ادب وفن

الثقافة اليوم.. ماذا تستطيع ان تفعل؟ / ياسين طه حافظ

حين ورد السؤال عن مهمات الادباء والكتاب اليوم، شعرتُ بأن التصور لواقع الادباء والمثقفين يعتمد المُتمنّى أو هو يعتمد تصورا خمسينيا حين كان عبد الوهاب وبدر ولميعة ورشدي وفؤاد التكرلي وسواهم كثيرون، حاضرين مع جواد سليم وعطا صبري وفائق حسن وسلمان شكر ويوسف العاني وسامي عبد الحميد وغيرهم كانوا جمعا ثقافيا متكاملا، يعمل معا حداثة ووطنية، وفي جو مهيأ لمثل هذه الشراكة او الالفة وهو الجو النضالي الوطني.
الاديب، المثقف، اليوم وانا أتحدث عن عموم الظاهرة لا عن الاستثناء، لا يجمعهم جو حماسي واحد، هم منفصلون الواحد عن الآخر، كلّ في شبه خلوة وان توافرت اللقاءات، فهي ليست لقاءات عمل ضمن عمل عضوي في ميدان شعبي متكامل ويتحرك بالروح التقدمية المشتركة. كانت الثقافة الوطنية محددا لذواتهم ولذلك هي في شخوصهم وفي اعمالهم وفي العلاقات الاجتماعية وليست محض اجتهادات او ميولاً فردية.
وجود السجين يدفع القضبان الى الجانبين في نصب جواد سليم الحداثوي ليس محض اجتهاد فردي، اسلوبه هنا مختلف عن مفردات النصب، فرضه الجو الوطني العام. ووجود الحمامات والعمال في لوحة فائق حسن هو فعل جو الوطنية السائدة، هذه امثلة لتماهي بالروح الاجتماعي الثوري، وهو فعل روح الفنان.
المتطلب الثقافي والشعبي معا، مثل هذا ما كان يرد في مقامات محمد القبانجي من بوح، وسيتضح هذا الكنز في مسرح الفن الحديث. كانت الثقافة الوطنية عامة وشخصية، وكانت الثقافة تعمل مباشرة في صناعة التغيير. هي فاعل يومي ولصق التفاصيل.
ما الذي يحصل اليوم في المجتمعات الادبية؟
لا نعدم هذا، ولكن بالكاد يرى، هم يمسون الحيوية الاجتماعية والهمّ الشعبي بمزاج فردي رافض، او قرف مستاء.
كما ان التركيبة الفكرية الآن تتغذى على ما يتشظى من الثقافة الحديثة وهي متغيرة ومصادرها النظرية متقاطعة. نحن، فرديين نرى امتيازها في هذا الاختلاف والتنوع. لكن الحديث يختلف حين نتحدث عن فعلها الجماهيري في الساحة الوطنية. امتياز الاختلاف هنا في التقاطع فلا استقرار قناعات، ما عادت الملتقيات الادبية والفنية حواضن للتغيير الاجتماعي، هي حواضن للهموم الفردية واخبار السياسة المصحوبة باستياء واستهجان، وهي مجالس ذاك او هذا وسوى ذلك من الكلام. سأتجرأ واقول انها ثقافة فوضوية مختلطة وغير مستقرة وبين موضوعاتها فواصل تبعدها عن التماسك. الصوت الفردي والجدوى الشخصية هما الاكثر وضوحا في عموم اتجاه الكلام، هو بديل نرضاه او لا نرضاه عن ذلك الوطني الجمعي الذي تحدثنا عنه.
العقود التي مرت بتجاربها واحباطاتها وبتنوع مصادر الثقافة المؤكدة على عزلة الفرد في المحنة بالهوية، اعني هوية الثقافة الوطنية، صارت أية هوية غير مرغوب بها ويميل للتحرر منها. صار الشعور وهو شعور يزداد كل يوم، ان أية هوية تنتقص من حريته، من استقلاله. هذا فسح المجال للهوية الدينية المتوارثة لان تتحرك وتسيطر على الساحة، بينما تتحول الثقافة المدنية باستمرار الى تنوع مفاهيم وشبه عزلات للاحتفاظ بالنظافة وحماية "الجوهر الفردي" الذي يحس صاحبه بالامتياز.
النتيجة ان لاولئك المقرات الكبيرة والقدرات المالية والشارع العام، ولاولاء مساحات صغيرة لفض الهم الشخصي. والزهو بالنشاط الشخصي، هذه القصة، تلك القصيدة، التفكير بمعرض رسم يفكر في اقامته يوما، قال لي فلان، قلت لفلان، الخواء واضح والهُجْنة الثقافية واضحة.!
انتقاد الروح الوطني المشترك يعني انتقاد الكثير من المزايا الحية. الفرد، الاديب او الفنان اليوم مستاء او عبثي. في احيان البعض شديد الاستياء لكنه محبط، يطلق صرخة احتجاج في كتابته ثم يلوذ بالصمت، بدأ يضيق أفق النشر فصار غريبا محاطا بصحافة كثيرة لا تعنيه، بدأت تقل وتزداد ضيقا الصفحات القليلة التي يجد فيها متنفسا، وسيضطر إلى مجاراة المتوافر ارضاء لاحتياجاته وعما قد يقال عنه الخ... من اهتمامات الفرد اليومية. ولا بأس حتى الآن ما دمنا لا نزال نحتفظ بروح الرفض ولا يزال المدى تقدميا والرغبة واضحة وقوية في حياة جديدة وفي مدنية حديثة كما في العالم، لكن ما ينقص هذا المسعى هو تركز الفردانية وانحسار الاجتماعي.
المثقف يعتمد الملكية الخاصة والذوق الخاص والمنهج الخاص في الكتابة وفي السلوك والتفكير. هذه ليست سيئات ولكن الخسارة في عطالة الافق الاجتماعي، نحن لا نستطيع الوقوف ضد نزوعات العصر لكننا بصدد تغذية واستثمار المدى الاجتماعي المتقد بحسّ الرفض وحسّ التغيير والانتقال الى مرحلة انسانية جديدة في مضمار التقدم الاجتماعي. ما هي مفرداتنا في الوسط الادبي او الاوساط الادبية؟
كل مصادر الثقافة الفكرية الحديثة قادمة ولا يخلو بعضها من قصدية ولا من تمويل خفيّ او معلن. والكتاب والادباء ليسوا بعيدين عن الخيبة السياسية او التشكيك بالآمال. وهم بعامة فقراء ماديا، معوزون للمال لسد الاحتياج اليومي كما للجاه وللحضور. وليس غير الفضائيات والصحافة والمؤسسات الجديدة توفر لهم ذلك. هم بدءا على خلاف معها لكنها تستضيفهم في الكتابة والعمل، وهنا هم يسترضونها، ثمة تغطية حيثية احيانا على هذه الممارسة، لكننا لا نرى مصلحة في انكارها، هي موجودة والكاتب يتعامل معها، غير معني بما وراءها، ماذا يفعل.
هو يحب ان يعيش، لا نستطيع ان نفرض عليه التضحية، قلنا انه صار فردانيا معزولا، هيئوا له سواها وسيفضلها بحماسة وفرح لانه سيجد فضاء يشع في جوهره. لا لوم، صار مهنيا، وهذا تحوّل آخر.
ماذا ننتظر من واقع ان فلانا يمتلك صحيفة وفضائية، والحزب الوطني الديمقراطي اوقف صحيفته "الاهالي" عن الصدور بعدما صارت اسبوعية ثم نصف شهرية ثم غابت! و"طريق الشعب" تصدر الان بثماني صفحات وبعسر واضح وقد توقف ملحقها الثقافي؟ هذا واقع يجب الاقرار به ونحن نرسم الآمال، كيف تنشط الثقافة الوطنية والتقدمية حصرا؟ الادباء اليوم ينشرون في الصحافة المتيسرة وحيث يوجد المال.
يخطر لي حل يحتاج من القوى الوطنية الى تجميع وتوحيد الطاقات المالية والثقافية وهو يعتمد ايضا على حقيقة ان اكبر مركز ثقافي وتنويري اليوم ليس نادي القلم ولا اتحادات الادباء ولا هارفرد. اكبر مركز ثقافي اليوم هو التلفزيون، هو في البيت والمكتب وفي المقهى والسيارة.
اذن الخطوة الاولى والكبيرة المهمة هي بوجود فضائية وطنية تعمل تنويرا وحداثة وفكرا وفنا تقدميا وحياة مدنية جديدة تصلنا بالعالم ويحيويته اليومية وثقافته. يسهم فيه كتاب ومفكرون وسياسيون وفنانون يعتمدون اجتهاداتهم الوطنية وترجمات رصينة عن صحافة العالم ولقاءات مترجمة لسياسييه وكتابه وعن آدابه وفنونه ... مركز متميز مثل هذا سيكون مؤثرا في الافراد وفي المنظمات والاحزاب والبيت والجامعة. سيجتذب الجماهير المتطلعة كما يجتذب النخب. هو هذا الذي يوقف الضياع ويقول للجماهير ثمة ضوء يبهجكم ويرضيكم. التفتوا اليه والتفوا حوله، عند ذاك سنمتلك في المتاهة برجا جديدا يضيء !
الاديب في حاله الراهن يحتاج الى افق صحفي مقنع يكتب فيه ويتحرر فيه مثلما كان الامر حين كان لنا قطب ضوئي يستدعي الجميع اليه وكان واضحا حضوره في الادب والفنون والمجتمع.
كيف لنا في عراق مثل عراق اليوم، ان نمتلك مثل هذا المركز التنويري الذي سيشغل المنطقة كما سيكون ملتقى نشاطات الادباء والفنانين ورجال الفكر؟ هل يمكن ان يوجد بالرغم من كل العقبات؟ أقول : نعم يمكن معتمدا على:
١. ان جميع المثقفين تواقون للديمقراطية والحرية الشخصية والعامة.
٢. وانهم يشتركون في الحاجة لجو مدني حرّ يحترم قناعات ومعتقدات الناس.
٣. وان الجميع معنيون بان تكون آدابهم وفنونهم وارواحهم ضمن العصر ومع روح التقدم.
وسيكون جمهوره من الوطنيين واسعا وسيكون نافعا للجميع.
اما للحياة اليومية والجدوى الآنية فلينشط المسرح الجوال ولتكن لنا فرق مسرحية جوالة ومعارض الارصفة للرسم والنشاطات الثقافية في الساحات والميادين العامة وحفلات الفرق الموسيقية، ويعود المسرح جديدا بطاقات وافكار اليوم.
هذه كلها لها فعل مباشر ولها تماس مع الجماهير ما يعيد الحياة ويضع الناس في اجواء مدنية وضمن حيوية الثقافة والفنون. ولذلك ارى ان تكون نشاطات مشتركة للادب والرسم والمسرح والموسيقى معا وضمن برنامج وطني عام.
لكن هذه تظل مفردات انشطة يومية لا تعوض عن الفعل الثقافي المركزي الاوسع والذي يخاطب الحياة الاجتماعية في المدن كلها ويعود مصدر ضوء كبير يضيء ويصنع املا.
افتقاد الحماسة وافتقاد الامل بمستقبل افضل يؤديان الى تلف القيم وتفسخ المجتمع، وهذا ما نريد بشتى الوسائل ايقافه !
وهذا ايضا ما احذّرُ منه اذا بقيت الامور على ما هي عليه!