ادب وفن

التكثيف اللغوي في رواية "الذَلُول" / سالم محسن

تقيم رواية "الذلول" علاقة أساسية في سرد الإحداث ، وتسيطر على جميع تداعيات البطل وتجلياته ، وهذا ما جعلها تحتكر إيراد التفاصيل ، كما ان التماهي الحاصل بين راوي الإحداث "البطل" والمؤلف "كاتب الرواية" جعل لغة الرواية تسرد بأسلوب "الاعتراف" الذي يكثف المشاعر والأحاسيس ، أي إن البطل صائر الى حدث تنتهي به مسيرة الأحداث في نهاية مقبولة من قبل المنظومة القيمية ، وإن هذه التعرية تجاه الواقع نحتاجها في كشف كهذا بدواع ما اقترفه البطل من جريمة والذي يعتبر كنهاية حتمية يفترضها المؤلف حسب بيئة البطل التي عاش فيها.
لغة الاعتراف
لم تزل اللغة هي الواسطة التي ننهل منها ما نريد في متون الروايات من إشارات ودلالات ، وهي التي تعكس النُظم الجمالية شكلاً ومضموناً في الفصول وتعاقبها ، والمثير في هذا العمل هو إن المؤلف جعل من سرد فصول الرواية سرداً متسلسلاً من بداية أول فصل حتى النهاية ، تاركاً التراكيب اللغوية تسير في حركة بطيئة لأن الرواية تستدرج القارئ لكشف دوافع عملية القتل ،وإن ثيما كهذا "theme" يقيد المؤلف في اختيار المفردات والألفاظ ، حيث يختلف جذريا إذا ما كان الثيم يتعلق بقصة حب ، أو في ثيم أخر ، فقد اثر استخدام مجال هذه اللغة ونوعها على الرواية بشكل واضح ، وكان وراء ذلك عدم استخدام مشاهد المتعة والتشويق والزخرفة والتزويق ، حيث كان بمقدور المؤلف أن يعمل على ذلك لأن الرواية تسمح لمثل هذه التنويعات الفنية ، بينما نجد المؤلف قد أخذت منه المدينة وتاريخها وجغرافيتها وحوادثها المعلنة والسرية وشخوصها والتفاصيل الأخرى ، ماجعلها لا تطيق بطل الرواية ومن على شاكلته من المجرمين حتى لفظتهم في آخر الإحداث، و باستخدام المؤلف التداعي الحر مع مزجه بأسلوب الاعتراف الذي هو اقرب ما يكون الى لغة المناجاة والتطهير في لغة المسرح الميلودرامي ، جعل الكثافة اللغوية طاغية على فصول الرواية .
الوصف .
كتبت الرواية في رصد المراحل التي يمر بها البطل من مشاعر وأحاسيس "الذًلُول" عبر فترات زمنية معينة ، اضافة الى تعزيز هذه المشاعر والأحاسيس بإشارات من بيئة البطل الاجتماعية والسياسية ،باعتبار هذين العاملين ممهدين للإحداث التي تقود الى انهيارات متتالية على المستوى الخاص أو العام، وان كل محاولات البطل للعودة الى الحياة السوية باتت ضعيفة ، رغم استعانته بالذاكرة أو بالأماكن التي كان يرتادها في الماضي ، ولكن القدرة على تغيير الواقع باتت من الصعوبات التي يواجهها البطل على المستوى سلوكه الشخصي وفي سلوك وأفكار الأخريين ، الذين يشاركون البطل هذه المشاعر ، كما ان الحوارات التي تنتجها الرواية تدل على ان الصراع الخارجي قد أنتقل الى الداخل ،وقد اخذ يَّتعمق بصورة سلبية "عيدنا لو عيد الحكومة"، والملاحظ في هذه الرواية هو إن الأحداث جرى وصفها في إشارات ودلالات مكثفة ومختزلة وداعمة للثيمة الأساسية للرواية "الانهيار" بالإضافة الى المرور بالخلفية التاريخية لشخوص الرواية وأزمنتها وأمكنتها ، وإن من المثير في هذه الرواية هو افتقار سرد الأحداث للوصف الذي يشكل الجزء الثاني والمكمل لسرد الإحداث والذي يعطي الرواية التنوع الجمالي في التقاط الحدث من زوايا متعددة ، والتي تسمح للقارئ ان ينتج خطابا ثنائيا مع المؤلف ،مع ان الرواية قد استوفت ماعليها من طرح أسباب هذا الانهيار ، لاسيما وان اغلب الكتاب ما قبل التغيير يميلون الى استخدام هذه الثنائية في مستوى الروي لما لها من قدرة على مشاركة القارئ التخيلية وسبر أغوار الشخوص في العملية السردية دون استخدام الأسلوب المباشر و السريع كما موجود من فصول الرواية.
الذلول
أسمُ الروايةِ أخذ مكان وزمان المدينة بتاريخها وناسها وتنوع تضاريسها ومناخها، وقد أعطى إيحاءات عديدة للشخصية الرئيسة وعلاقتها مع الأحداث، و من خلال العلاقة النسقية في الرواية وحركة أحداثها نجد أن اسم "السحلية" قد ساعد بشكل واضح على جعل الرواية تحاكي أشياءها بعضها البعض ضمن مشترك لا يختلف عن اسم العائلة التي تشظت وتنوعت في اتجاهاتها وانتماءاتها المذهبية والفكرية ، ما جعل أبناءها يتناسقون مع الرواية في علاقة مقصودة من قبل المؤلف ،وفي إيراده مجموعة من الإشارات والدلالات مثل: البصرة ،الأنهار،الألعاب ،المحلة ، المهن ، الحسينيات ، الجوامع ، الكنائس ، المعبد.
ان الروائي يطرح سؤالاً مهماً: هل كان هذا التنوع الديني والجغرافي والميول الحزبية سبباً في انهيار هذه المدينة؟، هل كانت هناك حالة مثلى للعيش المشترك لكل هذا التنوع؟ هناك إشارات في أحداث الرواية تظهر أن هذه التحولات القاصرة التي مرت بها عائلة البطل قد أدت الى حدوث تلك الانهيارات "كرهت هواجسي"، ومن خلال الرواية يتبين بان اسم الرواية هو مطابق لأسم البطل الذي لم يذكر اسمه ، وان معظم الأسماء التي تم تناولها في الرواية هي أسماء حقيقية ، ما عدا بعض الأسماء لأسباب تتعلق بالعمل الأدبي ونوع الرواية، كأن تكون رواية تاريخية أو تسجيلية أو اجتماعية أو بوليسية أو رومانسية أو سياسية ..الخ.
إن أسم الذلول هو اسم شخصية بطل الرواية الذي استمر حضوره في فصول الرواية حتى الفصل الأخير. كما إن الرواية عبرت عما حصل في الفترات السابقة الى يومنا هذا عن بيئة هي ليست ببعيدة عنا ، وان المنجز في هذا ، هو إيراد الشارد والوارد لكل ما فاتنا من تلك الأحداث، فقد احتوت الرواية على حوادث صادمة وكوارث اجتماعية وسياسية متعددة بإشارات مكثفة في قاموس لمفردات نتداولها حتى الآن ، والذي تجوهر في مصير البطل الذي هزمه المكان والزمان معاً ، عندما جاءت الرافعة واختطفت "الدوبة" مكان البطل الأخير و الوحيد له ،وهذا بحد ذاته يطرح إشارات نفسية اضافة الى الإشارات الاجتماعية والسياسية ، ما يعطي الرواية قراءات جمالية و إبداعية غاية في الأهمية.