ادب وفن

رؤيا محمد بن صادق بن علي بن عبد الله الموسوي

جمع وتقصّي وتدوين / جاسم عاصي
استهلال
وما عندي في ما تبقى لي من الدنيا، غير رضا الله ورضاك. فأنت منذ عاشرتك وتوصلت إلى بعض ما فيك من خصال الورع والتقوى وحب المعرفة والكشف عما هو مستور ؛ لم أجد مثله في من عرفت وعاشرت ، حتى تجلـّت لي الحقائق واستتب لي أمر كان ضائعا ً بعيدا ً، فقد عرفت منك بالدليل ؛ ما الذي يعنيه الإيمان بالأشياء ..؟ وكيف تكون الحال بعد ما يبدأ المسعى..؟ فكنت مثل فنار صادفه البحـّار التائه في صحراء البحر . وفعلا ً أنت كذلك . فنحن ما التقينا إلا ّ في المطلق ، صحراؤنا العتيدة التي ضيعتنا وأوجدتنا من منطلق إماطة اللثام عن النفس ، وتعرية المستور والتستر على المحذور . فالجب الذي كان حاضنتي هو نفسه الذي ضيّعك ، فكنت طعاما ً للذئاب ..! ليتهم عرفوا إن ما يكسي جسدك ليس اللحم ، وإنما العلم ، لعافتك إلى صحرائك تستلذ بوحدتك فيها .
لم أبخل عليك بما تدربت عليه من حرفة الكتابة ، التي قلت لي عنها يوما ً : إيّاك أن تجعلها تجزية للوقت ، وإنما جادتك التي تسلك بواسطتها إلى مرضات الله .. فأقدمت ، وأول ما فعلت أن دونت كل ما له شأن بعلاقتنا في روايــــة كتبتها وطبعتها بعنوان
"ليالي المنافي البعيدة" تيمنا ً بنفيك لنفسك تجنبا ً لشر الأزمنة القاسية . يومها كنت منفيا ً مثلك ، ولكن لأسباب غير أسبابك . كانت محطتنا هي مفترق أور الكلدانية ، حيث كنا نلتقي وتمتد الحكايات بيننا طويلا ً ، نتناقل اخبار المعرفة ، وأنهل من بئر علمك ونظرتك المشوبة بالارتباك أحيانا ً . ولا أنسى ليلة وجدتك تبكي في مقبرة أور ..! وحين سألتك عن السبب ، قلت تذكرت البارحة المتنبي . فعرفت عمق ما كنت تعانيه... فتبعت خطاك حتى افترقنا ، فما عثرت إلا على وصيتك من أحد عتاة الصحراء ومحبيها ، فامتثلت لما أوصيت به.
ماذا أقول الآن ، بعد أن فرغت من تنفيذ وصيتك وتفرّغت لمخطوطتك ...؟
ماذا أفعل...؟ غير مرضاتك... فأقدمت . وها هي مخطوطتك بين يديّ ، كما أردتها أن تكون . فإليك مني السلام يا أبا زهير .. فأبوتك قد هذبّت روحي ، ورققت قلبي ، ووهبتني حسّا ً جديدا ً كان ينمو في داخلي منذ صباي ...
ما قبـــل المتــن
ها أنا أعود إلى ما ذكرته في رواية "ليالي المنافي البعيدة" والذي أرجأت في حينه القول فيه، وما توجب علي فعله بوصية صديق مسيرتي ومنفاي "أبو زهير" إذ لم يتسع الكلام والذكر لها آنذاك ، وقد وعدت بأني سأفرد له رواية أخرى لتدوين كل ما يخصه في حياته أو بعد مماته ، خاصة مخطوطته التي عثرت عليها من بعد وصيته والتي عنونتها كما خوّلني بـ "المستور والمحذور" فمنذ أن ضيفني القوم في مضيفهم بعد أن اقتفيت خطى أبي زهير في الصحراء ، وعرفوا مرامي ، لبـّوا مرادي . حينها بادرني كبيرهم داخل بيت الشعر ما أن سُئلت عن ضالتي، وذكرت أني أرمي إلى معرفة أخبار امرئ جاب الصحراء، واختار دربه فيها . لحظتها سألني:
ــ ومن يكون هذا الرجل ..؟
فوصفته باختصار :
ــ رجل نحيف كالسيسبان ، لا يقوى على حمل جسده ، لكنه لا يظهر هذا للرائي .
نظر كل واحد منهم إلى صاحبه .. وسأل كبيرهم :
ــ وهل يمتلك حلالا ً مثلنا ..؟
ــ كلا .. فقد خرج من الدنيا بعلمه فقط ، وهذا خير المال عنده ، واكتفى بأن يكون جوّاب الصحراء .
ــ وجاب الفيافي ..؟
ــ بلى .. ولم تثنه عن ذلك قوة .
ــ وهل أضعت أثره فجأة ..؟
ــ قيل لي في محطة قطار أور إنه انحدر إلى محطة الجليبة فتبعته ، وفيها
قيل أنه غادر بهذا الاتجاه .
ــ وهل هو قريبك ..؟
ــ لا .. لم يكن كذلك .. لكنه أبي .
ــ كيف يكون هذا ..؟!
ــ فهو من علـّمني وصحح دربي فاتسعت رؤيتي بمعرفته ، وتلك والله صفة الأبوة .
ــ وما اسمه ..؟
ــ أبا زهير .
ــ وهل أنت سعيد ..؟
ــ بلى أنا سعيد الناصري . ولكن كيف عرفتني ..؟!
ــ من كثرة ما كان يلهج باسمك ويذكر محاسنك . ولا أخفي عنك .. سيماهم
في وجوههم .
ــ حمدا لله .. فها أنا أتبع أخباره .
طأطأ القوم رؤوسهم ، فعرفت ما يضمرون ويخفون ، إذ قلت :
ــ ونعمَ بالله ، فأني مُـدّرك مصيره منذ زمن بعيد ، فدربه شائك وزمانه فاتك .
قال وقد دارى الحشرجة التي شابت صوتي :
ــ رحمه الله .
ــ وكيف توفي ..؟
ــ كان معنا وأنت تعرف أننا عرب رحـّالة . طلبنا منه وترجيناه أن يحل معنا ،
أينما نروم طلبا ً للماء والكلأ ، ويحط معنا ونفرد له بيتا ً بعيداً عن بيوتنا ،
لكي لا يضايقه أحد لكنه لم يوافق .
ــ لقد كان يبحث عن شيء لا يعرفه إلا ّ الله .
ــ كم استفدنا من علمه وصبره ، فقد رحلنا عنه ، غير أننا كنا نتابع خطاه . فالفرسان
يمتطون جيادهم ويدركونه في مكانه ، يتفقدونه ويزوّدونه بالماء والطعام . هكذا واصلنا
الاتصال به . وفي آخر مرة لم يجدوه ، فبحثوا عنه هنا وهناك ، فلم يعثروا إلا ّ على
بقايا عظام وقطع من ملابسه ، جمعوها وأتوا بها . أودعناها الأرض هناك كما ترى .
وأقمنا له مجلس عزاء لسبعة أيام كاملة ، رحمه الله . نحرنا خلالها بعيرا ً وسبعة
خراف ، رحمة الله عليه .
قال آخر :
ــ لقد كان دائما ً يقول لا يتبع خطاي سوى سعيد ، فقد وهبه الله لشيخوختي . فهو
متعلق بك كثيرا ً .
ــ وأنا كذلك .. فنحن غريبان في صحراء لا أول لها ولا آخر . التقينا على شيء
قريب منا نحن الاثنين .
ــ لقد ترك إليك أمانة أوصى بها إليك ونحن لها حافظون .
نهض إلى صندوق قريب من جلستنا . فتحه وأخرج قطعة قماش ملفوفة كالصرّة الصغيرة . وضعها الرجل بين يديّ وغادرتهم من بعد ذلك ، حيث أوصلني بعضهم إلى محطة الجليبة ... وحين حانت فرصة اختليت فيها مع نفسي . أخرجت الصرّة وفتحتها ، ثم فضضت ما بداخلها من ورقة ، فارتعشت أوصالي . ها هو خط أبا زهير مسطـّر على أحسن صورة لم تشبه شائبة ، وانبريت بالقراءة :
" ولدي سعيد ..
أنت تعرف مقدار حبي لك , فما زلت أتذكر أقوالك التي قرّبتك منـّي وتأكدت ؛ ما أنت بالغ والله إلا ّ مرادك في الدنيا والآخرة .لذا لا أترك ما أحب وأهوى إلا ّ بين يديك . أوصيك يا ولدي أن تسافر إلى مدينة بانيقيا وحين تحلّ بين ظهرانيها اقصد منطقة الطوسي ، وعند العطفة الثانية وأنت تغادر ضريح أمير المؤمنين, أدخلها ولا تنظر سوى إلى الجانب الأيمن ، فلا ترى سوى بيوتا ً قديمة متداعية فأول بيت اتركه، فقد حوّلَ إلى معمل لصناعة الأحذية والخِفاف كما عرفت اتركه ..
واترك الثاني أيضا ً وعليك بالثالث, ادخله غير مبالٍ، فربما هجره أهله الآن، وسم باسم الرحمن. وحين تحلّ وسط باحته ستجد قبرين ,أحدهما لجدي الأول والآخر لجدي الثاني... وأمامك باب لسرداب. أنزل إليه، مطأطئ رأسك وما أن تنتهي درجات سلــّمه حتى تواجه جدارا. أدن منه واحسب الطابوقات الخمس التي في وسطه إلى الأسفل . وعد مثلها وعددها إلى الأعلى، ثم أزل ما بينهما عن الجدار فقط المحصورة بيــن العددين ستعثــر على مخطوطة كنت قــد أخفيتها عن عيـــون الرقباء والبصّاصين .إليك وليس لغيرك أوكِل أمر تحقيقها والانتفاع منها ، أهبها بكاملها وما يترتب عليها ومنها . إليك وحدك ولا أحد سواك يا سعيد يا بن الناصري وسوف تجد وصية في داخلها تكشف الأمر وتثبت توكيلي لك أو لمن يعثر عليها بعد سعي ومثابرة في البحث ..
جزاك الله خير الجزاء يا ولدي وإليك منّي السلام.
"أبو زهير"
وها أنا أضع المخطوطة أمامي وبين يديّ ، تلازمني ليل نهار ، لا شغل لي غيرها ، فهي مرآتي حين أنوي رؤية صفحة وجهي ، إذ تنفتح لي الدنيا بأوسع الأبواب . وسأبدأ الخطوات في تحقيقها ، متقصيا ما هو مخبأ من سر وحق وعدل ومعرفة لزاد الطريق لي وللجميع . وثقوا بأنني سوف لا أزيد عليها ولا أحذف بقدر ما أعرضها وأدرسها ، لأفك لغزها لنفسي ، واترك الأمر لكم فيما ترون فيها . فالنص حمـّال أوجه . كل الذي تدخلت فيه هو وضع عنوان مناسب لها . وكان اختياري له على وفق ما قرأت وما عرفت عن أبي زهير ، رفيق الصحراء والمتاهة الدائمة . فهو من اختار الموت طريقا ً ، وبقي أن أختار كشف المستور في ما هو محذور من تقصّي النص الذي كتبه بخط يده ، حذف منه ، وأضاف حواش وهوامش ، فما ترك زاوية إلا كتب على أديمها ملاحظاته التي تكشف رؤاه .
لقد ارتأيت أن تكون متابعتي للمدونة بواسطة القراءة ، حيث أتوقف على سطورها وجملها ، وأشتغل على ما أرى أنه يحتاج لملاحظاتي . فأنا بحكم معاشرتي له ، أنوي كشف ما كان عليه ، وهو في زمن هجره المدينة ، ومهد علمه ودرسه ، هائما ً في الصحراء التي لا أول لها ولا آخر . فدروسه لي بليغة ، لابد من ذكرها وأنا أكشف عن خفايا نصه ، لكي أجمع بين ما كان يرى وأنا أصاحبه ، وبين ما كان يراه في ما مضى من حياته فقد ذكر لي الكثير ، وجدت في مدونته شذرات نقية منها . إذ امتزجت السيرتين معا ً . سيرته معي ، وسيرته وهو بين قومه الذين نفر منهم ، وآثر التيه بديلا ً عنهم . ولا أخفي عنكم ما توقفت عليه من آراء هي بمثابة بنى فكرية ، كان يتداولها معي ، في الوقت نفسه وجدتها من مداراته الذهنية مع نفسه ، فآثرت التنبيه اليها . فأنا أؤدي وظيفتين ؛ الأولى منها : قراءة النص لكم من خلال روايتي هذه والمعنونة "المستور والمحذور"، والثانية: ربط الأجزاء بالمراكز ، سواء كانت الحياتية أو الفكرية منها . فهو ليس برجل عابر يمكن الاكتفاء بما كتب من باب الاطلاع ، وإنما هو محرك لكل مطـّلع مثابر على الوقوف باحترام إزاء ما يتركه العقل الإنساني لمثل هذه الرموز ، التي ما تركت جعجعة وراءها أو حولها ، بقدر ما أنبتت الأرض من بنات وشذرات فكرها ، وخير أسئلته مشفوعة بأجوبة ، هي الأخرى تبدو حائرة قلقة إزاء ما واجهه من اضطراب ومحق ومصادرة .