ادب وفن

الأيقاغ الروائي في تسارع الخطى / أ د. محمد صابر عبيد

تنتمي رواية "تسارع الخطى" للروائيّ أحمد خلف، للسرد الذي يقوم على تدفّق الإيقاع وسرعة أدائه وحيويّة إنتاجه الدلاليّ، ولعلّ عتبة العنوان تؤكّد على نحو عميق حساسيّةً إيقاعيّةً عاليةَ الحضور، فالصيغة "تسارع" تنطوي هنا على معنى القلق والريبة والخوف، ودالّ "الخطى" مرتبط بالأرجل وهي آلة الحركة الجسدية المركزيّة في التنقّل من مكان إلى آخر، والفضاء العنوانيّ يحيل على إيقاع حركيّ "جسديّ" يتضمّن معاني البحث عن خلاص وبلوغ ملاذ يحمي من خطر ماثل، وتتردّد العبارة العنوانيّة في مسار السردّ الروائيّ داخل المتن أكثر من مرّة، تعبيراً عن حضور فضاء العنونة في طبقات المتن النصيّ، وهو ما يجسّد حيوية العنونة وقوّة حضورها في الميدان السرديّ.
يمكن رصد تجلّيات العنونة على صعيد الصياغة والفكرة والدلالة والرؤية في أكثر من مكان سرديّ داخل متن الرواية، منها على سبيل المثال:
"كن حذراً من الطريق وكل شيء تراه قريبا منك، لا تلتفت إلى الوراء، عليك أن تصغي إلى تسارع الخطى،، إلى وقعها المتصاعد مع الجري المتلاحق، خطاك وهي تصنع لحنها الخاص، عليك أن تزيد من تسارعه. لحنٌ يظلّ يرافقك إلى عالمك الجميل الذي ينتظرك".
إنّ فكرة "تسارع الخطى" تظهر في هذه الجمل السردية من بدايات السرد الروائيّ كي تعطي لعتبة العنونة قوّة حضورها المركزيّ في المتن الروائيّ، فضلاً عن أنّ الرؤية السردية في الرواية تقوم أساساً على فكرة التسارع من الإيقاع الروائيّ، وفي عرض الشخصيات، وفي إشكالية الحضور والغياب، وفي لعبة المصائر المفتوحة، ثمة حراك سرديّ سريع للغاية يهيمن على فضاء السرد الروائيّ ويسهم في تشكيل البنية الهيكلية العامة للعمل.
شخصية "عبد الله" في الرواية شخصية إشكاليّة مركّبة تلعب أدوارها على أكثر من مستوى، وهي شخصيّة مهيمنة على صعيد الحضور السرديّ الميدانيّ في مسرح الرواية، سواءً عن طريق الراوي كليّ العلم أو الراوي الذاتيّ، وهي شخصية منتزعة من عمق الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ العراقيّ الجديد، بما تنطوي عليه من عُقَدٍ واضطرابات نفسيّة وخوف من كلّ شيء وشكّ في كلّ شيء، ولها قدرة تمثيل عالية لفئة مجتمعية ظلّت تعاني في كلّ عصور المجتمع العراقيّ الحديثة، تتبدّل الأنظمة وتتغيّر قيمها ودساتيرها وتوجهاتها وسياساتها ومرجعياتها الإيديولوجية لكنّ أساليب القمع والاضطهاد والقهر الذي تتلقاه هذه الفئة لا تتغيّر، على النحو الذي يكون صوغها في "تسارع الخطى" على هذا النحو شهادة على حقيقة هزيمة هذه الشريحة واندحارها، لأنها تبحث عن وجودها على وفق رؤية طبقيّة ثقافية ذات شكل حقيقيِّ الانتماء والسلوك.
اختيار مهنة المسرح للشخصية المركزية في الرواية ما هي ألا وسيلة للإحالة على الوضع المسرحيّ الدراميّ الكوميديّ "التراجيكوميديا" الذي تعيشه الشخصيات وتتمرأى به الأحداث، وتعدّ فكرة مسرحة الحادثة الروائية ذات قيمة تعبيرية عالية المستوى من حيث إدارة عناصر السرد وتشغيل أدواتها، في إحالة ضمنية على أنّ ما يحصل في طبقات الحادثة السردية الروائية ليس سوى مسرحية كاملة الأركان، فالروح الدرامية متغلغلة في أعماق الحادثة وتسيّر مفاصلها الحدثيّة في سبل وأنساق أشدّ دراميةً ومأساةً من أشهر المسرحيات الدرامية وأكثرها مأساويّةً، على النحو الذي يقود الفكرة السردية وأفعال الراوي إلى حساسية التمثيل الدراميّ داخل بنية السرد... شخصية أبو العزّ وشخصية البصري شخصيتان ساندتان تسهمان في إظهار طبقات خفيّة في الشخصية المركزيّة، بمعنى أنّ الشخصيتين لا تتدخّلان في خطوط النسق السرديّ تدخلاً حاسماً إلّا بمعية الشخصية الرئيسة، أي أنّ أفعالهما السردية معلٌقة بشخصية "عبد الله" ولا أهمية لهما خارج هذا الإطار، أما "فاطمة" الشخصية الغائبة فهي شخصية ذات حضور مزدوج في التشكيل، فعلى الرغم من غموضها في المشهد السرديّ غير أنّها تؤدي دوراً لا يخلو من مفارقة، في الانتماء إلى حظيرة عصابة الخطف من جهة، ومن جهة أخرى تقوم بمساعدة شخصية "عبد الله" في الهرب من قبضة هؤلاء المجرمين، وهي مساعدة تشبه الانتحار لأنّ الشكّ سيحوم حولها حين تناقش العصابة طريقة هربه، وربّما تلقى حتفها، وتغييب مصيرها من طرف الراوي يساعد على الظنّ بأنّها قد تكون وقعت ضحية لهذه المساعدة الاستثنائيّة، وربّما المفاجئة على نحو ما، وتبقى شخصية على صعيد التأويل يمكن أن تخضع لأكثر من قراءة بما تتمتّع به من غموض وندرة كبيرة في المعلومات الشخصية عنها.
تمثّل حكاية شخصية "أم عباس" وارتباطها برغبة "عبد الله" في كتابة "مسرحية الصرّة" قضية سردي محورية في تشكيل بنية الحدث الروائي العام، من أجل التعبير عن عبثية الحياة العراقية وقد بلغت حداً من الإجرام لا يمكن استيعابه، حين يصل الأمر إلى زرع فكرة التدمير والانتقام في أبسط الطبقات الاجتماعية وأكثرها شقاءً وفقراً، ولعلّ سعي عبد الله نحو مسرحة هذه الحكاية المنتزعة من باطن السرد الروائيّ وحادثته الحكائيّة المريرة، إنما يدخل في سياق الدفاع الضمنيّ عن الوجود والتشبّث بالأمل، وفكرة تعشيق السرد بالدراما هنا تنهض على تقانة تمثيل الحادثة السرديّة وتوطيد جذورها الدراميّة في الوحدات السردية العميقة للحدث الروائيّ.
وتؤدي حكاية الشخصيتين "هند ورياض" دوراً أساسيّاً في التشكيل الهرميّ العام لدرامية السرد الروائيّ، وهي حكاية مزروعة بحكمة سرديّة في بؤرة مركزيّة من بؤر الرواية الجوهريّة الدالّة، بوصفها مولّداً من مولّدات تعبئة الشخصيّة الأساسيّة "شخصيّة عبد الله" بالرغبة في مواصلة التعبير عن الطبيعة الثقافيّة المرنة لفضاء الشخصيّة، فشخصية "هند" ابنة أخت "عبد الله" تتعرّض لاعتداء جنسيّ من حبيبها البرجوازي "رياض" يُفقِدها بكارتها، وحين يتبنّى عبد الله فكرة اللقاء برياض للتفاهم معه على إيجاد حلّ يحفظ كرامة هند يقع عبد الله في مصيدة المشاكل التي تقترب من محاولة تصفيته، وتبقى هذه الحكاية معلّقة في ذاكرة سرد الرواية على نحو مستقلّ وبلا حلّ، ثمّ تغيب الشخصيتان هند ورياض من مسرح الأحداث بعد أن يسقط عبد الله في فخّ السعي إلى الخلاص، إذ تبقى هند فاقدة لعذريتها بلا مصير، ويبقى رياض بعيداً عن الحضور السرديّ بلا تبعات، على نحو لا يكلّفه الإسهام في وضع حلً لهند كما كان يروم خالها عبد الله، وكأنّ الأمر مرّ بالنسبة لرياض على نحو خالٍ من المشاكل من دون أيّة عواقب محتملة، ولا شكّ في أنّ حضور هذه الحكاية في جوهر السرد الروائيّ لم يكن عبثاً، ولا بدّ من الكشف عن النسيج الرابط بينها وبين الحادثة الروائيّة الكبرى المتعلّقة بشخصية عبدالله، في السبيل إلى الإجابة عن أسئلة السرد فيما يتعلٌق بالحراك الطبقيّ المجتمعيّ وتأثيره في صوغ الأطروحة السردية داخل متن الرواية.
تتميّز الرواية في هذا السياق بطريقة بناء نوعي للشخصيات إذ جاءت الشخصيات السلبية كلها شخصيات هلامية لا ملامح لها، وهو نوع من تفعيل الشكل السرديّ في تشكيل الشخصية بالرؤية السردية على نحو تضامنيّ مُنتج. وتشتغل الرواية هنا على ما يُصطلح عليه في الدرس السرديّ بـ "النهايات المفتوحة"، إذ بدت الشخصيات وكأنّها بلا مصائر، أو كأنّ المصير واحد مشترك للجميع، وهو ما ينسجم مع الفضاء السيميائيّ لعتبة العنونة "تسارع الخطى"، من حيث إنّ الإيقاع الذي تولّده الخطى المتسارعة يختصر الحراك السرديّ الزمنيّ، ولا يتيح فرصة مثاليّة لاستقرار النهايات ووضوحها على نحو يمكن فيه تلمّس ما تؤول إليه كلّ شخصيّة من شخصيّات الرواية، فالشخصيّة المركزيّة "عبد الله" والشخصيات الأخرى المحيطة بها على شكل دوائر انفرط عِقدُها السرديّ وضاعت مصائرها داخل فكرة الضياع العام المهيمن على فضاء الحدث الروائيّ.
المحيط المكانيّ في الرواية كلّه محيط عدائيّ يكشف سردياً عن أزمة الأمكنة، وهو مفصل مهم من مفاصل السرد في الرواية، لأنّ المعاينة المكانيّة الدقيقة لأمكنتها تحيل على كونها من الأمكنة الطاردة التي ليس بوسعها حماية الشخصية من شرور متنوّعة، فأمكنة الرواية كلّها بؤر للتهديد والقتل والانتقام والحصار والملاحقة والخوف والريبة، الشخصية المركزية "عبدالله" تضيع في خضمّ هذه الأمكنة، لائذاً بها أو هارباً منها أو حائراً فيها، وكلّها ملغومة برعب مفهوم وغير مفهوم، على نحو فقد فيها الطمأنينة وظلّ يتفاعل مع هذه الأمكنة بحذر مطلق، أما ما يتعلّق بالتقانات الزمنية السرديّة في الرواية فالرواية تشتغل على فاعلية التنقّل السرديّ الزمنيّ بين تقانات السرد التقليدية المعروفة كالاسترجاع والاستباق والقطع والتلخيص والحذف، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بـ "اللعب بالزمن" على نحو يستجيب لآليّات فكر العنونة "تسارع الخطى"، على نحو يؤكّد قيمة التفاعل السرديّ الحرّ بين التشكيل والرؤية، بين أدوات السرد وموضوع السرد، بحيث يتحقّق الجدل المطلوب بين عناصر التشكيل الروائيّ على المستويات كافة.
يمكن النظر إلى المغزى السرديّ لتسارع الخطى بوصفه شهادة روائية على واقع مرّ ضاعت فيه كلّ القيم، فعراق ما بعد 2003 هو عراق آخر لم يتمكّن من استرداد الهواء النظيف لشخصيات الرواية بعد عقود من الدكتاتوريّة، فشخصيّة "عبدالله" نموذج كلّيّ من نماذج الشريحة الاجتماعية الوسطى "المطحونة"، وهي تتطلّع نحو حلم تزدهر فيه أيّامها بعد أن قاست الأمرّين في عهود مضتْ، لكنّها فوجئت بما هو أعنف من الدكتاتوريّة وأسوأ وأكثر إيلاماً وقهراً وضياعاً وتشرّداً، إنها رواية ضياع الكرامة الإنسانية ودحرها بامتياز.
وبما أنّ الرواية ابنة البيئة، فروايات أحمد خلف ومنها "تسارع الخطى" تخوض سردياً في فضاء الطبقات المسحوقة، وتصوّر المكان "بغداد" بوصفه مكاناً عدميّاً مخرّباً لا تستطيع الشخصية البسيطة الحفاظ على أمنها فيه، إذا ما تجرّأت على محاولة الدفاع عن مصير أبنائها ولو بالنيّات فقط، فشخصيّة "عبد الله" وهي تتبنّى فكرة الدفاع عن "هند" بعد أن سلبها "رياض" عذريتها بسلوكه الثريّ اللاهي والعابث وغير المسؤول، تتعرّض للمحو والتدمير قبل أن تباشر تنفيذ فكرة الدفاع السلميّ، فحين يقرّر "عبدالله" زيارة "رياض" زيارة حضاريّة لإقناعه بإيجاد حلّ لمشكلة ابنة أخته "هند"، يلاقي قبل حصول اللقاء أهوالاً تشلّ إرادته كي يبحث عن مخلّص له هذه المرّة، وتموت في خضمّ ذلك قضية انتهاك شرف "هند" داخل سلسلة من أعمال العصابات والمافيات التي تسيطر على الأرض، على نحو يتكشّف المكان فيه عن تشيؤ وضياع ووحشيّة تغيب فيها كلّ معاني الحضارة والمدنيّة والإنسانيّة، على نحو تصبح فيه صورة "تسارع الخطى" حركة يائسة في المجهول، فأينما تسارعت الخطى وأنّى توجهت فلا ملاذ يحميها من خطر أسرع إيقاعاً منها.
ولو تذكّرنا على سبيل الموازنة روايات جبرا إبراهيم جبرا "صيادون في شارع ضيّق" و"سراب عفّان" و"البحث عن وليد مسعود" وغيرها، وحتى سيرته الذاتيّة في "شارع الأميرات"، لوجدنا بغداد أخرى غير بغداد أحمد خلف، بغداد الطبقة الارستقراطيّة التي اقتحمها جبرا واقعيّاً وسردياً ببراعة وصار جزءاً منها، وهو ما يمنح المكان قوّة تبئير خاصة في السرد الروائيّ استناداً إلى وجهة النظر القائمة على حساسيّة المعايشة واستلهام الحدث والشخصية والفضاء، على نحو يجعل المكان الروائيّ خاضعاً لطبقتين متجاورتين ومتضادّتين في آن، ولا يمكن فهم ديناميّته على نحو عميق إلّا في سياق معاينة التشكيل السرديّ من وجهتي نظر متباينتين، وهو ما يمكن أن يخضع لدراسة أكاديميّة جادّة في سياق معطيات النقد الثقافيّ الكاشف عن علاقة المرجعية بالرؤية.