ادب وفن

الملتقى العراقي في لايبزيغ: الشاعر مؤيد الراوي في جلسة اسـتذكارٍ وتأبين

مساء الجمعة، السادس عشر من هذا الشهر، التقى جمعٌ من العراقيين، بينهم عددٌ من أصدقاء الشاعر الراحل ومعارفِه، في صالة الملتقى العراقي في مدينة لايبزيج الألمانية، لاسـتذكاره والحديث عنه ومعه. وطوال ما يزيد على الساعتين كان مؤيد حاضراً بينهم ومعهم. لم يكن حاضراً في صورِه الأليفة التي توزَّعتِ المكان مُحاطةً بشموع مضيئة فقط، غالباً ما كان الحضور يُطيلون النظرَ فيها، وإنما عبرَ حكايات ومشاهد رواها الأصدقاء عنه كذلك. حكايات ومشاهد من أزمنة بعيدة وأخرى قريبة. كما حضر الراحل في قصائده التي تناوب إلقاءها أصدقاؤه ومع?رفه.
في بدء الجلسة قدَّم الزميل رحيم الحداد، الذي تولّى إدارة جلسة الاستذكار، نبذةَ عن سيرة مؤيد مشيراً فيها إلى دوره البارز في إطار (جماعة كركوك) الأدبية، وإسهامها في تجديد لغة الشعر العراقي. كما تناول جوانب مما تعرّض له الراحل من ملاحقات واعتقالات بسبب انتمائه الفكري والسياسي.
عَقِبَ ذلك تحدث الزميل عبد المجيد حسين، سكرتير الملتقى، مُستعيداً مشاهدَ من حياة كركوك نهايةَ خمسينات القرن الماضي، حيثُ كانت خطوطُ الشاعر الخطاط وتخطيطاتُه الأنيقة تُزَيِّنُ لافتات وشعارات منظمات المجتمع الكركوكي الديمقراطية آنذاك. وبنبرة يسودها الحزنُ اختتم كلامه بالحديث عن زيارته الأخيرة لمؤيد بصحبة الكاتب والروائي زهدي الداوودي قبل اسابيع ثلاثةٍ من رحيله.
كبيرةً كانت رغبةُ مؤيد وحاجتُهُ، في تلك اللحظات، الى لقاء أصدقاء ومعارف من تلك الأيام الكركوكية، واستعادة بعض صورها معهم. اللقاء الذي ما كان مُقَـدَّراً له أن يتعدَّى الساعة بقليلٍ صارَ لهُ أنْ يَمْـتَدَّ لأكثر من أربع ساعات. في هذه الساعات بدا وكأنّ الأمراضَ وأوجاعَها تنطفئُ إزاء بريق ما يُسْـتعادُ من ذكريات. كان مؤيد وقتَها حيويَّ الذاكرة والحديث والضحكة.
وجاء دورُ القاص والروائي زهدي الداوودي ليستذكرَ صاحبَهُ ورفيقَ ماضيه وحاضره. بدأ الداوودي استذكاره بتأمل فكرة ما أسماه (الحياة بين الحقيقة والموت). ورأى أن كلَّ شيئ يبدو، في اللحظات التي نخطو بها نحو الموت، شديدَ الحزن، مُقفراً، كئيباً، جامداً لا حياةَ فيه. في مثل هذه اللحظات تقترب مفردة الموت، كما يقول الداوودي، من محتواها الحقيقي المرعب. ويخاطب صاحبَه الذي ما عاد له غير أن يتعايشَ مع هذا الموت قائلاً: "إنه يفطر معك . . يتغدّى معك، ومعك يتعشّى. إنه يتسلل إلى شرايينك وأعصابك ويمتص كلَّ ما يقدمه الأطباءُ من?عقاقير شافية. إنه يتناوب معك ليلاً ونهاراً. لقد عذَّبَك ستةَ أعوام".
اشار الداوودي إلى أنّ مؤيد كان رساماً، ورساماً جيداً. طلب منه ذات مرة أن يصطحبه إلى مدينته طوزخورماتو كي يرسم أزهار المشمش البيضاء الطاغية على أجزاء المدينة. مداهمةُ الشرطة لمنزل عائلة الداوودي، قبل ذلك بايام، حالت دون أن تجد زهور المشمش البيضاء تلك مكانا لها في إحدى لوحات مؤيد، وكما تراها عينُه وروحُه.
وكان للكاتب والشاعر حميد الخاقاني، في هذه الجلسة، استذكاره لصديقه مؤيد وحديثه عنه، حيث أشار، في البداية، إلى أنَّ العارفَ بمؤيدٍ، حقاً، تتعدد مداخله إليه وإلى عوالمه وممالكه. ورأى أنّ ممالك الشعر أوسع هذه المداخل وأكثرها سحراً، وتعقيداً كذلك. ومع هذا المدخل الهام والساحرِ ثمةَ سُـبُلٌ أخرى تأخذنا إلى مؤيد: نصوصه النثرية المُصاغة بروح شعرية غالباً، تتأملها عينٌ ثاقبة الرؤية، لا يكاد يفلت من مداها حتى التفصيل الدقيق، ما دام جوهرياً لاستكمال السرد وكمال الصورة.
الرسم والتشكيل وكتابات مؤيد فيهما، أحد هذه السبُل. ومثله الفن الصحفي كتابةً وتصميماً وإدارةً. ويجيء مدخلُ السياسة والانتماء الفكري ليكونَ، في رؤية الخاقاني، طريقاً آخر لمعرفة الراحل والاقتراب إلى جوانب في سيرته الشخصية والثقافية على السواء. في استذكاره يشير الخاقاني إلى أن مؤيد مضى، في وقت مبكر من العمر، شأن غالبية رفقته في جماعة كركوك، إلى السياسة، مُختاراً، مثلهم، الشيوعيةَ واليسار. وكان لهذا الانتماء أثمانه الباهظة، كما هو الحال دائماً عندنا: الاعتقال ثلاث مرات، الهجرة من الوطن، ومواجهة خطر الاغتيال في ?يروت، مع مثقفين شيوعيين ويساريين عراقيين آخرين، اغتالت فرقُ القتل البعثية منهم الشهيد (خالد العراقي). خروج مؤيد إلى ألمانيا لم يكن من دافع له غير محاولة درء هذا الخطر.
ولم يُغفلُ الخاقاني ملاحظةَ أنّ مؤيد لم يُفرِّط، في انتمائه هذا طوال الوقت وحتى رحيله عنا، في الاحتفاظ باستقلالية المثقف وروحه النقدية، حتى لمن، أو لما، تطابقَ حلُمهُ مع حلمه.
لم يحسب الخاقاني، كما قال، أن يكون الموت، هذا اليوم، مدخلَهُ إلى صاحبه. وبعد أن عاد لبعض لقاءاته مع مؤيد، وأحاديثهما في شؤون شتى، بينها أحوالُ المرض والموت باختلاف صوره ومظاهره، أبدى امتنانَه العميق لمؤيد على اللقاءات التي جمعتهما معاً. على كلّ لحظة قضياها معاً، تطابقا فيها أو تناقضا.
أبدى امتنانه لكل هذا الشعر الذي أورثنا إياه مؤيد. الشعر الأخاذ بجماليته، بلغته، بتعدد أصواته، وبدعوته إيانا للتأمل، للمعرفة، وللجدل مع النفس والعالم. وختم كلمته بترتيل مقطع من قصيدة للشاعر الراحل، إذ رأى أن من غير الجائز أن نستذكر مؤيد دون أن نغني له ولنا بعضَ شعره.
كما أسهم الزميل سامي كاظم، عضو الهيئة الإدارية للملتقى، في جلسة التأبين هذه، فقرأ برقية منظمة الحزب الشيوعي العراقي في ألمانيا، في نَعي الراحل وتعزية عائلته ومحبيه. ثم اعقبها بقراءة ما كتبه الشاعر عواد ناصر عن صديقه، معاتباً إياه عن هذا الذي فعله بنا، حيث لم يُتِحْ لنا لحظة صغيرة لنتدبر أوجاعنا العريقة. ولم يمنح أصدقاءه قليلاً من الوقت لوداع، حتى لو كان عجولاً. وتناولت كتابةُ عواد ناصر المؤثرة مشاهد من تجربة اغتراب المثقفين العراقيين في بيروت، ودور الراحل في تلك الفترة في أن يكون هو وبيته وعائلته مكاناً لر?قته العراقيين وجسراً يصلهمُ بمحيطهم اللبناني والفلسطيني في تلك البقعة الضيقة ـ الواسعة (الفاكهاني). وبصواب يقول عواد في كتابته هذه: "كم كان مؤيد مليئاً ومثقفاً وصادقاً وهو يلتقط لحظة الابداع أو معضلة الحرية أو ذكريات الستينات فهو أفضل شهودها وأكثرهم مهنية في كتابة "خبر" الحرية أو "وهم" الحرية الذي لازم العراق ومثقفيه وسياسييه".
وفي منتهى الجلسة تحدث الكاتب صادق البلادي عن علاقته بالراحل ومهاتفاته الأخيرة معه. ثم قرأَ ما كتبه الشاعر سعدي يوسف عن مؤيد حالما وصله خبر رحيله، إذْ لم يرضَ أن يكون غياب مؤيد عنا غير رحيل له نحو النجم. ويشير سعدي في كلمته هذه إلى صدور ديوان مؤيد الثالث (سردٌ مفرَد) الذي ألحَّ سعدي بصدده كثيراً. وترتدي لحظة صدور الديوان، في كلمة سعدي، بُعداً وجودياً تُكثِّفُه جملة فيها تقول: "الكتابُ يَحِـلُّ، مؤيدٌ يرحل".
ويخَلُصُ سعدي في كلمته إلى استنتاج نقدي، يعتبر فيه "مؤيد الراوي، أساسَ التحديث في قصيدة النثر العراقية فالعربية. فهو بتكوينه الثقافي الممتاز، بأنجلوسكسونيته الباذخة، براديكاليته العميقة، بنظرته المتعالية قليلاً، استطاع أن يكتب شعراً مختلفاً، فيه من الجِدّ واحترام العملية الفنية ما ينأى به عن الاستسهال والتعجُّلِ وتفاهة المنبر السياسي".
الكثيرون منا لا يختلفون مع استنتاج سعدي هذا.
ويظل شعر مؤيد وكتاباته، وذكرياتنا معه وعنه، أمكنةً للقائه والاغتناء منه، حتى بعد رحيله الموجع عنا.
لايبزيغ - ح. خ.