ادب وفن

"سونار الضماير ".. وجعُ الحناجرِ الوامضُ بالقناطر / قراءة . صباح محسن جاسم

صدر للشاعر – طه التميمي – عن "دار الفرات للثقافة والإعلام" في الحلة اصداره العاشر ( سونار الضماير ) – شعر شعبي - طارقا باب غنائياته بذات النزف الشعري الحاث على المثابرة والأمل بوطن حر وشعب سعيد منذ تتلمذت على قريحته زخات وَدَقِهِ التي تشمّسنا بضياء مائها عَبْرَ: السديّات واحلام الفرات – كلثوميات عراقية – هوه جويريد - اطياف ناعسة – عطر الطفوف – المساجلات – غنه السماج – ابجدية الأمثال الشعبية – و – خبز فقره -.
في غيمته الحبلى بجديده يؤشر سوناره بخلاف بقية السونارات التي اثبت الواقع فشلها بل خطرها على الذائقة الحياتية للناس وحياتهم الدافقة بالمحبة، حالة من حزن وطول فترة صراع سياسي أسرته في بلد تراكمت عليه نكبات من ديكتاتوريات غاية في التخلف حتى تكشّف للشاعر ان نزوح دكتاتورية نظام عبر احتلال البلدان لا يعني بالضرورة حلول نظام ديمقراطي حقيقي لذلك ينكأ جرح الشاعر العميق مرات أُخر وبقساوة لا يتسع حال صراعاتها حتى تؤسس للشاعر قيمة رؤية مستحاثّة لتحقيق حلمه الجمعي. هنا يتجذر حبه الجارف المنتج من جديد كردّ فعل يطرق بواسطته ابواب ذاكرتنا المتفحصة عبر طائره النقار الشعري بـعذوبة – يلي حبّك -: جنت اصليلك بلهفة ولا احيدن عن جبلتي، على انه سرعان ما ينزل بزخة من امطاره: يلّي حبّك ماي زمزم/ ماي لو وجّت اهدومي.
وهو لا يني عن اثابة وصفه لـ - بنت الديره – التي أسره جمالها فتهيمن على أدائه الغنائي بدءا من عينيها " نور النجوم " وتدويرة وجهها الشمس، لعلّه يتلذذ بحالته المعذّبة لكن رابط الهوى يتبلور في التزاوج الفكري بينهما فالأثنان يتطلعان لا الى بعضهما فحسب بل الى جهة واحدة واعدة بالأمل المرتجى. حتى اسمها ليس كباقي الأسماء بل هو كلّ جامع لـ " المعامل" و" الطيف" غير النائم الذي يتزنّر بواسطته الفلاحون، اسم تتزوّق به الشفاه عَبْرَ اناشيد المدارس. هو " الحب" الذي لا يعرف يأسا وهو ما تستهويه النفوس المتأملة للتجدد والتجديد اثر كسر متراكم العادات والتقاليد المقيّدة للتحرر واختيار الطريق الجديد بعيدا عن انحسار الحياة وضيق فضائها.
لا يخلو وصفه من حب آيروسي لكن بقدسية المرور الواجفة نبضاته على أن تحافظ على جمالية عزف لا تشوبه رغبة بنزوة عابرة بل هو الثبات المتحرك صوب هدفٍ يمسُّ جمالَ الحياة ويلهبُ فيها " وكاحة" البراري بعناق نسمات المساء. ففي – ما كبرتي – نطالع: وعمرج العشرين عدّه / وعلى الكليّة عبرتي / وصرتي يا سبورة صرتي / وآنه لسّه بأمتحاني/ مكْمل ابدرس القراءة / بين أدخل دورة بيج/ وبين احبّج واعتنيج /. وفي معبر آخر: يعمّي احنه بدربنا اشموس" فهي " الثورة" التي لابد منها والقادمة حتماً.
واذا نسي الكثير من الشعراء فلسطين فشاعرنا يدوّزن ربابته على ايقاع حجارة المزدلفة ليقابلها بـ " اطفال الحجارة" رائعة قصائده الغنائية، فللحجارة " فعلها الشرعي" وأن صوتها اقوى من " القذيفة".. الحجارة التي تنْده النائمين وتبعث برسالتها الى خيم النازحين المشرّدين. فضلا عن ان الشاعر يستمد بعض استعاراته من مفردات قرآنية فيقسم بـ " القارعة": اي وحكـ القارعة/ واللي راح ابسيف قوّه / ابسيف قوّه انرجعه/. فما اشبه اليوم بالبارحة!
في " هُمّه عكرب" يهدي الشاعر عتبه الى زميله – اسماعيل محمد جياد – " يل جنت شمعه ابدربهم / تحترك وتضوي الهم". " يل جنت سفّان عمرك/ تجدّف الراحة سفنهم"، اذ يتحوّل عتبه الى احساس بالمعاناة من ثم الى حرص تستهويه النفوس المتأملة.
في " درب الشمس" لا يأس في درب النضال " لو صيهود كضه وما غرف بس دم/ لا تيأس واحفر بالصخر بيرين/ ببره وخلّي اصرارك دوه وبلسم".
يتزامن عتب الشاعر ونصحه في قصيدته – غلطة – " يا ضعن فارج هله/ وللشامت ارتاح بغربته/ وكْسَه من تنخاه يرجع/...../ خلنه نحجي اشما يريد الحيل/ ولا نرضه ابمذلته"
ومن ضعفت فيه بصيرته وتراجع وسط الطريق ينبّه الشاعر ناصحا: " لا تكلّه ارجع يواعي/ ذنب ما يغفر غلطته/ خلّه حدار الضعن/ والحادي منسر ابهجرته". وكما يضع اصبع الوعي ليؤشر على حقيقة الصراع ومخطط اخضاع البلاد الى الخصخصة والبطالة اذ لا ينسى: يعني مبيوعه المعامل/ يعني هذا المطر كامل/ جوع مر اعله المكاين/ تحتضر مصيوبه حمّه/ والأيادي الكبل تنتج/ هسّه تركض عل الرواتب. من قصيدة " طشني شوف".
يأخذ بنا الشاعر في محطات سفره السندبادي الأثيري فيجوب بنا جنّاته المؤمّلة:
" والعرايس بالمدارس.. بالمعامل/ كلها تقره السندباد/ الياوكت يبقه يسافر/ الياوكت يبقه يهاجر/ ما تهزّه ادموع دجله/ ولا شموع الخضر شايلهه الفرات".
هكذا تتطامن محطات الشاعر مؤشّرا الى نوع من الصراع المجتمعي المتأثّر والمؤثّر في عمق الوجدان العراقي: " يا رفيجي ما لكيت اليشري مني/ او حرفي مسلوب الثياب".
في " لا تسرق صوتي" كشفٌ واضحٌ لما لا يُخفى على وعي الشاعر المتابع والرائي: لا اصلاح لا تغيير لا اعمار/ لا شفنه الحلاوة لا جدر مخسوف.... بالخضراء والضرّاء والسرّاء/ كلهة اعله الركاب امشرعات اسيوف.
وما تعويذة المحتفلين بالعيد الآ ومصدرها شجاعة امتشاق المرأة مشاركتها تضامنها مع اخيها الرجل فيما تصعد الى منصّة الكلام والكلمة الحرّة "هنودة"، / رفيقتنه وثدي فكر الحزب غذّاج / وكبرتي ابثقافة وطيبة محسودة / تجاوزتي ابوعي خنجر القيل وقال/ ومنادس وجلم مقصودة.
في "خواطر سديّة" تنمُّ اختياراته الشعرية عن ذوق فنيّ عالٍ وحسٍ شعري بغاية وهدف فاستذكاراته عن مدينته السدّاوية المكان والزمان الجميلين رفقة سفرات الشبيبة واحتفالاتهم الواعية، يتحقق معها ما لم يحققه قادر بالرجوع الى ايام الشباب: أرجَع العمر الشباب/ والمصايف والفرح والناس/ والكعدات وميوز الشراب/ والنسايم صافحن وردات جوري/ والنده الحلمان حمّلهن عتاب.
مفردات الشاعر تنطلق من بيئته في تراكيبها وبنائها الشعري، احاسيس وجدانية وجزالة في اللفظ وعميق معنى وبهاء مغنى: يالمخاضج مثل مريم/ وطبعج اطباع الشجر/ يكرم اثماره بسخاوة / ولا شكه اليشمر حجر/ انت نص ابمجتمعنه / وانت نص كل البشر. – من قصيدة الى المرأة العراقية بمناسبة عيدها الميمون.
وليبث شكواه وتحذيرات الشاعر النبوئي في " سونار الضماير" والتي تكشف سيماؤها عن طابع حزن لمن سيفوت عليه التحذير: وتحط البلد يا وسفه بالمازاد / وتساوم ابصوتك خوش خرجيّه/... احضر انتخب شوف اليمثلك زين/ مرّة اصبع تصبغه موش يوميّه / تصاوير الوعود الترست الحيطان / واشبعنه جذب واطعمنه صينيّه /.
هذا غيض من فيض فقصائده الإحدى والثلاثون تؤشّر للوعي ومهمة المثقف العضوي لأستشراف مختصر طريق النضال الموحش، طريق الحق الذي استنزف من اجياله الكثير من الضحايا لهم الذكر الخالد.
على ان لا يفوتنا ذكر ان الأحتلال ومثبطاته وقبله الحصار الظالم ومرض الشاعر قد احكمت على الشاعر ما افقده بوصلة التفكير لحظة حتى ثار على كل الموجودات بما فيها نفسه.. فالشاعر صاحب مخيّلة عاشقة وليس مجرد كير حداد نافخ للنار اذ تستفزه "اسئلة غير مبررة في رحاب السيطرة" مثلما يستفزّه عمره الذي ترافق مع عمر حزبه الشيوعي وهو يلهث بثقل الكلمة الحرة منتخيا من يستلم الراية من جيل الشباب: هسّه الفعل بيدك كوم قود الناس/ يا انظف حزب تاريخك ايأشّر/ صحوة ناس غافلة هل الناس/ هسّه اعرفت بختك ايعثّر / سالم يا حزبنه والك تضوي شموع/ حرت اشلون اوصفك وصفك ايحيّر!
واخيرا وليس آخرا يبقى الشاعر الواعي هو خير سونار بين أنقياء الضمائر والذي يكشف للناس دربَ حلمهم الموعود والواعد بالمنتج للسلام والأمان طيبةً وزهواً لحياة آمنة مستقرة يتنافس الطيبون في كنفها على ما يبدعون من علاقات تسرّ لحياة افضل واحساسٍ راقٍ للبناء.