ادب وفن

أنا و«لطيف الراشد» في علبة سردين / عبدالكريم العبيدي

الآن، وأنا على فراش المرض، لا أحسب أن صديقا أو قريبا من الراحلين أفتقده أو أتذكره أكثر من «لطيف»، لا أدري لماذا يطل «الراشد» علي الآن بأوجاعه وأنينه ووجهه شديد التغضن!؟، يبدو أن الفراش الذي ينوء بي وأنا مريض يشبه ذات الساقين النحيلتين اللتين طالما ضجرت بتجواله مريضا، بيننا مرض ووحدة، ويجمعنا ذات الأنين، وتحف بنا ذات الأوجاع، لذا فهو مازال قريبا مني، هكذا أراه الآن، هكذا أشعر أنه ما زال يهمس لي عن حقيقة هذا وذاك، ومازال مذعورا، قلقا، يبحث عن لقمة، «شيش تكه»، كأس، ومأوى ضيق يسعه بحجم «علبة سردين فارغة» في آخر الليل، كما كان يحلو له دائما أن يصف غرفته البائسة في الحيدرخانه.
هكذا هو لطيف بعيني الآن مذ عرفته، أما بحسب ضياعه وتشرده فهو أقل من بقايا إنسان كثير الهجاء لنفسه والاعتراف «باللاشيئية» التي يحس بها في حياة معدمة ومسلوبة من كل شيء عدا «كيشوانيتها» المخصصة لأمثاله- وهل للطيف من شبيه!؟- ترى أي قسوة شديدة تسفح من هذا الشعور الجارح!؟.
الآن أراك يا لطيف، أشعر أنك معي في غرفتي، كلانا نتقاسم أوجاعنا بصمت، لا أحد يسأل عنا، لا أحد يتذكرنا، «مَنْ يذكرنا»؟
عرفت الراشد في تسعينيات القرن الماضي، في أوج آلامه وأوجاعه، في أعوام الحصار اللعينة التي فتكت به أكثر من غيره، كان يتسلل بعناد غريب وعجيب إلى مبنى جريدة القادسية ليسلم قصيدة قصيرة له، وكان مصير القصيدة في أغلب الأوقات هو قمامة الأشرطة الورقية المرمية على أرضية القسم الفني الذي كنت أعمل فيه مصمما، أو لأقل «ملزكا» لمواد بعض الصفحات قبل طبعها، وحالما أعثر على احدى تلك القصائد أسارع إلى إعادة درجها ضمن مواد الشريط، ثم أمنحها مكانا صغيرا في الصفحة الثقافية لترى النور في اليوم التالي – لم أخبر الراشد ولا غيره بفعلتي تلك خشية أن يبوح بها يوما في حالات ثمالته اللا تحصى، حتى سقط النظام السابق.
لم يكن الراشد مثار بغض وسخرية من بعض من تعاقبوا على رئاسة القسم الثقافي في الجريدة – باستثناء صفاء صنكور- حسب، وإنما من قبل الكثير من المنتسبين في الجريدة، حتى من لا شأن له في التحرير، وهذه صورة فاسدة من صور صحافة النظام السابق السيئة في كل شيء.
كان لطيف «يتهندم» من حين إلى آخر، يحلق ذقنه ويسرح شعر رأسه الأشيب ويرتدي بذلة «لنگه» وقميص وربطة عنق، فيبدو وسيما وأنيقا، بينما يبقى في بقية نهاراته رث الثياب، أشعث الشعر، مهملا، وتلك هي دورة أفلاك مزاجه وتقلباته، أما أكثر ما شاهدت لطيف في تلك الأعوام، فكان مع صديقي الشاعر المبدع كاظم غيلان الذي تجرع ذات الكأس التي شرب منها الراشد، وكان يقاسمه العوز والحرمان والضياع.
في الليالي الخاوية تلك كنت أصطاده في الحانات ثملا وجائعا ومفلسا كعادته، يستقبلني بحفاوة بالغة ويكيل لي المديح، ثم أكتشف أنه غادر الحانة فجأة، ربما لأنه عثر على من سيتكفل بمساعدته – وجبة عشاء، أو سيارة تقله إلى مأواه، أو المبيت معه، أما في النهارات فلم أعثر عليه يوما.
بعد سقوط الدكتاتورية البغيضة، توطدت صداقتي به كثيرا، وحالما تعرف علي وعلى تاريخي السياسي الذي أخفيته منذ أكثر من عقدين، التصق بي، ونشأت بيننا مودة كبيرة، وكثيرا ما ظل يردد: «آني ما أدري بيك هالشكل، ولا أدري بجنوبيتك، عبالي من ذاك الصوب»!
في جريدة الساعة التي عملت بها رئيسا للقسم الثقافي، كان للطيف بابا للنشر، وطالما ساعدت في منح الجريدة مكافآته في اليوم الذي يلي نشر قصيدته، وكان «يلقف» المكافأة ويطير بها إلى اتحاد الأدباء، فأجده عصرا هناك منتشيا سكرانا، وحالما يشاهدني يهرع نحوي ويحضنني مرددا آيات المديح ذاتها، وعدم معرفته بي طيلة الأعوام الماضية، وتلك لازمة ظل يرددها كثيرا.
بعد ما يقرب من عام عملت مراسلا لاذاعة البي بي سي في بغداد لأكثر من ثلاثة أعوام، وكثيرا ما ظل لطيف يتردد على المكتب ويشكو لي ولأبي سدير سوء أحواله فنقدم له مساعدتنا ونحتفي به ونكيل له المودة والاحترام. وكلما ذهبت ظهرا إلى حانة اتحاد الأدباء القريبة من مكتب الإذاعة ينهض كعادته ويعيد تعبيره عن مودته لي، ثم يمسك بقلمه ويكتب رسالة أو قصيدة إلى صفاء صنكور ويوصيني بإيصالها له، حتى امتلأت حقيبتي الصغيرة برسائله وقصائده القصيرة.
ذات يوم طلبت منه أن يكتب كل شيء عن حياته وذكرياته وطقوسه وأشعاره فوعدني بذلك، ثم فاجأني بعد أيام وقدم لي (دفتر أبو مئة ورقة مدرسي)، ملأه بالكثير من الذكريات والآراء الجريئة والمواقف، وما زلت محتفظا به وأنتظر الفرصة التي سأنشرها مرفقة بمقال مسهب عن لطيف الإنسان والشاعر.
كانت بعض صفحات الذكريات مدونة بخط بارع – كتبها في لحظة صحو، بينما كانت بقية الصفحات عسيرة جدا، تحتاج إلى وقت كبير كي أدرك معناها – كتبها طبعا في لحظات ثمالته.
لطيف الراشد شاعر لحظوي، شفاف، بسيط، ثقافته محدودة، لا ينتمي أو يحسب إلى جيل أو جماعة شعرية ما، ولم يكن ينتظر من أحد، بسبب شعوره بالإقصاء، أن يلتفت إليه أو يكتشفه يوما، كان يهرع إلى كتابة قصيدته كمن يهرع إلى مد يده في جيبه لإخراج علبة السجائر في أية لحظة، لم يكن ملما ببحور الشعر أو التفعيلة أو قصيدة النثر، كان يكتب أوجاعه بشفافية وتلقائية عجيبة، وكثيرا ما كان يفقد ما يكتب، وأزعم أنه كتب ما يقرب من ثلاث مجاميع شعرية، ولكنه لم يحتفظ بالكثير منها. وظلت مجموعته الشعرية اليتيمة «نزق» هي صورة الراشد الوحيدة.
عالم الراشد الإنسان والشاعر هو عالم واحد متوحد تماما، الألم، لا شيء غيره، وكل أوجاعه هي الشاكرية وحبيبته الخرافية بدرية والضياع، بعضهم كان يرى في لطيف بطل رواية، وبعضهم كان يراه «لا لطيف ولا راشد)، بينما كان لطيف شاعرا مهما وإنسانا عاش في المساحة التي لا تطالها الماسحات المطاطية المتأرجحة على زجاج السيارات الأمامية، عاش ميتا إلا من حلم واهن، ومات بهدوء بارد، أبرد من أف قصيرة، ولكنه ظل ينعت نفسه بالضفدع، والقضية الأخيرة في العالم، والإنسان الذي لا شفاء له، والفأرة المرعوبة من قطط ترصدها!. يقول الراشد: (مرت عليّ أيام وليالٍ وأنا بلا مأوى، كنت أحتال في آخر الليل لأنام في حديقة إتحاد الأدباء، لكنهم طردوني حتى من المبيت على العشب!، قلت لهم احسبوني قطة أو كلباً واتركوا ليلي يمر بسلام»!
لطيف «سليل الفقر والعزلة» حتى لحظة موته، ولكنه كان نبيلا، وكان يغدق بالمال الذي يحصل عليه على كل من يراه من أصحابه، يبدده بسرعة ليعود فقيرا.
بعد سقوط النظام السابق، وقف كالنصل الحاد لكل الأدباء والمثقفين الملوثين والمتلونين القادمين إلى مشرب اتحاد الأدباء، وراح يذكرهم بمديحهم «للقائد الضرورة» ويهينهم بشدة فيهربوا بجلدهم، وأذكر أن كاظم غيلان كان أكثر منه بطشا بالأقزام هؤلاء، حتى إن الكثير منهم بات يوصي بعضهم بعضا بتجنب الذهاب إلى اتحاد الأدباء حفاظا على ماء وجوههم.
كان الراشد يخلع حذاءه مرارا ويلامسها لشاشة التلفزيون كلما بثت وقائع محاكمة صدام، وكان سليط اللسان، كثير الشتائم على الجميع، وكثيرا ما استضافه بعضهم ليتجنب فضائحه، وكان لطيف يدرك ذلك ويسخر منهم، ويتنقل بين الموائد حتى يثمل تماما، ثم يغادر الحانة ليلا مرددا: «انتهى هذا النهار، ولكن كيف سأعيش في نهار الغد وانا لا أملك فلسا»؟
امتهن لطيف بيع الكتب في شارع المتنبي، والبيع في سوق هرج، وكتب أجمل التحقيقات والحوارات مع الكثير طمعا بالحصول على مكافآت نقدية تكفل له «لفة فلافل» وسكرة في اتحاد الأدباء، لم يكن يأبه بأوجاعه وكثرة أمراضه، كان يريد أن يعيش يومه ويلعن غده وماضيه، وكان يحلم بالشفاء للحظة ثم يعاود تخريب خرائب جسده وضياع حياته، وذات يوم أمضى نهارا طويلا في مقهى حسن عجمي ولم يعثر على أحد يعينه على شراء «لفة فلافل أو يعده بربع عرق ليلا»، فكتب قائلا: ما أقسى بوابة مقهى حسن عجمي حين تضيق!؟.
لم يشعر أن له وطن، رغم عراقيته وعشقه الكبير للعراق، ذكر في مذكراته التي بحوزتي كما أسلفت جملة شعرية بحق الوطن: «بلادي التي أكرمتني القميص». وكان قميص «لنكه» قديم دون شك!
شاهدت اللطيف الراشد آخر مرة في حانة اتحاد الأدباء، كان وقت عصر قائظ، دخلت الحانة فشاهدت صديقي الناقد عدنان منشد فتقدمت نحو مائدته وتصافحنا وجلست إلى جانبه، وفجأة انتبهت إلى جليس معه لم ينهض وظل واضعا رأسه على حافة المائدة. قال عدنان: هذا لطيف، مريض جدا. رفع الراشد رأسه ببطء فبان وجهه المتغضن، كان وجها كركميا شديد الصفرة، ردد بما يشبه الهمس الخفيف المعجون ببحة واهنة: «هلوووو». ثم حاول إن يبتسم فلم يقو. ظلت «الهلووو» واهنة جدا، ثم عاد وطأطأ برأسه، ليبقى شعر رأسه الأشيب والأشعث يسبح في تلك «الهلوووو» الواهنة، ويتحالف معها للمكوث في آخر صورة لعبداللطيف الراشد، الصديق، الضائع، المسلوب، الشاعر، ابن الهور والشاكرية وبدرية...