ادب وفن

الواقعية البسيطة في "ريم وعيون الآخرين و عصا الساحر" / مؤيد عليوي

يقف الواقع بين روايتي "ريم وعيون الآخرين" و"عصا الساحر" للروائي عباس الحداد حائراً متلفتاً في زمكانيته المفعمة برائحة القهر السلطوي على مجتمع مغلوب على أمره بين القرية والمدينة - المكان - الشاهد منذ أبجدية الحكاية التراثية في الأدب العربي بحسب رأي د. قيس الجنابي في كتابه الحكاية التراثية:"ان الحكاية التراثية العربية المرتبطة بالمدينة هي حكاية غير محدودة الزمان، وان المدينة مادة الحكاية فيها، والتي كانت سبباً في اتساع المساحة المكانية لهذا التاريخ إلى جانب التنوع والخصب والجدة والواقعية".
أما رواية "ريم وعيون الآخرين" فـزمانها الروائي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وينتهي بعام 2003، تدور أحداثها على ارض قرية الوردية من قرى مدينة الحلة، فينقل الجسر الزمكاني اغلب أدق تفاصيل ملاحقة امن الدكتاتور للناس، وتتشعب إلى داخل تفاصيل النفس حيث يعتمد المتن على الراوي العليم، مع مقاطع من ذاكرة الشخصيات "فلاش باك"، نعم الشخصيات أو المخلوقات الروائية كما اسماها د. علي إبراهيم محمد في بحثه الأكاديمي مخلوقات، شخصيات، أصوات الرواية "ريم وعيون الآخرين، التي كانت تعلب الدور الأبرز في بنية السرد الروائي، إذ تحتل عناوين الفصول وهي الركن الأهم في سير الأحداث، مثلما كان العنوان موسوماً باسم فتاة الحكاية "ريم وعيون الآخرين" ليكون اسمها علامة تميز في النص، حيث يعمل أسم ريم وأبيها الشهيد هادي الصالح علامة أو سيميائية التحدي للسلطة الدكتاتورية، وبذات الفنيّة في أسلوب الروائي عباس الحداد، يتشكل السرد الروائي لرواية "عصا الساحر" ما بين 9 نيسان - سقوط الصنم - 2003 وانتخابات 2010 ، والذي ينتقل بخطى الفوضى التي دبت في المدنية - كل مدينة عراقية - كانت الحلة واحدة منها، لتكون الشوارع ومحلات الحلاقة والأزقة والمقاهي جميعها كانت الشاهد على أفعال السرقة والقتل بذرائع طائفية أو دينية وقتل على الهوية، التي فرضت على الناس الفقيرة الطيّبة الصمت أو التملق من أجل لقمة العيش، ليكون كل هذا المكان قبل ذاكرة أبناء الشعب شاهداً، أنها لوحة رسمتها يد التطرف الأعمى وفساد النهب المنظم والمبكر في الواقع العراقي بكل وقاحة، ومارستها على الملأ مذكرة ببشاعة فعل مليشيات الحرس القومي في شباط 1963، قبل أن ترسمها أي كلمات بفنيّة الأدب عن الواقع العراقي، ومِن رواية "عصا الساحر" نسمع بريخت:"لا يدري كيف خطرت في ذهنه مقولة الكاتب والمسرحي بريخت. ينبغي أن نحذر ونحن نطارد الوحش من أن نتحول إلى وحش مثله". مثلما وشت الرواية بوقائع انتخابات 2010 من خلال حوار هشام عبد الله:"آه لو يعرفون أن مَن يحاول أن يزيف التاريخ ويكذب عليه سُيصدم بلسانه الحاد، ويده القاسية ولات ساعة مندم. وسيعرفون أن الله حق، كما أرادة العراقيين ليست مزاداً وخطابات رثة، ووعوداً كاذبة واجتماعات ولائم وبطانيات ومدافئ وكارتات موبايل توزع سراً وعلانيةً". وبهذا تمثل رواية "عصا الساحر" امتدادا زمانياً ومكانياً لرواية "ريم وعيون الآخرين"، وامتداداً أسلوبياً لها مع فارق واحد في البنية البرانية للمتن: هو خلو"عصا الساحر" من عناوين الفصول، إلا أن الأسماء فيها تعمل بسيميائية أيضاً، ولكنها سيميائية جديدة تبث معاني المطالبة باستقلالية حياة المواطن .
من خلال ما تقدم نرى أن الروايتين تمثلان المدرسة الواقعية التي اختطهما المتن، ولكن أية واقعية؟ أرى أنهما من"الواقعية البسيطة" يتطابق السرد الروائي في الروايتين مع شروطها بحسب فكرة الصيني "لي دا":" لقد ظهرت الواقعية البسيطة المتميزة بحس جمالي أكبر والتي يتم فيها تصوير الحياة اليومية للناس البسطاء في البوادي والمدن والتاريخ والدول الأجنبية والمناطق الاقتصادية ،بدل تصوير الوجود الإنساني ،.... ، كما أصبحت الواقعية البسيطة تعطي الأهمية للشخصيات الواقعية ولــاستقلالية الحياة ، بدل الشخصيات النمطية"، علماً أن زمان القرية فيهما لم يكن زماناً محدوداً في الواقع الروائي والواقع المعاش لأن أغلب الأفعال الروائية للشخصيات، المنقولة عن الواقع بحرفيّة الفن،هي ذاتها مازلت تُمارس في الواقع الحياتي من الجانبين الايجابي النضالي والسلبي السلطوي – اقتصادياً اجتماعياً- مع بعض فسحة الديمقراطية السياسية التي تحاول الدولة الجديدة حمايتها وصونها، إذ لم يسقط اغلب الفعل من الواقع لكي يُعدُّ من الماضي، والسبب تدجين المجتمع في عقود ماضية تحت راية الحروب والحصار ومخلفاتهما في ظل الدكتاتورية، وكذلك استغلال المتطرفين هذا الخوف في المجتمع لصالحهم، فجاءت الروايتان تصوران واقعاً لتفاصيل حياة الفقراء والبسطاء من العراقيين - الشخصيات الواقعية - الذين لم يكونوا سبباً في سطوة الدكتاتور على الحكم والمجتمع، ولم يكونوا سبباً بفوضى خلاّقة أرادتها الولايات المتحدة الأمريكية التي جاءت بالدكتاتور صدام من قبلُ.
أما المكان الروائي ـ القرية والمدينة - في الحلة، فلهُ إشارة لوطنٍ، ويعبر عن هذا المعنى لؤي حمزة عباس في كتابه "المكان العراقي جدل الكتابة":"يعيش المكان العراقي واحدة من لحظات وجوده المؤثرة، لحظة امتدت عقوداً من التراجع والانحدار، وها هي تصعد إلى الذروة غير مأمولة للحدث ، مدوّنةً على مشهد الخراب الواسع كلمتها القاهرة"، ومن هذا المكان العراقي أيضاً لابد من المرور على مقال الكاتب عباس عبد جاسم في صحيفة الأديب : حيث جاء المقال بعنوان: "نهاية اليسار الشيوعي في روايتي "ريم وعيون الآخرين" و"عصا الساحر"، مجهداً نفسه في تقديم ثمانية مصادر عن نهاية اليسار الشيوعي المزعوم من هنا وهناك، وليس لها صلة بالروايتين من الجانب الأدبي أو النقدي، علماً ان مصطلح اليسار مصطلح عائم سياسياً، ومصطلح الشيوعي ثابت وراسخ، ولا اعلم كيف خلط بين المصطلحين، تاركاً البحث في المتن الروائي إلا ما جاء عن واقعية الروايتين، ومخالفاً أغلب القراءة النقدية، التي حاول أن يُظهرها بمظهر النقد الثقافي، فمثلاً شخصية سميرة الطفلة السجينة وهي بنت أقل من السنتين، التي كانت سجينة مع أمّها في أقبية النظام السابق، علما أن سميرة لم تُسجنْ وهي كبيرة، كما جاء في مقال جاسم:"تحوّل سميرة عيسى من امرأة مغتصبة في السجن إلى مترجمة للأمريكان"، وهنا صار خلطاً جليّاً في شخصية سميرة وغيرها من الشخصيات، وكذلك طال الخلط حركة الشخصيات الروائية بين الاختفاء من السلطة الدكتاتورية في العمل الذي يمارسون حينها دون اختصاصهم ودون رغبتهم، وما كان يُفترض أن يعملون فيه لو كانت الحياة الطبيعية بعيدة عن ملاحقة السلطة.
نعود إلى الواقعية البسيطة للروايتين، التي تجلت في بنتيهما الجوانية، عبر النسق السردي لهما، فهو نسق واقعي يُمثل حياة العراقيين الآن زمن كتابتهما، يوم سُمح للسان أن يتحدث ويحاور عن الحاضر بمحدودية ذلك البوح بعيداً عن التابوات المتداخلة، وبمحذورية المسكوت عنه، في ظل فسحة الديمقراطية المتاحة، وكذلك البوح عما تكنزه الذاكرة، الذي مثّل حيزاً واسعاً من نسق "ريم وعيون الآخرين"، وبوجهةٍ عامة لهذا النسق كانت أرضية الفضاءات المكانية له متنوعة في الواقع جسدتها الروايتين: البيت والبستان ومحل العمل في المدينة والمقهى ...، فسمة الواقعية ملازمة للروايتين مع امتياز رواية عصا الساحر كونها تعالج موضوعاً مازال حاضراً يشبه موضوع رواية "شباك أمينة"، ورواية "فندق كويستيان"، بحسب رأي فاضل ثامر عنهما في هذا المضمار:"من الروايات العراقية القليلة المنشغلة كلياً بتجسيد صفحات من حياة العراقيين خلال العقد الأخير، وتحديداً بعض الصراع السياسي والطائفي خلال 2007 ،..".
وحتى عنوان عصا الساحر كان عنوانا ساخراً يحيل إلى مثيولوجية عراقية تتردد كثيراً في الحوار الواقعي للمجتمع عندما تقف نقطة الحديث في العجز التام للبحث عن حلول آنية للمشاكل الاقتصادية الاجتماعية، والسوسيولوجية والمعرفية المتراكمة منذ عقود طويلة وكأن عنوان الرواية بهذه السخرية من الواقع يشير إلى أن التغير الحقيقي يتأتى من التصحيح التراكمي في الداخل العراقي، ولا وجود لحلول سحرية آنية تأتي من الخارج مهما كان هذا الخارج سلطوياً ومهما كانت جنسيته أو دينه أو طائفته أو قوميته.