ادب وفن

افتتاحية "الثقافة الجديدة": الدور المأمول من المثقف العراقي في الحراك المدني

منذ اسابيع عدّة عاد "شبح" الحركة الاجتماعية يحوم مجددا، وبزخم جديد حول مختلف مدن العراق وقصباته.. وكانت التظاهرات هذه المرة اكثر اتساعا وأكثر حيوية وأكثر قدرة على المطاولة، كما امتازت على العموم بطابعها الوطني والمدني العام، وملموسية شعاراتها في الغالب رغم عدمية بعضها، ورغبتها الحقيقية في تغيير الواقع الراهن الفاسد الذي هو نتيجة منطقية لنظام المحاصصات، هذا بالرغم من محاولة البعض ركوب الموجة وتجيير الحراك لصالحه، وهم الذين عاثوا في الارض فسادا.
ومن بين سمات عديدة تميز الحركة الاحتجاجية الجديدة هناك سمة انخراط النخب الثقافية في هذه الحركة بقوة وبفعالية ملحوظة، والمسعى الحثيث لهذه النخب لترشيد الظاهرة الاحتجاجية والمشاركة النشيطة في بلورة شعاراتها وتدقيق مطالبها، وإشاعة الوعي الفردي والمجتمعي بأهمية الاصلاح وضرورته، وفضح مواقف الجماعات المتطرفة والقوى المتضررة من الاصلاحات التي تحتاجها البلاد كحاجتها الى الخبز والماء!
ولا بدّ من الاشارة هنا الى الاجتماع والندوة الحوارية التي اقامها (الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق) في 19 آب 2015 عن دور المثقف العراقي في حركة الاحتجاج الشعبية المتواصلة، والمطالب التي طرحت فيها، خصوصا بناء الدولة المدنية في العراق، الأمر الذي يدلل على مدى ونوعية تفاعل المثقف العراقي مع الحراك الراهن.
المثقف العراقي اليوم إذن في لجّة الصراع الاجتماعي وليس على هامشه رغم كل محاولات تهميشه وإقصائه عن المشهد، من طرف السلط المتعاقبة التي سعت من جهتها وعلى الدوام الى "خلق" جيل ليس وظيفته إنتاج الثقافة، بل الترويج لسياسات النظام السائد وأيديولوجيته، فالقوى المهيمنة تسعى دائما لفرض علاقات الامتثال وتأدية فروض الطاعة، وتحارب النقد.
بداية لا بدّ من الاعتراف بوجود تباين في الآراء بشأن انخراط النخب الثقافية وتوسيع دور المثقف في الحركة الاحتجاجية المجتمعية الواسعة بتلاوينها العديدة ومرجعياتها المختلفة وموزائيكها الثري، فهناك من يسعى لاختزال هذا الدور وإكسابه مضمونا مفقرا، حيث يتم الفصل التعسفي بين المثقف ونشاطه الابداعي من جهة، بحيث يكون محصورا ضمن اقمطة لا يجوز التمدد خارجها! وبين انخراطه في الحراك المجتمعي منظرا ومحرضا وناشطا عمليا وفعالا، فقد كان المفكر الايطالي غرامشي، يرى المثقف، من خلال وجوده الاجتماعي، عالم الصراع الاجتماعي، فهو الذي يعيد صياغة المثقف.
وإذا فهمنا الثقافة والإبداع الثقافي في اطارهما الأعم فإنه يمكن القول إن الثقافة ليست مجرد نتاج إبداعي فني، خالص، محصور في غرف مغلقة ومكيفة، بل هي، في السياق الأعم موقف سياسي بالمعنى الرفيع لكلمة السياسة وليس كما يمارسها سياسيو المحاصصة وراكبو موجاتها، أي التمسك بقيم إنسانية شاملة، كالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة والديمقراطية.. الخ، والدفاع عن هذه القيم، الأمر الذي يكشف عن حقيقة أن المثقف من هذا الطراز، هو أفضل المدافعين عن القضايا العادلة للشعوب ومطالب الجماهير والانخراط النشيط في معاركها وتقاسم نتائجها، ربحا او خسارة.
وإذ يندلع النقاش في هذه اللحظات العاصفة التي تشهدها البلاد عند منعطف حاسم حول الدور الذي ينبغي أن يضطلع به المبدع والمثقف بشكل عام في الحراك المجتمعي، فان ثمة اسئلة تطرح نفسها بقوة وتستحث الاجابة عليها، ومن بينها:
- كيف يمكن للمثقف، من مختلف الاختصاصات، أن يصوغ الواقع الجديد وأسئلته الملتبسة وإشكالياته المعقدة في مشروع يتلمس ملموسيا الجدل العام/ الخاص/ الفردي؟ ويطرح بدائل قادرة على توسيع دائرة المتبنين لهذه البدائل والراغبين في إجراء تغييرات جذرية وليس اعادة انتاج الواقع الراهن بمختلف مستوياته؟
- كيف يمكن للمثقف أو المبدع، كمنتج للمعرفة وحاملٍ للواء التغيير والإصلاح العميق المنطلق من الحاجات الفعلية للمجتمع والاقتصاد وليس استنادا الى الرؤية النيوليبرالية، أن يبلور خطابا يتجاوز البيان السياسي المباشر أو صراخ الدرس الأيديولوجي التبريري الساعي لتأبيد هيمنة القوى المسيطرة؟
- كيف يمكن لمنتج المعرفة هذا أن يعيد صياغة مشروعه الإبداعي دون أن يتخلى أو ينقطع عن الحلم العام بوطن حرّ ودولة مدنية ديمقراطية عصرية، نقيض دولة المحاصصات، أي الاندراج في الكفاح من أجل وطن متحرر من كل أشكال القمع الفعلي والرمزي ومخاطر الحروب الخارجية والداخلية وقياماتها التي شهدناها خلال العقود الأخيرة؟
وإذا كان المطلوب منا اليوم كعراقيين، بعد كل الكوارث السيّئة الصيت، أن نسعى للمساهمة في تأسيس الأرضية الصحيحة لمجتمع جديد يتضمن قيما متنوعة، من بينها: التنوع، والتعددية، والديمقراطية، واحترام الرأي الآخر وتعلم، بل واكتساب نزعة الاستماع للآخر، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بحدة وهو: كيف وبأي الوسائل، يمكن للنخب السياسية والثقافية المساهمة في خلق الأرضية لتوفير الشروط لممارسة ديمقراطية حقة بإمكانها أن تساعد في تجاوز التخندق وراء الأحاديات و "الوعي" الذي يعتقد أنه مستودع الحقيقة وحارسها الأمين؟
ولهذا فإن ممارسة جديدة، بكل ما تعنيه الجدة من معنى، هي وحدها الكفيلة بمنع السقوط في ذاكرة تفتش عن إبداع في فراغ، إبداع يخاف "التورط" في مشكلات فعلية، والانتقال إلى ذاكرة متقدة ووعي جمعي متقد، قادر على الإمساك بالجمرات الحقيقية، بالمشكلات الفعلية، التي تواجهنا على مستوى التفكير والممارسة.
ولعلنا اليوم في هذه الحقبة المتلاطمة العاصفة، في أشدّ الحاجة إلى بلوغ مقاربات فكرية وصياغة مفاهيم جديدة من شأنها أن تدرك أبعاد الأزمة العميقة التي يعيشها مجتمعنا وبلادنا، وتساعد في بلورة البرامج والسياسات الكفيلة بتجاوزها، وبما يساعد على دحر الارهاب وقواه، ومواجهة القوى المتضررة من الاصلاحات التي طرحت اخيرا.
ولا شك في أن عدم إدراك ضرورة إحداث ديناميكية جديدة قادرة على استيعاب مطالب الجماهير وتطلعاتها ومواجهة مختلف التحديات، يمكن رده إلى غياب أو ضعف العقل السياسي القادر على الإصغاء إلى الأسئلة الجديدة والمستجدّة ومحاولة صياغة الأجوبة المناسبة لها، وهو غياب أو ضعف لا يمكن أن نفسّره إلاّ بضعف المكانة الممنوحة إلى الثقافة والفكر، وبالتالي إلى المفكرين والمثقفين في رسم تطلعات الشعب وفهم متغيّرات العالم.
وفي هذه اللحظات المتوترة والعاصفة تحتاج البلاد الى مشروع ثقافي آخر، وانجاز هذا المشروع يتم عبر حوار خصب، متنوع وشامل، يبلور خطابا ينتقد بؤس الماضي وعسفه وسلبيات الحاضر ليؤسس لفكر وممارسة متحررة من الأوهام و "المسلمات" التي تقع خارج الزمان الراهن المليء بالتناقضات التي انفجرت جميعها في لحظة "فريدة" حيث يتقاسم الفاسدون وسياسيو اللحظة العابرة اليوم الهيمنة مع الدولة الاسلامية (داعش) في توافق عجيب!
أواخر آب 2015
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
افتتاحية مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 376 - 377
أيلول 2015