ادب وفن

الشعر الشعبي من الرومانتيكية إلى تخصيب المظاهرات الشعبية / جاسم المطير

ربما استوقفني الحضور الزاهي لقصيدة الشاعر الشعبي رياض النعماني بكلماتها الخمسين، المنشورة في جريدة طريق الشعب 20 – 9 – 2015 لاستخلص إحساساً بأهمية ودور الشعر الشعبي، المنفتح في الوقت الحاضر، تحت رايات ولافتات المتظاهرين العراقيين. هذه القصيدة مكّنت الشعر الشعبي من الدخول إلى وسط الناس، متحولة إلى أداة تحرّك استعداد المتظاهرين وتعمق موهبتهم، بمواصلة رحلات التظاهر الاسبوعية - كل يوم جمعة - لتستقيم في ساحة التحرير بأيادٍ متشابكةٍ، بصداقة ايجابية خلاقة . قيل عن قصيدة الشاعر النعماني : (( أنها أغنية كُتبت ولُحنت في لحظة اندفاع "مظاهراتية" واحدة خلقها "العود" ووهج أصوات الناس الخارجين بالحب ووعد بالمستقبل ومحبة العراق الذي صار عراقاً آخر تحاوره القلوب بضوء الأعماق المسكوبة في تعب يؤاخي الغصون بالظلال والثمرة بالندى)).
أولدتْ ، هذه القصيدة، عندي، أشياء كثيرة عن نمو العقل الشعري وحاجته الشعبية المتصاعدة إلى السمو ،والتميز بالأسبقية المعرفية ، ليكون له منتج حقيقي في زمان تنمو فيه تويجات نضالية جماهيرية جديدة في ساحات وشوارع عراقية كثيرة ، تنطلق فيها أصوات متظاهرين بالآلاف من الناس ، رجالاً ونساءً، أكثرهم من الشبان والفتيان اليافعين، ينادون بعزمٍ أكيدٍ أن (نخلتنا العراقية تظل عالية وأن شعبنا لن يركع ).
تحت يدي ديوان شعر قديم للشاعر رياض النعماني عنوانه (إمام الورد) صادر عام 1990 يمثل في أغلب قصائده مرحلة رومانتيكية، حيث تميزت بإبداع فنيّ منصرفٍ إلى نافذة وجودية مطلة على حياة إنسانية قلقة، عاشها الشاعر قبل سقوط الدكتاتورية. ربما يكون الشاعر النعماني قد احتل بهذا الديوان مكانة شعرية هامة. لكن (قصيدة الخمسين كلمة) أرادها ، أن تكون تعبيراً يتلاءم مع مرحلة نضالية جديدة ،تتجلى فيها قدرة فنية و رغبة عارمة للدخول ، بهما، إلى بيئة المتظاهرين العراقيين في هذه الأيام.
تتحدث هذه القصيدة عن تلبية الشعر الشعبي لواجب الاصطفاف في معركة الدفاع عن حقوق الانسان العراقي، الضائعة في زمان عراقي شجاع.. زمان يريد استكمال مقومات وجوده الديمقراطي.
من هنا ظهرت ريادة ثورية في مظاهرات الشوارع مع نهوض طلائع جماهير شعبية، مندفعة بثقةٍ عاليةٍ، وبالتزام مثقفين ملتحمين معهم ، في مقدمتهم شعراء شعبيون كثر من أصحاب وأوزان وأمثال ورفاق رياض النعماني كـ(سامي سلطان، كاظم السيد علي ، حمزة الحلفي، حميد الموسوي، عريان سيد خلف، نجم خطاوي،ريسان الخزعلي، طارق حسين، إبراهيم الخياط، كامل الركابي ، سامي عبد المنعم. ) وغيرهم من الشعراء ممن حملوا قصائدهم لتحريك الذات الشعبية النضالية، ممن يريدون اجازة التراث في الشعر الشعبي بالتحوّل إلى خطابٍ تحريضيٍ في الشوارع والساحات العامة .
تجارب شعرية جديدة، تفرض نفسها في هذه الأيام، بحاجة إلى فتح ابواب الحوار لتعميقها وتطويرها لتصبح علاقة مهمة ذات ابعاد تطبيقية في الرؤية المشتركة بين الفنانين والكتاب والصحفيين وعامة المثقفين والجماهير الشعبية المتظاهرة .
في زمان العراق المعاصر نهضت منذ عام2003 حالة عجيبة من شخوص حاكمة ، متسلطة على القوانين، لا تستوي عندها ملامح الشخصية الانسانية ولا تفاصيل ديمقراطية المجتمع كما تدّعي، حتى ظهرت في الحياة العراقية الجديدة تركيبات وصعوبات وعذابات في كل بقعة من بقاع الوطن، تؤول في أفواه الكثير من المسئولين، الذين تلطم رؤوسهم أحجار الفساد ، لا صوت في أعماقهم وأياديهم غير نهب وتضييع أموال الدولة وثروات الشعب.
قصيدة واحدة محدودة الكلمات وظّفها شاعرها - رياض النعماني - في إطار التجديد التاريخي، الذي تنتجه الاوضاع الحالية في بلادنا والقوى الاجتماعية المتصارعة فيه ، حيث:
((هذا الشعب ما يركع
يطلع،
ويبقى يطلع
وسلطة الظالم توگع
وهذا الوطن
وطنا
جرحك حنه
وهذا الوطن وطنّا))
داخل بنية قصيدة النعماني يمكن اكتشاف ورؤية افكار شعبية – شعرية بأسلوبية جديدة أقل ما وجدته فيها أن الشعر الشعبي المعاصر يتحوّل من (الوضع التراثي) إلى (الأصالة العصرية) الباحثة عن حلٍ جدلي للتعارض القائم في مجتمع يجري تفكيكه بمنهج (المحاصصة) و(الطائفية) و(الفساد المالي) و(الإرهاب) . القصيدة القصيرة هذه تجعل السامع والقارئ والناقد قادرين أن يكشفوا العلاقة الموضوعية بين (الشعر الشعبي) و(الحراك المدني) في تاريخ هذه الأيام .
ملاحظتي الأولى أن الشعر الشعبي قد حقق حداً عالياً في المشاركة الواسعة بعد 2003 في الحركة الثقافية التعبوية . لقد تجاوز الشعراء كل موانع (تحديث) و(نهضة) هذا النمط من الشعر ليدخل في الاسابيع العشرة الاخيرة إلى اطار جغرافي ونضالي ،جديد النوع، في المظاهرات الجماهيرية ، في بغداد وفي اغلب المحافظات.
الجديد في الشعر الشعبي أن مفردته، صوره، تفعيلاته، قد نجحت، جميعها، في تحويل نفسها إلى (ميكانزم تحريكي) لإعادة انتاج (القدرة الجماهيرية) على (التألق الشعري) في المظاهرات. أي أن الشعر الشعبي العراقي اندفع قطاره راعداً في الشوارع والساحات العامة، لينضم مباشرة إلى جماهير الغاضبين، المنتفضين، المحتجين، على ضياع الحقوق الانسانية.
لم يعد الشعر الشعبي محصوراً في إلقائه داخل القاعات المغلقة أو على صفحات مطبوعة ، بل استيقظ على طريق الشاعر التشيلي بابلو نيرودا ،واسلوب الروسي افتشنكو ،محاكيا شعر المناضل العراقي مظفر النواب، بإضرام نيران الكلمة في سماء الظالمين، ناشراً لهيباً حارقاً بوجوه كل انواع الفساد والفاسدين .
صار الشعر الشعبي حاملا ليس لهوية تراثية فحسب، بل صار (أداة تحريضية) في زمان الوهج النضالي ، في غمار يمضي من (الصمت) إلى (الكلام) ومن (الشلل) إلى (النهوض) ومن الاسترخاء في الليل الطويل إلى ضوء الشوارع والساحات لعبور مرحلة (باطلة) حملت مسميات الفساد المالي والاداري، والمحاصصة السياسية، تجمعت كلها لتجبر الناس الفقراء على البقاء راقدين في أحضان الجوع والبطالة والفقر والجهل والمرض. لقد أصبح قطار الليل (قطار حمد) متحركاً في الأرجاء العراقية كافة .
في الحقيقة أنني تعرفتُ إلى اشعار رياض النعماني ليس من دلالات قصيدته الأخيرة فحسب، بل من خلال لغته وثقافته وخصوصيته .. من ديوانه (إمام الورد) الذي سبق وأن أهداني نسخة منه عام 1999 حينما التقيته في مدينة مالمو السويدية . وجدتُ هذا الديوان الغزلي قد حمل جهداً شعرياً عالي النظرية والتجديد ،حاملاً نوعاً من اليوتوبيا بأمل حصول التغيير في تراث الوطن والشعب ، بالتحرر من سيطرة النظام الدكتاتوري وحذفه إلى الابد من التاريخ العراقي واسقاطه في المزبلة.
لكن هذا السقوط والحذف لم يحققا إرادة الشعب وتطلعاته كاملة، فقد فتّت العقل الحاكم الجديد بعد عام 2003 وحدة الشعب مهدداً بانقسام الوطن . السبب يكمن في فاعلية الأحزاب القبلية والدينية، بمحاولة فرض (المحاصصة السياسية) وتغريب عملية الانتصار على الدكتاتورية، خاصة في سياق ارادة الاحتلال الامريكي لبلادنا مستنداً إلى فرضية (الفوضى الخلاقة) كناتج مكشوف في الساحة العراقية، التي ابتليت بنيران تطرف ديني على يد تنظيم القاعدة - ابو مصعب الزرقاوي - اثناء زمن الاحتلال الأمريكي المباشر، من ثم حضور تنظيم الدولة الاسلامية (داعش - ابو بكر البغدادي) بعد انسحاب القوات الامريكية من العراق على وفق اجراءات واتفاقات استراتيجية ذات اشكالية .
كل شيء تغيّر خلال 12 سنة في الاطار السياسي والثقافي والاجتماعي ،حيث تخصيب الاوضاع بإحياء بعض قيم الماضي البعيد، الذي لا يجد فيه المثقفون عموماً والشعراء الشعبيون خصوصاً اي تأسيس لنهضة عراقية حقيقية.
اقول هذا القول من خلال استنتاجي أن تراث الشعر الشعبي انقسم الى ثلاث وجهات:
(1) الأولى نجد فيها خطاباً متوجهاً الى التراث الديني والقبلي.
(2) الثانية نجد فيها خطاباً متردداً بين الحداثة والتراث.
(3) الثالثة نجد فيها ايماناً بحتمية التقدم الانساني وبالمسيرة الواعية للتاريخ في عصر التكنولوجيا والتنوير المهيمن على الفلسفة الانسانية المعاصرة.
مجموعة الحداثة والنهضة في الشعر الشعبي لا تنطلق من فراغ، فالتفجير التكنيكي الفعلي، داخل ميدان الشعر الشعبي، الذي احدثه مظفر النواب في قصيدته (للريل وحمد) في أواخر خمسينات القرن الماضي، كان ولا زال شكلاً من اشكال الصراع الضمني بين (التقدم) و(التخلف) أي بين الحداثة التكنولوجية والعقلية البدوية البدائية.
جيل مظفر النواب منهم رياض النعماني وعدد كبير من الشعراء الشعبيين يملكون خطاباً أصيلاً حائزاً على الخصوصية والابداع ، حائزاً على قدرة وامكانية حل اشكالية الشعر الشعبي وممارساتها، التي يمكن أن تكون تياراً ثقافيا – فكريا مناهضا للسلفية ،خاصة إذا ما تحوّلت إلى انبعاث حقيقي في وعي الجماهير الريفية .
من ملاحظاتي الرئيسية بهذا الصدد أن قسماً ليس قليلاً من الشعراء الشعبيين يتراجعون و يترددون عن المجتمع الريفي إذ يعتقد هذا البعض أن الريف لم يعد صالحاً لتجسيد التجديد الشعري بسبب ضعف الوعي أو انحطاطه في تلك البقاع وان نقطة بداية مسيرة (قطار ليل مظفر النواب) تم تجاوز سكتها . لكن الحقيقة تقول : ما زال الشعر الشعبي وسيبقى اداة من ادوات ثقافة تحرير المرأة ،وتحرير الفلاح من الجهل، وتطويع المواطنين جميعاً على منجزات العلم والتكنولوجيا الحديثة.
أكبر وألح مهمات الشعر الشعبي في المرحلة الراهنة أن يبني الشعراء الشعبيون تصوراً كاملاً للمفردة الشعبية، للعبارة الشعرية، وللصورة الشعبية، بصورة موحدة ومنتظمة ، وبفهم حضاري تاريخي، متجاوزين كل الوقائع المذهبية والاثنية.
ينبغي أن يفهم الشعراء الشعبيون أن تراث اشور وبابل وسومر ، كما إشراقات التراث الاسلامي العربي، هو نتاج العراقيين كلهم. نتاج المسلمين والمسيحيين، نتاج العرب والاكراد والتركمان. ربما يظلم الشعراء الشعبيون نتاجهم إذا ما تصوّر بعضهم أو توهموا أن لكل أقلية أو أكثرية شعرهم الخاص بهم منقطعاً عن أشعار غيرهم، مما يجعل الشعر الشعبي محبوساً بنطاق جامد، ضيّق.
منجم التراث الشعري هو ملك جميع الشعراء الشعبيين الممسكين بتلابيب المعرفة الشعرية، والمسيطرين على موضوع القصيدة، بهويةٍ ذات أصول إنسانية، تؤمن أن تراث العالم، كله، الاغريقي والروماني، الرأسمالي والاشتراكي، ، الشرقي والغربي، واجب الدراسة في مراحله القديمة والحديثة .
مظاهرات ساحة التحرير ببغداد والمحافظات هي في جوهرها (قصائد شعر). هي مادة أدبية في شعاراتها ، مادة فنية في حركاتها وصراعاتها ،خاصة إذا ما جوبهت بمواقف قاتمة من السلطان الحاكم أو من شرطته .
المظاهرة – القصيدة تحمل ألواناً عن شعارات أو أصوات أو صرخات حياة فاجعة، أو عن مآسٍ معينة أو عن أوجاع الشعب أو عن بعض عذابات الناس الفقراء . ما زلتُ احمل في ذاكرتي اجمل صفحات ،شاركتُ فيها وعرفتها مباشرةً ،من تاريخ مظاهرات البصرة وعمال الموانئ والنفط والدوكيارد ومصلحة نقل الركاب وعن اضرابات الطلاب في مختلف مدارسها من القرنة حتى الفاو. نفسي تُراجع تلك المظاهرات دائماً، لتجد أن شعراً شعبياً ما قيل في مسيرتها لحظة وجودها كما هو حال مظاهرات هذه الايام في ساحة العاصمة ، وفي شوارع المدن الأخرى، إذ يقال فيها شعراً شعبياً بأصوات المتظاهرين نقلاً عن شعراء شعبيين ، مما يضيف إشراقاً لروح المظاهرة والمتظاهرين.
صار الشاعر الشعبي صوت المظاهرة ورسّامها ونحّات تجربتها وصوت محبة المتظاهرين لوطنهم.
صار الشعر الشعبي صوت الحقيقة في الشوارع والساحات العامة.
لا بد من التأكيد ،هنا ، أن سيرة مقالتي هذه انبثقت من وقوفي عند متن (الكلمات الخمسين) لقصيدة رياض النعماني ، فقد شعرتُ أنني أثق جداً بالتكوين الثقافي – الجماهيري الصادح ،الذي وجدته، أيضاً، في قصائد اصحابه الشعراء الشعبيين ممن أتيت بأسمائهم في نفس هذه المقالة ، من الذين صوروا بقصائدهم مزايا نضالية فاضلة في أخلاق المتظاهرين، الصابرين على مكاره الحياة العراقية الصعبة ، المحتجين على خطوبها بالهتاف المدوي، وبشراع القصيدة الشعبية، جديدة النوع والزمان والمكان، بما يسر قلب وخيال شاعر الشعب (مظفر النواب) الذي منحته حياته النضالية المريرة صبراً طويلاً في غربته القاسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 20 – 10 – 2015