ادب وفن

الشعر والجغرافيا والبحث عن طروادة! / باسل عبد العال*

ذاك الزمن الذي مضى، ولم يبق منهُ سوى آثارهِ الحجريّة التي تركت لنا حضارة الشعوب الذين عاشوا ذاك الزمن، زمن حروب طروادة هذه الحروب التي وَثّقتها ملحمة الشاعر الإغريقي هوميروس في الإلياذة، التي ما زالت حتى الآن في متناول القرّاء والكتّاب، ملحمة الحرب والحب/ الفكرة والعبرة، العاشق الحالم والبطل الأسطوري بين صراع الاثنين «أخيل وهيكتور».
إنّ القراءة والتعمق في هذه الملحمة الشعرية تمنح القارئ السفر فوق بساط المعنى، وبرأيي من هنا يبدأ الشعر الحقيقي، من الإلياذة التي لم ترو سيرة أبطالها فقط، بل وثّقت تاريخ وجغرافيا لحضارة ما زال لها أثر حتى يومنا هذا، ووثّقت حروباً ما زالت تُكرر ذاتها إلى آخر الحروب في بلادنا، تتشابه طقوس الحرب بين الضحية والجلاّد، مع اختلاف الأساليب والوسائل. وَفيها ما يُثير التساؤل، كيف استطاع هوميروس تجسيد هذا التاريخ الكامل بملحمة شعرية تراجيدية رسمت الحرب في مكانها وزمانها حتى استطاع عالم الآثار الألماني هاينريش شليمان سنة 1870 من خلال قراءتهِ وتأثرهِ بالإلياذة أن يكتشف طروادة؟ فكان هوميروس في الإلياذة يروي سيرة التراب أولاً لذلك استطاع أن يدلّ على مكان طروادة الواقعة حالياً في شمال غربي مدينة اسطنبول في تركيا، وما زالت آثارها قائمة حتى الآن، من هنا استطاعت القصيدة/ الملحمة أن تدلّ على جغرافيا المكان والحروب التي وقعت فيه وبقيت صامدة آلالاف السنين، في حالة مقاومة النسيان وتأريخ الذاكرة، ذاكرة طروادة التي كانت تطالب بالسلام وتحلم بالأمن دائماً، بل كانت أيضاً مدينة ذات أسوارٍ عالية وضخمة، مما يصعب اقتحامها. وَكانت غنية بالمال والذهب والتبادل التجاري الدائم مع جارتها إسبارطة الإغريقية.
قبل وقوع آخر الحروب معها، حسب ما رواهُ هوميروس، كان ولدا الملك البريام «ملك طروادة»، «هيكتور وباريس» في زيارةٍ إلى إسبرطة من أجل صفقة تجارية معها، بينما كانا يجلسان في اجتماعٍ مع ملك إسبارطة «ليونيداس» وزوجتهُ «هيلين» التي كانت معروفة بجمالها الساحر، وفي لحظة خلوّها مع «باريس» في لحظة خروج «هيكتور وليونيداس»، ثمّ بدأ «باريس» يتغزل بـ «هيلين» حتى أغواها وجعلها تتمسك بهِ، واشتعل الحب بينهما، وكانت «هيلين» في سنّ «باريس» تماماً، حتى قرر أن يأخذها معهُ إلى طروادة، بدون أن يعلم أحد بها، وحين تمكّن من ذلك ووصل إلى طروادة برفقة «هيلين»، اشتعل الطرواديين بالخوف والقلق والترقب، وقد توقعوا حرباً قد تشنُّ عليهم من قبل الإغريق ويكون سببها «باريس»، وهناك في «اسبارطة» اليونانية غضب زوجها «ليونيداس» غضباً شديداً حين علم باختطاف زوجتهِ من قبل الطرواديين، واعتبرها الإغريق إهانة لشرفهم وكرامتهم، فقرروا اعلان الحرب ضدّ طروادة، فحشدوا الجيوش وأعدوا السفن الحربية الضخمة… وخاضوا حرباً دامت عشر سنوات، ولم يتمكّن الإغريق الدخول إلى طروادة بسبب أسوارها العالية الصلبة، ثمّ يكمل هوميروس مشاهده الملحميّة الشعرية بين الخيال والوقع والأسطورة مما يجعلنا نحلق في فضاء الخطاب الشعري الذي يمتزج بين نبرة الحرب ورومانسية الحب من ناحيةٍ أخرى، وتلك السيناريوهات التي تفيد الشاعر العربي في تقمص روح الفكرة والعبرة والحس الإنساني في هذه الأسطورة كي يستطيع قراءة الواقع العربي الذي يشبه حروب طروادة.
لم يتمكّن جيش الإغريق من دخول طروادة بعد حرب دامت عشر سنوات، حسب رواية هوميروس إلا من خلال الحصان الخشبي الذي بناه الإغريق لمباغتة الطرواديين الذين ظنّوه هدية بعد انتهاء الحرب، فسحبوه من الشاطئ إلى قلب المدينة ثمّ أقاموا الاحتفالات حتى منتصف الليل احتفالاً بالنصر، وبعد أن غرقوا في النوم خرج جيش الإغريق من قلب الحصان ثمّ قتلوا وذبحوا شعبها جميعا النيام منهم والحرّاس ثمّ النساء والأطفال وأحرقوا طروادة كاملةً وارتكبوا فيها أبشع مجزرةً شاهدة على مرّ التاريخ، ثمّ أمسى الحصان، حصان طروادة رمزاً للخيانة والغدر، هذا الحصان الذي ما زالت رمزيتهُ قائمة إلى يومنا هذا، فكم من حصانٍ نصب لنا وكان سبباً في قتلنا، خلسةً وغدراً وظلماً من كل حدبٍ وصوب؟ كم من حصانٍ مقنعٍ في هيئةٍ أخرى كان سبباً في شتاتنا وذبحنا على مرمى من العالم والبحر؟ وَهنا سؤال هوميروس الذي يتكرر في الملحمة، كيف شنّت هذه الحرب الطويلة من أجل استعادة «هيلين»؟ وهي أطول الحروب في طروادة، أهكذا يفعل الحب بالشعوب؟ يُغوي ويُهوي؟ وهكذا كانت آخر حروب طروادة التي لولا «إلياذة هوميروس» لما وصلت إلينا هذه الحكاية الأسطورية الشيّقة والغنيّة بالشعر والعبر. والدور الذي لعبهُ الشعر فيها من تصوير لجغرافيّتها شاهد على ذلك، وكما ذكرنا ما كان لعالم الآثار الألماني أن يكتشفها لولا تأثره بـ «الإلياذة» التي دلّت بتجسيدها لما حدث على مكان الحدث، فاتخذ هنا الشعر دورهُ في رسم المكان والإمساك بالزمان، أمّا الضحية طروادة التي دفعت ثمناً باهظاً من أجــــل طيـــش شاب من شبابها مع فتاتهِ أدى إلى تدمـــيرها بالكامل وارتكب فيها أبشع المجازر، فكانت صوت الضحية المدوّي التي كانت تحلم بالسلام دائماً ولم ترتكـــب ذنباً كي تقتل بهذه الوحشية وبدمٍ بارد، يسرد هوميروس هذه الرؤية في جوٍّ مشحونٍ بتراجديا بين وجهي الصراع بين الصواب والخطأ، الذبح والجنون، العشق والجمال، التمسك بالأرض والعرض من جهة وبين الظلم والاحتلال من جهةٍ أخرى، القوّة الوحشية وقوّة الدفاع عن رمزيّة الوطن، وعن رمزيّة الحجر والبشر والوجود.
كل هذه الطقوس تشبه تماماً ما يحدث الآن في هذا الزمان الطروادي، لو صحّ التعبير المجازي، حيث كثرت فيه الخديعة والفجيعة، أعاد التاريخ نفسهُ، ولكنّنا ما زلنا ننتظر هوميروسنا الجديد كي يكتب إلياذة الصراع الجديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٭ كاتب فلسطيني