ادب وفن

سفر عراقي مع الشاعرة ايمان الكوفي «ابن العشيرة» / دكتور هاشم الفريجي

اطلت علينا الشاعرة ايمان الكوفي بقصيدة رائعة بعنوان (ابن العشيرة) نشرتها في منتدى القصائد الوجدانية في إحدى المنتديات ولو نشرتها في منتدى القصائد الوطنية لما استغربت ذلك.. لان ايمان الكوفي بهذه القصيدة كانت تمثل حب الوطن.. العراق من شماله الى جنوبه والذوبان فيه عشقاً وولهاً وجدانياً ممتزجاً بحب الحبيب.. حتى تحوَّل الحبيب بما يحمله من صفات الكرم والرجولة والإباء الى وطن في عين الحبيبة.. كيف لا؟ والمحب لا يرى احداً جديرا بالحب والتضحية والفداء اكثر من حبيبه.. وقليلة تلك القصائد الرائعة التي تمزج حبين خالدين جديرين بالتضحية هما الوطن والحبيب.. وكان عنوان القصيدة (ابن العشيرة) ناطقا بما ارادت الشاعرة ايمان الكوفي نقله الينا.. فنحن كعراقيين فخورون بانسابنا وعشائرنا ونهتز طربا ونرتفع فخرا عندما يقال عن احدنا (هذا ابن عشيرة).. لأن ذلك يعني الكثير مما يعرفه العراقيون في هذا اللقب الرفيع.. والذي اضاف في هذه القصيدة الملح الى الطعام انها اتت على لسان عراقية اصيلة.. فانظر.. حالة الزهو والحبور والشوق التي تخترق مفاصل الحبيب وتهز اوتار مشاعره.. وتذكي نار رجولته وتحيي فيه الغيرة والحمية.. وهو ينظر الى عيون فاتنته التي تتوسم فيه كل تلك المعاني (وتزامط) به امام فتيات وشباب العراق.. كم محظوظ هذا الذي (غافل وقاري وكادني بحنيه).. هذا الذي يجعل كل عراقي يتمنى ان يكون هو بطلك وفارس احلامك ايتها الرائعة..
لقد اخذتنا ايمان الكوفي على حين غرة.. عندما ابتدأت قصيدتها بذلك البيت.. فمثلما غافل البطل (وقارها) وهي الوقورة العاقلة الثقيلة.. و(قادها) آخذاً بيدها دون ان يكون لها رد فعل واضح.. اذ انه خلب لبها برجولته وشجاعته وربما باشواقه ونظرات عينيه المتأججة اليها.. وهي لم تترك يدها (لتنام كالعصفور بين يديه) الا لانها تعرف انه اهل لذلك.. فهو (ابن العشيرة) وعندما غافلها وقادها.. لم يكن شرطيا او قاطع طريق.. بل قالت:
(كادني بحنيَّة) فبهذه الاضافة الجميلة يتضح لنا انه كان حبيبا ورجلا شهما كريما.. ولم تمهلنا الشاعرة ان نسترد انفاسنا..
حين امطرتنا بـ (ابيمنا شبجني بيسرته الجفيه... گلي ارد اعلمچ لعبة الچوبيه)
فهذا الفارس يقودها نحو الفرح العراقي الخالد.. نحو التراث النهريني الاصيل.. ممثلا (بالچوبية) الرقصة او اللعبة او الدبكة التي تميز العراقيين من شمالهم الى جنوبهم.. بعربهم واكرادهم واقلياتهم.. بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.. وكان اختيارا موفقا للتعبير عن حب الوطن المتصل بحب الحبيب الموغل بتراث العراق وعادات ابنائه المتوارثة.. كل هذا (القليل) ونحن لا نزال نعزف سمفونية بيت ايمان الكوفي الاول.. واذا كان الكتاب يعرف من عنوانه.. فان شاعرية ايمان بدت واضحة من عنوان قصيدتها وبيتها الاول باعتباره مدخلا لمن يوجه وجهه شطر هذه الملحمة الرائعة.. في البداية قلت: قليلة هي القصائد التي تصهر حب الوطن والحبيب في بوتقة واحدة.. فلا زلنا نتذكر بشوق قصيدة الشاعر الرائع زامل سعيد فتاح التي لحنها وغناها ايضا المطرب الكبير طالب القرغولي: هذا آنا وهذاك انته:
هذا آنه... وهذاك إنت
وتظل بضنوني ذاك إنت
هذاك آنه ويمر طيفك، وشوف آمالي لو شفته
كبرنا وكبرت الدنيا.. بهوانا وكل حلو عرفته
عرفتك جوري لو فوَّح
عرفتك طير من يصدح
ومن حبك غناي آنه تعلمته..
وهذاك آنه وهذاك إنتَ
الى ان يقول:
هواك انته يمرجحني.. بربوع ابلادنا الخضره
هواك انته اللي يسعدني.. ويكحلي اعيوني ابزهره
هواك انته يذكرني.. بفرات ودجله.. يوميه!!
مثل كلبي ومثل كلبك.. تلاكو صافية النيه..!!
فهل بعد هذا الحب من حب؟
الحب الحقيقي الذي يغفو بين احداق الوطن الوارفة الظلال.. الحب الذي يذكر بالعراق باهله بتراثه وبعظمة تاريخه العظيم.. وايمان الكوفي تعشق العراق من خلال حبها فارس احلامها الانباري.
الكوفة.. والانبار..
الذين يعرفون تاريخ وتراث هاتين المدينتين العريقتين.. يدركون تماما لماذا اختارت الكوفية المتألقة شوقا ووطنية ذلك الفارس الانباري.. ان المدينتين تمثلان كل اطياف العراق.. ووحدته وحب ابنائه مجده العريق في وقت.. تتهافت فيه قوى الشر والظلام على نصب كمائن الفرقة وحبائل التشتيت وشباك صيد المغفلين...
ايمان الكوفي بهذه القصيدة دقت مسماراً ثابتا في عيون الذين يعزفون على اوتار التفرقة والطائفية المقيتة.. وهنا لابد ان نقول ان الكوفي طرقت باب السياسة من شبابيك حب الوطن.. لكن باصابع النساء الحسناوات.. الملونة باصباغ الاظافر الطويلة التي تتسلل دون ان يشعر بها احد.
واذا ما تحدثنا عن ايمان العاشقة.. فربما لن نجد امرأة أخرى تذوب مثلها رقة وتستسلم شوقا امام تنهدات الحبيب الحارقة.. التي اذابت (تراجيها) وانستها نفسها.. حتى لم تعد تعرف اين ذهب خاتم الخطوبة او الزواج النفيس :
يمكن نسيت الخاتم بچف ايده
وترجيتي يمه احترگت بتنهيده
حين الهمسلي بوصله ومواعيده
الدنيا اخذني ميسره ومسبيه
ايمان تتحث لنا كفرس شموس.. بعد ان ذهب هذا الفارس الهمام بعقلها وسلب منها لبها فلم يبق لها غير ان تعود الى طبيعتها الانثوية وتستجير بامها كأية مراهقة يداعب الغرام نياط قلبها لاول مرة:
وج ااه يمه مادريتي بناري
روحي سحنهه برقته الانباري
ثم تطمئن امها لشهامة هذا الفارس وصدق توجهه:
مكيوله يمه ابن العشاير يوفي
وين انته ساكن كال بالغربيه-
وكم هي جميلة (يمه) تخرج من افواه الفاتنات.. وتحاول اقناع امها بذكر صفاته الجميلة:
يمه سحرني واصبحت مجنونه
اسمر دخيل الله شحلات عيونه
متوسم الغيرة وبطل يدعونه
ذل الغريب وركبته محنيه
وهنا دخلت ايمان الى صلب الموضوع.. فهي وحبيبها (كل العراقيين) الشهامى.. والغيورين.. يرفضون دخول الغريب بينهم ذلك المخرب والقاتل المأجور الذي حاول ولا يزال ان يعبث بوحدة العراقيين وحبهم لوطنهم. اما حبيب ايمان.. فهو الذي أذل الغريب.. وحنى رقبته.. وتكمل رسالة الحب العراقي الخالد الذي يجمع ابناءه ممثلا بكفاح الشعب وجهاده في ثورة العشرين التي شارك فيها كل العراقيين لطرد (الدخلاء) والغرباء.. بذكرها (الفالة).. ولا تنسى ان تعرج على وحدتنا الدينية الرصينة بحبنا جميعا لسبط رسول الله وآل بيته الكرام ممثلا بجب سيد شباب اهل الجنة وابي الاحرار الامام الحسين عليهم السلام جميعا ثم تذكرها صريحة... فتقول:
طب الغريب وسال دمه ودمي
حط الحواجز يم مضيفه ويمي
مانعني اغازل خلي وابني عمي
يندهله سني وصاحلي شيعيه
---
لا والرسالة وفالة ابن النهرين
ينحب مثل نوحي او ونيني علحسين
عن جود حيدر صاغ عمره دواوين
من عدي بيه مو غريب عليه
العروض في القصيدة:
لم تكن ايمان الكوفي جديدة في فكرها الثاقب الذي ابدع لنا هذه القصيدة فحسب بل كانت (جديدة) في اختيار وزن القصيدة.. فلو انك استطلعت القصائد المنشورة هنا وفي منتديات اخرى لوجدت ان غالبيتها نظمت على (النصاري) لسهولته.. وقابلية تفعيلته على التغير العروضي الواسع بدأ من الخرم وانتهاء بالتسبيغ.. وهو طيف واسع.. ورغم ذلك لن تجد قصيدة واحدة على النصاري خالية من الاخطاء العروضية لسهولة الخلط بينها وبين تفعيلات سباعية اخرى قريبة منها.. في بحور واوزان العامي.
وقلما تجد شاعرا تحول الى بحر او وزن أخر..رغم كثرتها..
ايمان الكوفي عرجت بنا الى اجمل واسرع بحور الفراهيدي باختيارها (الرجز) لهذه الرائعة.. والذي لا نجد مثله في المنتديات هذه الايام... فالقصيدة من الرجز التام المقطوع.. انه (البونخيلة) كما يدعى في العامي وهو من اروع ما نظم في العامية بشكل ابيات مجنسة مثل الابوذية... وسمي كذلك لان الشعراء السابقين كانوا يبدأون ابياتهم بكلمة (بونخيلة) والتي تعني (أبو نخيلة).. والنخيلة: ظفر الشعر بعدة جدائل (كصايب) رفيعة كثيرة حتى يبدو رأس الفتاة وكأنه نخلة بسعفها المتطاير (ونخيلة) هو مصغر نخلة.. كما يسمى (الميمر) بسبب بيت قيل فيه:
علميمر وعلميمر وعلميمر...
ويقصد الشاعر (على الما مر) الي الذي لم يمر بي..
وينتهي رباطه دائما بحرف الراء.
ومثاله:
يا بونخلة اعلى المتن مصبوبه - نازلة
حلوة كصيبتها ابشعر مصبوبه - مظفورة
يا ريتني خويدم لعد مصبوبة - اسم فتاة
تامر عليه وكل امرها امحضَّر
ولم يلتزم المجددون ب (يا بونخيله) بل اي كلمة أخرى:
رمان خدك لاك إلي بس حبَّه - حبه الاحمر
ودموع عيني جالمزن بسحبَّه - في السحاب
فدوة الركبتك يا حلو بس حبَّه - قبلة
من هل خدود التشبه الورد أحمر..!!
كما ينظم قصائد.. ومطولات لا تلتزم الجناس كما في قصيدة ايمان الكوفي. ولولا الاطالة لتوسعت بالحديث عن هذا البحر الهائج المائج بكل اوزانه الرائعة التي لا يعرفها الا القليل.
ملاحظات عامة:
تقول ايمان
أولا:
(ابيمنا شبجني بيسرته الجفيه) والمعروف ان الراقص او اللاعب في آخر الصف من جهة اليمين يمسك (الجفية) بيمينه وليس بيساره.. ولو قالت: (ابيسرا شبجني بيمنته الجفية) لكان اجمل.. ولكن الشاعرة ربما فضلت ان يمسكها بيمينه كما يفعل الرجال مع النساء عادة.
ثانيا :
لو طاف جفني بحجة الخطاري
(عيل) زال همي وطاب جرح البيه
الشطر الثاني غير موزون بسبب كلمة (عيل) واعتقد انها كانت (جا) الجنوبية.. وهي ملائمة للوزن على الشاعرة معالجة الموضوع.
ثالثا :
بزغري هويتك فارس الاحلامي
حرف الباء في بداية الشطر حوله الى بحر الهزج.. ولو قالت (انا الهويتك) او (طفلة وهويتك) كأمثلة والموضوع متروك للشاعرة القديرة.
رابعا:
استشهدت الشاعرة بالبيت التالي ووضعته بين قوسين (وكوم درجلي وامش كدامي-- ولاتخاف من اهلي ولا عمامي) وهو جميل وفي مكانه تماما لكن اود ان اقول: ان (هذا البيت من بحر الرمل) كما وجدت ان بعض الحان الجوبي من المتدارك وهذا فقط للتذكير بان هذا البيت ليس من نفس وزن القصيدة..
خامسا :
لا والرسالة وفالة ابن النهرين
ينحب مثل نوحي او ونيني علحسين
عن جود حيدر صاغ عمره دواوين
من عدي بيه مو غريب عليه
في هذا البيت جاءت جميع عروضاته (مقطوعة مسبغة -- مفعولان) بينما كانت في جميع الابيات الاخرى (مقطوعة فقط -- مفعولن) وللشاعرة مراجعة ذلك فستدرك الفرق البسيط بين الوزنين..
سادسا:
الجوبي رقصة وتسمية كردية اصلا (جوبه) وتعني اليسار اي ضرب الارض بالقدم اليسرى كما يفعل الراقصون وانتشرت في جميع انحاء العراق وبعض الدول المجاورة من قديم الزمان. وهناك من يرى انها تعني (العصا) المصنوعة من الخشب (جوب) لان الراقصين كانوا يستعملونها اثناء الرقص.. وتغنى باوزان والحان عديدة (كما يبدو)..
سابعا :
القصيدة تصلح كاغنية وطنية رائعة ويمكن ان تغنى بطريقة الچوبي.
تحياتي للرائعة ايمان الكوفي.