ادب وفن

استحضار الأحداث وتداخلها في "الرمل الأسود" / عبد الله عبد الكريم

يُقدّم الروائي أسعد اللامي في روايته الأخيرة الموسومة "الرمل الأسود"، حبكة درامية مؤلفة من مشاهد متفاوتة زمكانيا، ومتداخلة، تفصلها انقطاعات مؤقتة تُستأنف لاحقا. فهو لا يلتزم بسياق زماني امتدادي في سرد الأحداث الضمنية، تصاعديا، وإنما يداخل في ما بينها على اختلاف أزمنتها، مُكِثرا من الاستحضارات "فلاش باك" التي يسند بها تلك الأحداث المسرودة، والتي تتوارد في بعض المشتركات. إلا ان البنية الشكلية العامة لنص الرواية وموضوعتها الأساسية، تنحو صوب التصاعد الزماني التدريجي. كما انها تمنح الاستحضارات المفاجئة شرعية كبيرة، وتضعها في حكم الضرورة.
على مدى سبع ساعات أو أقل، يروي "نعيم ضايع"، الذي لم يبلغ الثلاثين عاما من العمر، أحداثا متمايزة زمانيا، شهد القسم الأكبر منها في مدينته البصرة، والآخر في محطة سفره ذي الزمن القصير في العاصمة التايلندية بانكوك، ناقلا عبر تلك الأحداث المسرودة مزيجا من أوجاع مستمرة، وقلق، واضطراب نفسي أرغمه على مراجعة طبيب نفساني شخّص لديه حالة مرضية تسمى "فوبيا اللقاء بالغرباء"، وشعور بالضياع و اللا جدوى، وذاكرة طفولة مكبلة بسؤال وجودي "من هي أمي الحقيقية؟". وهو الأبيض الوحيد في "عكد العبيد".
"نعيم".. ذلك الرضيع الذي وجده "ضايع فرج ياسين" مطروحا على جادة الطريق، وأهداه إلى زوجته "تقية" التي لا تنجب الأطفال، تلقى رعاية مفرطة من أمه الثانية، إلا أن ذلك لم يطفئ في داخله جذوة السؤال عن أمه الحقيقية.
آل الواقع العراقي عقب التغيير 2003 إلى حالة من الفوضى، أودت بـ "نعيم" إلى الانغماس القسري في قلق عصابي، وإلى ترك وظيفته الحكومية، والإحجام عن مغادرة البيت، جبنا أم حيطة أم بسبب "فوبيا اللقاء بالغرباء"، بخاصة حينما شاهد جثة مسجاة على أحد أرصفة مدينة البصرة، ومسلحين يجوبون الشوارع ويهيمنون على المواطنين ويستلبون كراماتهم، ويعتدون على أي شخص يخالف توجهاتهم. لذا فكر "نعيم" في الانتحار مرات عدة، ليفر من رصاصة تائهة قد تخرق جسده يوما، أو عصابة تبرحه ضربا أمام العامّة.
أحد أهم محاور رواية "الرمل الأسود" يدور في فلك المقارنة بين واقعين: الواقع العراقي وتحديدا البصري، والواقع التايلندي. إذ إن "نعيم" الذي يعمل مساعد مساح في "دائرة المساحة والأشغال العامة في البصرة"، كان قد أوفد في بعثة – بعد عام 2003 - إلى تايلند لينتظم في دورة يقيمها "معهد البوليتكنيك الآسيوي" على مدى سبعة أيام. وهناك التقى لأول مرة بعالم مختلف تماما عن عالمه، حيث الطبيعة الخلابة، والشوارع النظيفة، والحدائق الزاهية، والمباني الجميلة، والأمان وغير ذلك مما يناقض خراب البصرة والعراق. إلا ان أكثر ما ترك وقعا في نفسه وأثر فيه تأثيرا كبيرا، زميلته في الدورة "سيرلاك" أو "تشي"، التي قضى معها أوقاتا ظلت متعتها تلازمه طويلا، حتى استحالت إلى وجع مزمن. إذ إن "تشي" تركت في عاطفته بصمة مؤثرة، سيما انه يعاني خواءً عاطفيا. فهو لم يجرؤ على مصارحة زميلة له في الدائرة كان قد أعجب بها كثيرا، بسبب شعوره بـ "اللقاطة"، وخجله من البوح في ذلك، إلى أن سبقه أحد الموظفين بالتقدم إليها والزواج منها.
تنطلق المتوالية السردية الرئيسة في رواية "الرمل الأسود"، من رسالة هاتفية وصلت إلى "نعيم" منتصف ليلة 31 كانون الأول عام 2007، بحسب توقيت بانكوك، بعثتها إليه "تشي" تهنئه فيها بالعام الجديد.
"الرسالة هي من ذكرني برأس السنة بالطبع، لم تكتف بذلك في حقيقة الأمر، لقد دحرجتني مثل كرة نفخت بأكثر من طاقتها على استيعاب الهواء، قفزا إلى الوراء، جعلتني أغمغم لاعنا وأنا استعيد شريطا طويلا من صور الأيام التي جمعتني مع مرسلة الرسالة الآنسة سيرلاك".
لم يرد "نعيم" على الرسالة وقتها. فهو آثر الانتظار إلى أن تحل الثانية عشرة ليلا في البصرة وبحسب توقيتها. وبين لحظتي وصول الرسالة وإرسال الرد، كان متن السرد وزمنه البالغ سبع ساعات. وهنا يبدأ "نعيم" باستدعاء عديد من الأحداث القابعة في ذاكرته، والتي تتمحور في مجملها على الواقعين البصري والتايلندي، وكل ما له صلة بذلك. فالرواية بعامة، تبدو وكأنها منقاة، مجرد عنها كل حدث لا يمت بصلة إلى موضوعتها الرئيسة، والمتمركزة في "ذات" البطل الراوي "نعيم"، وواقعيه المتناقضين.
إن "نعيم" في رويهِ الأحداث الآنية وتضمينه الاستحضارات بمختلف شخوصها وتفاصيلها وأحاسيسها وأمزجتها وانفعالاتها، لا يقصد توجيهها إلى كاتبة الرسالة "تشي" التي تكتفي برد مقارب لنوعية رسالتها، وإنما يعمد إلى توجيهها نحو القارئ خارج النص، لكي يصف له ما يجتاحه من وجع في واقعه البصري - العراقي، مبررا الأسباب، ومقدما صورة عامة عما آل إليه ذلك الواقع الفوضي. وهنا يبدو ان كل ما ورد خلال السبع ساعات بين لحظتي وصول الرسالة والرد، موجه إلى القارئ خارج النص الذي كان "نعيم" أكثر وضوحا وصراحة معه، ولم يتبق في ذلك لـ "تشي" سوى نص الرد، الذي يحتوي في بعض مقاطعه على إشارات صرفة لما انتهى إليه حال كاتبه.
بناء على ما سبق، إن الروائي أسعد اللامي استطاع أن يجعل الراوي البطل ذا وعي تام وقصدية في ما يرويه. لذا يبدو "نعيم" مدركا ما يحتاجه المتلقي الخارجي لكي يتمثل صور الأحداث والوقائع المسرودة بأبعادها كافة.
تواصل أشرطة الاستحضار المبنية على صورها الذهنية المختزنة – افتراضا - في ذاكرة "نعيم"، اشتغالها على طول خط السرد. إذ ان "نعيم" كلما اقترب من إتمام مشهد ما، قطعه بـ "فلاش باك" مفاجئ، وهذا الأمر يتكرر في الكثير من جوانب نص الرواية. وعلى الرغم من تلك الانقطاعات في سرد المَشاهد، إلا إنها لا تخلف أي تشتيت في ذهن المتلقي، نظرا لكونها متناغمة في بعض المشتركات، وبسبب كون الحدث المستحضر غالبا ما يعزز الحدث الآني.
إن الروائي أسعد اللامي استطاع ربط الأحداث المتفارقة وحبكها بأسلوب لا يترك أدنى التباس في الذهن. فالمتلقي لا يتعرض لأي إرباك بعد انقطاع سرد حدث ما والتحول إلى حدث آخر مستحضر، ولا يفقد من سلسلة الصور المعروضة في مخيلته، حلقة واحدة. فيبدو الأمر لديه وكأنه يشاهد عملا دراميا مصورا، ذا أحداث متداخلة ومتقطعة.
ان الأحداث المستحضرة غطت القسم الأكبر من بين أحداث رواية "الرمل الأسود"، وسلطت ضوءا شديدا على شخصية "نعيم"، وبررت قلقه، وحسراته، وأوجاعه، ومرضه، ومجمل اضطراباته وأمزجته. وكان للاستحضارات دور أساس في توصيف شخصية "نعيم" بدقة، وتبرير انفعالاتها، وسلوكياتها. إلى جانب ذلك إن تلك الاستحضارات يمكنها أن تساهم مساهمة فاعلة في إشباع مخيلة المتلقي، والإجابة عن معظم تساؤلاته عن ماهية "نعيم" وجوهره.
ان مَزيّة رواية "الرمل الأسود"، تتمثل في كونها (الرواية) سردا آنيا موجها إلى المتلقي خارج النص، يحمل في طياته وقائعَ وأحداثا ماضية غير آنية. وعلى الرغم من ثبات زمن الروي بعامة "سبع ساعات أو أقل"، إلا ان ذلك لا يؤثر في زمن القراءة. فالقارئ حالما يباشر قراءة الرواية، سيؤسس زمنا خاصا به في مخيلته، يضم إليه زمن السرد ويوائمه معه، ويُخضعه له، ما يمنح النص الروائي عمرا غير محدد، لا سيما انه يحمل رسالة إنسانية خالصة، تستمر ما استمر الإنسان في الوجود. فهناك الوجع، القلق، الخوف، المرض، الانفعال، اللا جدوى، وكلها تمثل ظواهر إنسانية غير متناهية، وكل تلك الظواهر كانت حاضرة بقوة في متن السرد.
بقي أن أشير إلى أن الروائي أسعد اللامي لم يمنح المكان الموضوعي وأبعاده في روايته، سعة للامتداد، ولم يسهب في توصيفه، عدا بعض المحطات المتعلقة بسفرته إلى تايلند. أما أماكن الاستحضارات فكانت في غالبيتها لا تتعدى الذات غير المهتمة في المكان مثلما في ذاتها، الأمر الذي يوكل إلى المتلقي مهمة تأسيس مكان افتراضي في مخيلته، يستقيه من الصور الذهنية التي وردته من الثيمة العامة للرواية. فالنص الروائي هنا يكاد يشبه عالما تتوفر فيه شروط للخلق والابتكار والإضافة. ويبدو ان الروائي اللامي لم يرد إيغال القارئ في استقبال توصيفات الأمكنة، وإشغاله في تأملها، حتى لا تصرف قسما من مخيلته عن شخصية البطل "نعيم"، الذي أراده أن يكون هو وانفعالاته مركزا مهما في المتن الحكائي.
يفك أسعد اللامي رمز عتبة العنوان في القسم الأخير من الرواية. إذ انه يشير بوضوح إلى أن العنوان يجسد التشريعات الدينية المتطرفة، التي يفرض معتنقوها والمؤمنون بها على أنفسهم والآخرين، تطبيقها عنوة. فقد وردت جملة "الرمل الأسود" مرة واحدة في الرواية على لسان "تشي" وهي تنصح زميلها في الدورة الأفغاني "السيد فقيه نور الرحمن"، بأن لا يقسو على نفسه في المبالغة بتطبيق الشريعة حرفيا، ويصرف نظره عن الوجه الأخضر للحياة: "سيد فقيه لا تدع الرمل الأسود يشوه الوجه الأخضر للحياة".
تختتم الرواية بضغط إصبع "نعيم" على زر الإرسال في جهاز الموبيل، بعد أن كتب رسالة إلى "تشي" ردا على تهنئتها في العام الجديد. وقد اختزلت رسالة "نعيم" بشدة، قسما من عذاباته وحسراته وأوجاعه، وذكرياته مع زميلته مرسلة الرسالة، وانطباعاته عنها. وهنا أورد مقطعا من الرسالة:
"صديقتي، التي قلما تتكرر شبيهة لها في الحياة، وصلتني رسالتك عند الساعة الخامسة والنصف مساءً بتوقيت البصرة. قلت لن أرد حتى يأتي منتصف الليل، لكني خلال فترة السبع ساعات أو أقل هذه، لم أدع الوقت يمر هباء، لقد استعدت كل التفاصيل التي جمعتني بك وجعلتني موقنا أكثر من ذي قبل انك امرأة استثنائية لا تتكرر شبيهة لها في الكون".