ادب وفن

سفر الخروج.. بين الرمز وعطب ماكنة السلطة / صباح هرمز

عرضت مؤخرا مسرحية "سفر الخروج" تأليف جوزيف حنا يشوع واخراج وسام نوح على قاعة جمعية الثقافة الكلدانية في عنكاوا ليومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني. واستغرق عرضها "40" دقيقة فقط. تتكون المسرحية من خمس حسرات في النص، أو هكذا ارتأى أن يطلق عليها المؤلف. بينما تتوسع هذه الحسرات في العرض الى اثني عشر مشهدا،
يتخذ المخرج لحادثة جسر الأئمة التي أستشهد فيه "عثمان العبيدي" غرقا في نهر دجلة، أثناء سعيه إلى إنقاذ الذين كانوا يتساقطون من فوق الجسر، بسبب تدافع الحشود فوقه ويتخذ من هذه الحادثة الانطلاقة الأساسية لبناء ثيمة المسرحية الخاوية من الحدث التقليدي القائم على تسلسله وبناء الوحدات الفنية الثلاث، مستفيدا من هذه الثيمة في غرق عثمان، جاعلا منها حالة عامة، باقترانها بالظروف العصيبة التي يمر بها البلد، في الصراعات الناشبة يين مختلف أطرافه السياسية والطائفية، هذه الصراعات التي أدت الى العطب في كافة المرافق الحياتية، أو كما يحلو للمؤلف والمخرج أن يسميانها بـ "عطب الماكنة". وبالتعويل على تجزئة هذه الثيمة الى مشاهد قصيرة، يقوم بأدائها ثلاث شخصيات تمتهن كل واحدة منها، عملا معينا، وتنتمي الى طائفة، تختلف عن انتماء الطوائف الأخرى، كسائق السيارة المسيحي، وحسين الشيعي الذي يعمل مصلحا للسيارات، وأم عثمان السنية، وأحيانا تغدو الأم العراقية، وتشترك الشخصيات الثلاثة في هم واحد، وهو تصليح العطب الذي أصاب السيارة، وهذا الهم ما هو ألآ ترميز لفشل العمل السياسي في العراق، تحت ظل نظام المحاصصة. ولعل تقارب مهنة شخصيتي السائق ومصلح السيارات، باعتبارهما عمال فنيين، زاد من ادراكهما في خطورة الوضع القائم، وبالتالي تبنيهما قضية الأم التي فقدت ابنها - يذكر المتلقي بحادث سبايكر أيضا الذي راح ضحيته المئات من الشباب.
يبدأ العرض بدفع السيارة العاطبة من قبل ثلاثة أشخاص، بالاعتماد على حركة الأيدي والأرجل وصوت مشغل السيارة "المفتاح"، وبعد ثلاث محاولات تأبى السيارة أن تشتغل، وتتكرر هذه المحاولة ثلاث مرات أيضا أثتاء العرض، في البداية والوسط والنهاية، إلا أنها لا تعمل حتى في النهاية.
وفي المشهد الثاني يبدأ الناس بالرحيل من مدنهم، ويتضح هذا الرحيل عبر سيرهم الهوينا في باديء الأمر ثم سرعان ما يزداد وقع خطواتهم الممزوجة مع دقات أجهزة تصليح السيارات الموظفة من قبل الممثلين، أو كما لو كان هناك من يطاردها، ويقترن هذا المشهد ببناء حضارة العراق القديمة والحديثة، متمثلة بملوية سامراء وساعة بغداد ومنارة الحدباء وبرج كنيسة الطاهرة في قرقوش وبدر شاكر السياب. ويرمز هذا المشهد وبمعزل عن نزوع المخرج الى أسقاط مجاميع الممثلين من على خشبة المسرح بين المشاهدين، الى تدمير البنية التحتية للعراق، وشل قدرته على البناء والنهوض.
وابتداء من المشهد الثالث، يبدأ الحوار في المسرحية، بجملة "أين أنت يا عثمان" التي تنطقها أم عثمان، وهي واقفة وسط المسرح بحيرة وذهول، وتتردد اصوات المجاميع وراءها، التي تدل على الرحيل أيضا.
أما المشهد الرابع فيبدأ بموسيقى جنائزية، توحي الى استشهاد الجماهير في حرب ضروس، واشتدادها يوما بعد آخر، ويتبين هذا عبر ازدياد التوابيت، وازدياد قوة ضربات الفؤوس والمعاول في الأرض لحفر القبور، مقرونا كل هذا بتكبير المساجد وأجراس الكنائس.
ترمز الشخصيات الثلاثة الى الشعب العراقي المتحاب، والمجرد من أية ضغينة، أو صراع يفرق بين أبناء الشعب الواحد، صراعهم الوحيد هو مع الطبقة السياسية التي لا تعير أذنا صاغية لمطالبهم، ولا الى العطب الذي أصاب محرك السيارة، هذا العطب الرامز الى المحاصصة القائمة بين الأطراف السياسية لتقسيم ثروات العراق بين الحيتان الكبيرة.
ان الشخصيات الثلاثة هي كذلك، بدليل أن سائق التاكسي المسيحي يصف حسين الفيتر بصديقه القديم، لا بل يعتقد أنه سيصلح العطب الذي أصاب السيارة، أي الوضع الراهن. كما أن أم عثمان دائما ما تنادي المسيحي بأبني، وتدعو حسين ليذهبا معا حيث هي جثة ابنها. ولا يتوانى حسين أن يبين موقفه المتضامن مع الأم حين يقول لها: تعلمين أذن ! تعلمين أنهم صادروا روح ولدك ولدك عثمان واستباحوها. ومن أجمل مشاهد المسرحية هو المشهد الرابع، لتزاوج مختلف العناصر الفنية فيه، من أصدار أصوات آلات تصليح السيارات الموظفة من قبل الممثلين والممزوجة بصيحاتهم الساخرة بمحاولات حسين الفيترجي الفاشلة في إصلاح عطب السيارة، وهو يمد ذراعيه ويستخدم أصابعه، ويثني كتفيه مرة الى الأمام ومرة أخرى الى الوراء بالتزامن مع حركة رجليه، وحواره المنبعث عن ذات جريحة وعاجزة عن فعل شيء: ما بال هذا لا يدور! ما خطبي أنا ! أين العجز! أين الخلل! أأصاب عقلي مس أم أصاب إبليس هذه الخردة القميئة!، وترد على هذا الصوت المبحوح، أصواتا عالية تنعته بعدم المعرفة، فيدور حول نفسه كالمجنون وهو يقول: لا أنا حسين طببيب هذه الماكنات ومعالج أمراضها، وأنا أعيد الحياة إليها لتدور.
أما المشهد الخامس فأقرب ما يكون الى مشهد الحلم، أذ أن المخرج يعمد قبل بداية كل مشهد الى التعبير عن طريق الموسيقى الى الإعلان عن نمط الحدث الدائر فيه. فقد استخدم في هذا المشهد الموسيقى الهادئة، بعكس كل مشاهد المسرحية الأخرى التي تأرجحت موسيقاها بين الموسيقى الجنائزية والتراتيل الكنسية بالإضافة الى التي تدعو الى القتال أو الحرب. وهذا المشهد هو امتداد للمشهد السابق، ولكن باستخدام المصطبة فيه، حيث الشخصيات الثلاث يجلسون على حافة هذه الخشبة، أقول حافتها بهدف تجسيد المخرج قلق هذه الشخصيات من جهة ولجذب أنتباه المتلقي الى قلق الشخصيات من جهة أخرى، بقصد أستخدام وعيه لما يجري، وليس أندماجه عاطفيا مع الممثل أو المشهد، كما هو الحال في المسرح الملحمي البريشتي الرافض للمسرح الأرسطي التقليدي. ولعل الحوار الجاري بين الشخصيات الثلاثة، زائدا أداءها يؤكد أن المؤلف والمخرج، يسعيان إلى السير في هذا الأتجاه. والمشهد السادس مثله مثل المشهد الخامس، أقرب الى الحلم، باستخدام ثلاثة أبواب فيه الرامزة الى عذابات الشعب العراقي، كالسجن والظلام والنفق والضياع ، وهو كذلك أيضا كالمشهد الخامس لخلوه من بث العاطفة، وسوقه بأتجاه مخاطبة العقل، والحوار التالي يؤكد ذلك:
حسين: لكن يا أماه يا أم عثمان سنجد وحيدك وندفنه كما وجدت العذراء وحيدها ودفنته.
سائق التاكسي: أجل يا أم عثمان وأن فشلنا فنحن هنا سوية سنبني السور ونعيد وجوده أن لم تدر هذه الماكنة.
أم عثمان: كفاكما تبيعان لي الوهم كلاكما يعلم أن السور لا تمكن إعادة بنائه إذا لم يدر هذا المحرك.
أصوات من الجمهور: لا فائدة افهموا أنتم حالمون.
والمشاهد الستة المتبقية، وابتداء من مشهد العميان الى المشهد الثاني عشر، لاستخدام المخرج فيها نفس المفردات الفنية،
كالنظارات والعصا والأبواب وآلات تصليح السيارات، تكاد أن تغدو مشهدا واحدا، ألا أن المخرج لاتباعه منهج بريشت في تجزئة النص الى أجزاء قصيرة، ولربما تكملة لاشتراطات هذا المنهج، فقد أرتآى أن يسير عليه، سيما ويقترن المشهد الحادي عشر باختراق الجدار الرابع أثناء سقوط الجماهير المضطهدة من على خشبة المسرح في صالة العرض.
وفي المشهد الأخير، تتعالى أصوات ضربات آلات تصليح السيارات من قبل الممثلين الموجودين بين المشاهدين، بينما تدور الشخصيات الثلاث وسط المسرح مع الأبواب التي ترافقها، وصدى الموسيقى الصاخبة، ممزوجة بحشرجة الشخصيات الثلاثة التي تتراجع ببطء الى الخلف، وهي تستند بظهرها إلى الأبواب، وتدفع بصدرها قليلا الى أمام، موحية هذه الحركة الى عجزها التام وفشلها في إصلاح عطب السيارة، بينما يسمع صوت مفتاح السيارة وهو على وشك تشغيل السيارة، ومع تكرار المحاولة لثلاث مرات، إلا أنها لا تعمل. استخدم المخرج ثلاثة أساليب اخراجية في هذه المسرحية، وهي البريشتي الذي أشرنا اليه ضمن تصدينا للمشاهد التي وظف فيها المخرج هذا الأسلوب، والأسلوب الثاني هو التسجيلي الذي وظفه في مشهد واحد فقط، وهو مشهد الآثار، بالإضافة الى مسرح غروتوفيسكي المعروف بأسلوب "المسرح الفقير"، وذلك عبر إلغاء قطع الديكور على خشبة المسرح، واستخدام المؤثرات الصوتية من قبل الممثل، كما في محاولات تصليح السيارات، وضربات الأرجل على الأرض.
ويتكرر الرقم "3" في اللمسات الإخراجية على أمتداد العرض. وهذا الرقم مثلما يتكرر في المفردات الفنية الموظفة، كذلك يتكرر الرقم نفسه في عدد ضربات هذه المفردات. إذ يوظف تصليح عطب السيارات ثلاث مرات، ومثله تكرر دفعها لثلاث مرات وينطبق الشيء نفسه على الأبواب الثلاثة، والشخصيات الثلاث، والعميان الثلاثة.