ادب وفن

الشاعر أحمد دحبور .. مراثي الكائن الحي / علي حسن الفواز

يواجه الشاعر أحمد دحبور الموت، وربما يراه أمامه بكل طقوسه وغوايته، يبادله وهم الحياة، وسرائر الوجود، يدعوه إلى حكايات لا يطمئن إليها، لكنه الشاعر الأكثر "ولدنة" كما يقول اللبنانيون يصرّ على الحياة، وعلى أنْ يكون فيها حارسا للذاكرة، يحكي للعابرين "حكاية الولد الفلسطيني" الذي عاش "اختلاط الليل والنهار" ودوّن عليها وفيها "شاهدة بالأصابع الخمسة" وعاش معها سنوات مبعثرة، وهائمة، إذ لا تعني له سوى أنها كتابة عن "الكسور العشرية".
أحمد دحبور الشاعر العليل بوجع الروح قبل الجسد يواجه اليوم نوعا من الإهمال، ونوعا من النسيان، وكأن الجغرافيا الفلسطينية وسياساتها وتاريخ أسفارها الدامية وحجارتها المباركة لم تشفع له، ولم تستطع أن تنقذه من وجع "العجز الكلوي" ليواجه وحده محنة مَنْ لا تحميه القصيدة، ولا تخرج معه قبائل الشعراء إلى عراء الوجد والحرب والإصغاء..
محنة أحمد دحبور هي محنة الكثير من المثقفين العرب، الذين لا يجدون من يحمي عجزهم وشيخوختهم، السياسة تضعهم في "خانة" المؤجّل، أو أن مشاكساتهم واحتجاجاتهم تُفضي بهم إلى المحابس الحكومية، أو ربما أنّ موتهم لا يعني شيئا في العُرف السياسي سوى الهياج في صناعة المراثي، وفي استعراض إرثه الشعري القابل للنسيان سريعا..
أمام قسوة الوجع لا خيار للشاعر سوى الاتكاء على صوته، وعلى روحه التي كانت تستصرخ البلاد الغائبة، وتفزّ مثل طفلة مسكونة بالخوف، وأحسب أن أحمد دحبور المشغول بسحر القصيدة/ الصوت مثل أي فلسطيني ظلَّ يتماهى مع صوته الوحيد والمفجوع في عالم مصابٍ بالصمم.. قصيدته تشبهه، مسكونة بأبّهة الكلام والشغف، تستفّزُ قارئها، وتدعو الآخرين إلى التلذذ بما يتعرى من جسدها الاستعاري، إذ هي "عود اللوز الآخر" وبيت السُكنى، وفنار التائه عن بلاده..
أصدر دحبور وطوالَ نصفِ قرنٍ الكثير من "الكلام" العالق بروحٍ لا تهدأ، يبادله القلق بـ "المتاح من الوطن" وكأن سيرة الفلسطيني المشغول بأوديسيات الأمكنة ستظل هي مساره التطهيري/ الملحمي الباعث على استنفاره ويقظته، إذ تبدو القصيدة الفلسطينية، رغم احتشادها بالغناء والمجازات والهتاف أحيانا محاولةً دائبةً على استيلاد اليقظة بمواجهة تاريخ طويل من النعاس العربي…
منذ قصائد "حكاية الولد الفلسطيني" إلى قصائد "أيُّ بيت، كشيء لا لزوم له، هكذا" أخذ القصائدَ نزوعٌ غامرٌ إلى البحث عن المعنى، عن اللزوم، التبيين، الفكرة، تلك التي لا تضيق كالعبارة عندما تتسع الرؤيا، فهو يدرك عبرها أنَّ حياة الشاعر لا تشبه موته، وأنَّ لعبةَ الصوت/ الغناء التي يجاهر بها هي مقاومته العلنية والفاضحة للموت والعدو والمنفى، لذا لا مناص من أنْ يحتفظ بهذه الوظيفة الباذخة، حيث يستدعي من خلالها الغائب والممحو والمسكوت عنه، لتكون كتابةُ القصيدةِ وكأنها محاولةٌ في كتابة الحضور والشهادة والعلن، كتابة الفلسطيني الذي تتجوهر فيها الأنا المُباحة للمخيم والملجأ، والمتورطة دائما في استدعاء المعنى، المعنى/السيرة، والمعنى/ الحكاية، والمعنى/ الرؤيا، والمعنى/ صورة المقاوم العاجز والعروبة العاجزة.
أنا الولدُ الفلسطيني… أنا الولدُ المطلّ على سهولِ القش والطينِ
أبكانيَ الدمُ المهدورُ في غير الميادين
تحاربُ خيلُنا في السند، ووقتُ الشاي نحكي عن فلسطين،
بلادُ الله ضيقةٌ على الفقراء، بلادُ الله واسعةٌ وقد تطفح بقافلةٍ من التجارِ والأوغادِ والأوباش..
أيأمر سيدي، فنَكبَّ أهلَ الجوعِ والأعباء؟ أنقذفهم ومَنْ يبقى ليخدمنا؟
أنا الرجل الفلسطيني…أقول لكم: رأيت النوقَ في وادِ الغضا تُذبَح، رأيتُ الفارسَ العربيَ يساْلُ كسرةَ خبزٍ من حطين ولا ينجح، فكيف بربكم أصفح؟
أنا الرجلُ الفلسطيني…أقول لكم: عرفتُ السادةَ الفقراءَ وأهلي السادة الفقراء… وكانَ الجوعُ يشحذ ألفَ سكينٍ وألفَ شظيةٍ نهضتْ من المنفى تناديني
غريبٌ وجهُكَ العربي بين مخيماتِ الثلجِ والرمضاءِ، بعيدٌ وجهُكَ الوضاءُ، جياعٌ نحن، وماذا يخسرُ الفقراءُ؟ إعاشتهم مخيمَهم ؟أجبنا أنتَ، ماذا يخسرُ الفقراءُ؟
أنخسرُ جوعَنا والقيدَ؟ أتعلمُ أنَّ هذا الكونَ يباركُ من يردَّ الكيدَ، أنا العربيُ الفلسطينيُ…أقولُ وقدْ بدلتُ لسانيَ بلحمِ الرعدِ، أجلْ ونهارُنا مفتوحٌ على الدنيا، على الشرفاءِ، ويضئُ النصرُ في الطرقاتِ والأحيا، لأنَّ الكفَ لنْ تعجز ولن تعجز…ألا لا يجهلنَّ أحد، علينا بعد أنّ الكف لنْ تعجز…
أحمد دحبور يقف بين الحياة والموتِ، ولا مُنقِذ، الطفل القديم فيه يشاهر الأخوة بالبياض، ويبحث عن لحظةٍ ما من "الحب القاسي" الذي تحدث عنه محمود درويش، الحب الذي ضاع على الطاولات والهزائم، وصار جزءا من سرديات البلاد البعيدة، وخرائط الأخوة الذين تقاسموا الوطن مثل رغيف يابس..
يقول دحبور: لماذا أنا هنا، وهو في السرير "الإسرائيلي" بعد أن تأخر الأخوة عن المجيئ، وصار العجز في كليتيه مريعا حدّ الإغماء، إذ لا تنفع القصيدة ولا التاريخ ولا الوصية.. الجسدُ وحده يرتعش في هذا البرزخ، يتوه الشاعرُ مثل ضالٍّ عن الطريق، أو مثل قتيل يرمم بقاياه في معركة لم يعد يعرف شواهد شهدائها المغنين والحالمين…