ادب وفن

أدب المهجرين أم أدب النازحين؟ / هيثم بهنام بردى

أي مصطلح أو ظاهرة لم تُجترح ما لم تكن تعبيراً ورد فعل، تعبير عن حقبة زمنية استثنائية، وردّ فعل عن فعل يحاول أن يفرض نفسه ويهيمن على الواقع ويجعل الواقع منساقاً إليه بفعل ما يمتلكه من أدوات تخالف الواقع، والأدلة والشواهد لا يستهان بها، فكل فعل خارق للمألوف يستولد معه ظاهرة ابداعية سواء في الفن أم الأدب، وتنقاد لمديات تأثيراته بشكل أو بآخر المدارس المهيمنة في الفن والأدب بكل عناوينهما وأجناسهما، إن كان سلباً أم إيجاباً.
لو تأملنا المشهد الإبداعي العراقي لرأينا تأثر هذه الظاهرة حاله حال أي مشهد إبداعي في الكون، فمثلما ترسخ أدب ما بعد الحرب العالمية الثانية عبر مصطلح الأدب الوجودي رأينا صداه في النتاج الإبداعي العراقي في الفن والأدب، ومن ثم حين هيمنت هزيمة حزيران عام 1967 رأينا مدى انعكاس هذه الظاهرة سلباً في الأدب والفن العراقي إسوة بما حصل للعرب من المحيط إلى الخليج، ثم توالت المفاصل التاريخية التي توالدت معها ابداعات تحاكي تلك الحقبة الزمنية ونتائجها، فهناك أدب الحرب، وأدب الحصار، وأدب ما بعد عام 2003، مع كل الإرهاصات التي اعتورتها، وإحدى هذه النتائج ما يعانيه الآن- ثلث سكان العراق من تهجير قسري نتيجة تمزق نسيجه الاجتماعي والاقتصادي نتيجة التناحر السياسي، وعانى ما عاناه المبدع، لكونه شريحة مهمة من شرائح المجتمع الواعية الفاعلة، من تشريد وقهر وانكسار وإحساس بالفجيعة والغربة، وغربته غربتان: خارجية وداخلية...... الخارجية التي تتمثل في تنكبه حقيبته ووضع ماضيه وحاضره ومستقبله، وجوده المقلوع قسراً من حديقة بيته "وطنه" المستباح وتوغل المجهول والتيه خلف الحدود، أو التغرب في مدن بلده، تهبه الأمان تحت سقف خيمة تتلاعب في جنباتها رياح العوز والفاقة والمذلة، وهذه لعمري - كلتاهما- كأنهما كأس سقراط...
وتأسيساً على هذا كان لا بد من ظهور بدايات إبداع جديد من الممكن إطلاق تسميات عديدة له: أدب الوافدين، أدب البحث عن الذات، أدب المهجرين، أدب النازحين،..... الخ، وقد تختلف المسميات ولكن يقيناً الهدف واحد، وتجلى ذلك في بعض الممارسات الفنية المتواضعة في المسرح والتشكيل والموسيقى، فلم نفتقد بعض المشاهد التمثيلية البسيطة التي تحاول ان تنضوي تحت مصطلح المسرح، وبعض معارض البوستر والتشكيل التي تتمحور عن هذا الأمر، وليس آخرها بعض الحفلات الموسيقية التي أقيمت في مدن كوردستان، فضلا عن نشاطات أخرى في مدن الجنوب....
وفي الأدب شعراً كان أم قصة، قدحت بعض الومضات والتجارب هنا وهناك "الشاعر زهير بهنام بردى في قصائده التي جاوزت كتاباً شعرياً " كأنموذج" التي تتحدث عن نتائج هذا الأمر الجلل، ومدى تأثيره البيّن على المثقف الذي وجد نفسه معلقاً في فضاء الأمل الذي تبدى كسراب، ونظرته المفعمة بالحنين والأمل إلى أرضه وبيته ومدينته حيث تاريخه وحياته ووجوده، فكانت هاتان المحاولتان السرديتان، ربما مفتاحاً يفضي إلى المصطلح الجديد "قد يكون الكثير من الأدباء "النازحين " المهجرين" كتبوا ولكنهم ما نشروا" الذي قد تختلف تسميته كما نوّهنا، ولكن أصل الهدف كما أسلفنا أيضاً واحد، وهو أن في أعطاف الأدباء قاصين كانوا أو روائيين أو شعراء، أجّنة تتكون أو ربما كتبت على أديم الذاكرات والكراريس ما يمكن أن يدرج تحت المفهوم أو المصطلح وأياً كانت التسمية.
قصتا جمال نوري والدكتورة فاتن الحياني تناولتا ثيمة واحدة من مفاصل الهجرة والنزوح من زاويتين متناظرتين وما وجدا ما يمكن أن يحيط بهذه المفاصل والثيم - وما أكثرها- التي أنوجدت مع النازح أو المهّجر إلاّ جنس "القصة القصيرة جداً"، والحدث على بساطته غير أنه يترجم حالة إحباط يتلبس كل نازح أو مهجر وهو يختصر وجوده الجديد الاستثنائي في البحث عن عناوين لهيآت إنسانية تهبه ما يسد جوعه من مأكل، أو أسمال لا تكسو حدود معالم الجائحة التي رُسمت له دون إرادته، والوجود الذي سُلب منه ويحاول أن ينضي عن كينونته طاقية الإخفاء..
والقصتان لساردين، الأول له تجربة بعيدة في كتابة القصة القصيرة جداً، وله ثقله البيّن واسمه الراسخ بين قصاصي العراق والذاكرة النقدية العراقية هو القاص جمال نوري، وقد أسمى قصته "عيون..."، وفيها تتجلى براعته في تناول الثيمة ومعالجة الحدث والتعامل المنطقي مع الوحدات الأرسطية ورسمه الدقيق للشخصية بلغة معمقة تجنح الى البساطة والأناقة والاختزال والتكثيف.
أما فاتن الحياني فهو اسم أقرأ له للمرة الأولى في مجال السرد، رغم أنه من الأسماء النقدية العراقية التي لها اسمها الخاص في ميدان النقد العراقي، ولكني عندما أتممت قراءة قصتها "حيرة السؤال" أحسست بأن هذه الكاتبة تتمتع بمزايا قاصة تقتفي طريق النجاح بخطى واثقة، وأن قصتها هذه ليست محاولتها الأولى في مجال السرد، لما نتوسم فيها من سمات النضج الفني والتمكن من ادارة الحدث ولغتها الموحية ونهايتها التثويرية الجميلة الصادمة.
وقبل ان أضع النقطة في نهاية السطر وأنا أكتوي بخلجات هاتين القصتين جال في خاطري هاجس تشّكل على هيئة سؤال مفاده: لماذا لا ندشّن مصطلحاً جديداً يتحدث عن النزوح أو التهجير، هذه الظاهرة التي لم ولن تمحى من ذاكرة تاريخ العراق المعاصر....؟
إنني - وبكل تواضع- أُؤازر جمال نوري ود. فاتن الحياني، وأحيي مبادرتهما الجريئة، وأدعو جميع المبدعين أن يحذوا حذوهما.