يترك أسرار السلطة في صناديقها المغلقة، بل جعلها معلنة وسط محيط واسع للغاية وكأن انتشارها السريع والواسع تعبيراً عما كان سائداً قبل الفضيحة التي عرفها النظام وحصل تدمير الداخل السري والخارج المكشوف. هذا الخارج الذي تبادل لعبة التكتم على ما فيه، عبر علاقته مع الداخل. ورمز الحقيبة لا ينكشف للقراءة، إذا اعتمدنا على الداخل لأن الحقائب/ الخزانات/ العلب/ الصناديق، تمنح المخفي فيها أكثر سرية على القدرة الثقافية لقراءة/ لكني أعتقد بان الداخل أكثر تحفيزاً للخيال والشطح التفكيري والتوقع ومن هنا تتعمق طاقة الداخل وتتحرك نحو عديد من المعاني التي تقترحها القراءة وجماليات التلقي.
الداخل المزدحم بمرويات مصورة وأخرى مدونة، كاشفة بقوتها الإعلانية والصارخة بالفضائح والجرائم التي برع بها أناس، تحولوا الى عنصر لا احد يعرف به ممثلاً لخلية حية في جسد السلطة ومركزها الخطير حاز د. صادق كما كثيراً من الأوراق السرية من الداخل المعني بالخارج. انها سرية كما قلت ولم تكتف دائرة الأمن بذلك، بل اختارت لها داخلاً عميقاً في الداخل، وهو السرداب، ولهذا المكان دلالة تضخم المتكتم عليه وتضفي نوعاً من الأهمية الاستثنائية على الموجود.
يتبادر سؤال عن فك العلاقة بين د. صادق وحقيبته، ولماذا أعطاها لهشام؟ قرأ صادق سرديات الأسرار كلها وانتقى ما له علاقة به وعرف من دونها، وبعد استكمال الاطلاع على المخفي أعطاها الى هشام، ليقرأ ما فيها وحتماً سيكتشف أسراراً له معرفة بها. ولهذا السبب نفسه اندفع هشام لاستنساخ نسخة من محفوظات الحقيبة وقدمها لصديقه شاكر الكتبي والكاتب السياسي، وقد أشار القاص والروائي سعد محمد رحيم للأهمية الكبرى التي يتمتع بها الأرشيف الفاشي وما ينطوي عليه من تنوعات دلالية عديدة، لعل أبرزها وأكثرها تمركزاً هو ما حققته السلطة ومؤسساتها من هيمنة وقوة ممنوحة لها من أرشيفها والآليات التي وظفت من اجل تشكله وتضخمه. وكلما تنوعت مصادر أرشيف الفاشية، كلما كشفت عن هزال هذا النظام وسريان التسوس فيه. كما يؤمىء الأرشيف السردي وضخامته عن اتساع وتنوع القوى المضادة بغض النظر عن مكوناتها الثقافية ومؤهلاتها. لمؤسسة النظام الأمنية. ومن هنا تبرز دلالة هجوم الجماعات الطويل، الممتد منذ لحظة عودة البعث للسلطة وحتى الاحتلال. واعتقد بان الأفعال الجماهيرية الشعبية المتمثلة بمداهمة الأرشيف السري تضيء حلم الجماعات المقهورة والمحطمة والميتة معنوياً بسبب الأرشيف المخطوف بعد انهيار السلطة. وخطفه، يعني انكشاف السلطة بالكامل وعرضها عارية مفضوحة، وقد خسرت للأبد كل الذي ظل مهيمناً بثقافة قسوته على الجماعات المعطلة لخوفها. انتشار الأرشيف بين الأفراد والجماعات تفكك كلي للسريات السردية "أرشيف الفاشية سرد مفبرك في الغالب بطريقة غير كفوءة لحياة مطعونة في الصميم مسلوبة منها نكهتها، سرد مملوء بالثغرات، لأنه يلوي عنق الوقائع قسراً. السرد نسخة مزورة عّما حدث حقيقة.. ان التزوير يحدث بشكل مفضوح، غير مبدع. فالفاشية غريبة عن روح الإبداع/ سعد محمد رحيم/ انطقة المحرم، المثقف وشبكة علاقات السلطة/ مكتبة عدنان/ بغداد/ 2013
***
غادرت الحقيبة فضاءها السري، بعد انتقال خفاياها الى ثلاثة أشخاص هم د. توفيق ومنه الى هشام ومنه الى شاكر. لكنها لم تفقد تماماً صفتها الأرشيفية والسرية التي سجلت ملامح أو توصيفات عن علاقة الأخر مع السلطة.
اتسع فضاء التعرّف على الأسرار الأكثر غرابة من التي توصل إليها د. صادق تقشر والكتم، حتى اللحظات الأخيرة، المعلن فيها عن ما هو أكثر لا معقولية وغرابة، هذا كله حاضر في الرواية، لكنه لم ينتج النظام التمامي للسرد. الحضور الواقعي واسع للغاية منذ كانت الحقيبة مصاحبة للإنسان في طفولته وحتى شيخوخته ومماته، لان التابوت نوع من العلبة والحقيبة بسبب رمزيته، وبإمكان التخيّل أنتاج تصورات وعلاقة شبكية بين الكائن والحقيبة، بحيث تستمر الى ما لانهاية . لذا أجد بان خفايا الحقيبة وسردياتها الكثيرة الخاصة بصادق وغيره، على الرغم من أن هشام عبد الله وشاكر لم يكشفا شيئاً معروفاً لهما من الأسرار الموجودة. في وسط الحقيبة. بمعنى سعي القاص الى توسيع الفضاء السردي ولم يتعمد الكشف عن تفاصيله والمهم الذي نشير إليه، هو أن الرواية أوجدت مشتركاً بين النظام الفاشي والتغيير الذي كان شكلياً وظلت مكونات المؤسسات السابقة هي الحاكمة/ والفاعلة بالحياة العامة، ومنح سيادة مظاهر سيميائية في مناسبات دينية. الشيخ جعفر العائد من الخارج ذراع طويل وسري/ متكتم على ما يفكر به، وهو الذي نفذت له جماعاته الملتحية جريمتي اغتيال د. صادق وشاكر.
د. صادق المطارد من السلطة وخلاياها السرية غير المتوقفة، التي اشتغل عليها النظام ووحداته الأمنية المجهولة، وواحدة منها، عبرت عنها الدكتورة زوجة صادق التي زاولت ما لم يكن مألوفاً من قبل وارتضت بسلوك امرأة، امتهنت البغاء، ولم يرد القاص التوسع عبر الإشارة لذلك، لان شخصية سميرة اختزلت كل شيء، على الرغم من أن دورها تحقق بعد الغزو لكنها تختزن عناصر ثقافية واجتماعية أشبعها النظام الفاشي تأهيلاً من أجل صعودها في لحظة ما.
ظلت الحقيبة التي غادر بها د. صادق ـ من سرداب دائرة الأمن ـ ذكره حافظة دائماً، وكل ما هو مخزون فيها مجهول/ وسري ويمثل بعضاً من الأرشيف الاجتماعي/ والسياسي والثقافي عن الجماعات الملاحقة والمراقبة. وشخص واحد يعرف ما فيها من سرديات وتقارير وكان بإمكان القاص عباس الحداد التوجه بعيداً ويحفر عميقاً في استثمار رمزية الحقيبة وإضفاء صفة الميتا ـ سرد عليها، حينها ستضفي عمقاً وتنوعاً على السرد، فيما إذا لو انتبه لأهمية ذلك ومارس لعبة سردية فيها مهارية جيدة، ستمكن وحدات السرد من التجاور مع وحدة "الحقيبة" بوصفها قنطرة السرد الجوهرية في رواية "عصا الساحر" أي بمعنى كان بالإمكان أن تتحول الحقيبة لقنطرة لها امتدادات اتصال وشبكية لعلاقات ظاهرة وخفية بين شخوص الرواية الكثيرة. والتي غاب العديد منها بدون مبررات تومىء لاستكمال الدور البنائي الخاص بها. ويبدو لي بأن القاص عباس الحداد لم ينتبه لأهمية بعض الشخوص مثل الشخص المحمول وسط تابوت وتجمع حشد من الناس الملاحقة من قبله سابقا. ويلاحظ بأن اضطجاع احد رموز السلطة وسط التابوت رمزية تتوفر على شعرية جيدة، بالإمكان تغذيتها وتوظيفها. لكني أرى بأن القاص قد انتبه لأهمية التابوت في بداية السرد وخاتمته، لكن الدلالة الأولى معنوية مثلما قلت والثانية الخاصة بدكتور صادق هي حقيقية وضعت حداً لوجود فسيولوجي ويلاحظ بأن ثنائية التابوت لها وظيفة متباينة مثلما ذكرت لكنها تشف عن نوع من الدراية بهذا الدور البنائي الكاشف عن بقاء الشخص المطرود من الحياة ـ د. صادق ـ ملاحقاً، على الرغم من انه لم يقل شيئاً خارج المألوف عندما اقتاد الرجل العجوز وطفليه الى دار الشيخ جعفر راجياً منه مساعدتهم حافظ عباس الحداد على الكواتم السردية/ السرية، ضمن الأرشيف المنقول/ والمحمول بالحقيبة، ووحدة ـ الأرشيف ـ كاف لتوصيف العديد من الصور الغرائبية التي ابتدعها النظام السابق في تعاطيه مع شخوص تثير شكوكه وأراد حسم الموقف منهم عبر وكلاء من داخل عوائلهم. وكنت أتمنى لو اتسع الحداد في كشوفه عن الأرشيف السري "يلتقي المنتخب مع الفاشي في نقطة واحدة وهي أن الاثنين تشغلهما قضية المعنى، غير أنهما سرعان ما يفترقان بعد ذلك، فالفاشي يسبقه المعنى، يدفعه الى العتمة، يحرفه عن موضعه، يشوهه لأنه ببساطة يخشاه. أما المثقف فهو على العكس يبحث عن المعنى ويخرجه الى النور، ويحتفي به، والمعركة بين المثقف والفاشي لا تنتهي إلا بتصفية احدهما، فإذا تواطأ المثقف مع الفاشي فهذا يعني انه انسلخ عن هويته " مثقفاً " أما إذا اتفق الفاشي مع المثقف فأنه، في هذه الحالة لن يعود فاشياً/ سعد محمد رحيم.
تنفتح الحقيبة عن تعدد المعنى، لأنها أكثر الموجودات حضوراً في حياة الإنسان منذ طفولته وحتى الكبر. وتتسع عن تخيّلات كثيرة مستولدة عن حياة الإنسان وتفاصيلها. فالحقيبة مقترنة بالسفر والمنفى وعرف د. صادق ذلك. هي غياب وحضور وبحضورها قسوة عالية وصادمة بكشوفها السردية الغرائبية. ظل الأرشيف السري حاضراً وضاغطاً قبل السقوط وبعده، حيث كانت السلطة تسرب مرويات عن غرائب السلطة بعلاقتها مع المعارضين وكيفية الوصول إليهم. لكن المعلن عن الأرشيف الخاص بصادق وان لم يشر القاص لذلك، من أجل توظيفه في خاتمة الرواية "امرأة تسجل لرجال الأمن بالصوت والصورة ما يتفوه به زوجها أثناء خلوتهما عن ممارسات أزلام النظام الخسيسة، وما يفعلونه لطالبات الجامعة من تهديد وترغيب! أب يخبر السلطات عن ولده الوحيد الذي تخلف عن الالتحاق بمعسكرات القتال: زوجة تقدم تقريراً مفصلاً عن قراءات زوجها، وتقدم صوراً مستنسخة لبحوثه العلمية! أخت تشي بمكان أخيها المختفي عن أعين السلطات من سنين! الدكتورة، والتدريسية في الجامعة تتبرأ من أفكار زوجها وأبي أطفالها الأربعة، وتوعد المسؤولين بطلب الطلاق بأول فرصة! المربي الذي يبحث بين سطور طلبته عن كلمات التمرد التي تدور في الرؤوس!
انطوت الرواية على كثير من الأسئلة مما حقق لها نجاحاً في طرح الأفكار والإبقاء على العقل محفزاً، لذا اختصر القاص عباس الحداد ضخامة الأرشيف السري الخاص بطارق الى ملاحظات مركزة، ستساعد حتماً على أثارة الأسئلة والدنو كثيراً من الأجوبة وهذا الآلية تجعل من السرد متحركاً، جدلياً ويغادر رتابته الان القاص مدرك تماماً للأهمية الرمزية للحقيبة والأرشيف الكامن فيها وتحوله الى ميتاـ سرد مركز، واختزل كثيراً من الضرورات السردية الداعمة لتشكيلات العناصر البنائية السردية "في ضحى اليوم التالي، وقبل انتهاء الدوام الرسمي بساعة، جلس المحقق الشاب في مكتبه، يقرأ الأوراق التي حملها معه من غرفة الدكتور، عسى أن يتوصل الى خيط يدله على القاتل الحقيقي.
الأوراق الموجودة على منضدة د. صادق خلاصة لتاريخه السياسي والأسري، تحققت كلها ورسمت لنا مشهداً واضحاً للغاية عن مواجهاته مع النظام السابق. أما الورقة السادسة فلم تكن ضمن الأرشيف السري السابق، بل هي حديثة وتكفي القرائن السردية الخاصة بالشخوص بان الشيخ جعفر هو الذي كتبها. والمثير للاستغراب عودة الفئات الاجتماعية المقيدة والمهشمة، وأضاء القاص عباس الحداد وهذه العودة عبر علامة دالة على ذلك وهي الساعة التي أعاد الحاج ناصر الحياة لها بعد عطلها الطويل "عمرها يزيد على السبعين عاماً، تعود الى ورثة الحاج "نايف الحسن"، أحد شيوخ عشائر السعدي. وهو من الرجال الأوائل الذين سكنوا شارع العمار... الساعة البيضاء يزيد طولها على المتر، ولها بندول تسمع دقاته على بعد عشرين متراً، انتهى الحاج ناصر من تصليحها بعد ثلاثة أيام عمل متواصلة.