ادب وفن

المرآة والصحراء : قراءات في انعكاسات أحمد الباقري .. القسم الثاني والأخير / جاسم عاصي

أول ما يفتتح به الباقري كتابه "انعكاسات على مرآة في صحراء الروح" بالشعر. وهذه حسنة تُضاف إلى الغنى الذي يزخر به الكتاب من خلال التنوع . ولعل ما يميّز قصائده هي وحدة القصيدة وحضور ما شغل الشاعر جرّاء التراكم الزمني .
فبعبارات شعرية تميل إلى الطراوة في التعبير، والبساطة في اختيار المفردة وقوة تركيبها المتأتي من بساطة تركيبها، وغنى معانيها. لذا يمكن ترشيحها على أنها تتوافق مع العمر في كونها ذات محمولات من الحكمة والدراية. فقوله: (اصطفيت شمسك / التي تُنير في السر / لا تقول لها / بأنك لن تغادر مكانك / بل لأن ظلك / يمتد كلما شاخت الشمس) يوحي بالتوافق الذي يقود لترسيخ الذات، فالظِل هنا أكثر إبهارا ً من الشمس، لأنه يرتبط بالذات المصّرة على البقاء وديمومة التواصل. والدليل على ذلك ما أتت به قصيدة (اصطفاء) التي هي شروع بدلالة الذات هنا، أي اصطفاؤها. فهو يؤكد على عمق الإرادة عند الإنسان بقوله: (لا السماء تمنحك الراحة / ولا الأرض، / فسيان أن تبقى أو تُغادر./ لك ملكوت الحكمة / ولهم التراب الأصم) غير أن المعادلة في هذا تكاد تكون حاملة للتأسي بقياس الفقدان على مر العمر،والتأرجح بين العطاء والأخذ كجدلية في الوجود. فهو لا يصفها بالخسارة مثلا ً، بل يمنحها قوة للتضحية، في الوقت الذي يبقي به صور الخسارات مضمرة في التعبير بقوله: (كل ما أخذت ثمار/ لا تساوي ما أعطيت من بذور) ويوصي أيضا ً : (أرحل إلى صحراء بلا ندم / وتمسّك بحبل الضوء / في أرض لا تعرف الإنكار).
إن تجربة الشاعر تزدحم فيها المفردات الدالّة، سواء كانت من خلال وصف المسار الذي خلّف النتائج، أو عبر تذكر من عاش معهم. فهو يوظف رؤيته لعكس المُعاش، باعتباره تاريخا للأفراد والجماعات.
والباقري كحامل لذاكرة ليست تاريخا عابرا في مدينة لها سماتها وخصائصها على كل الأصعدة. فتاريخها محتشد بصور الأمكنة المؤثرة، مرتبطة بنماذج باهرة على صعيد الحياة والثقافة والفكر والأدب. لذا نجده ينهض من تراكم هذا التاريخ. ولأن الباقري كما هو معروف عنه لا يهوّل مرائيه ولا يبالغ فيما رأى ويرى، بل يُبقي كل هذا ضمن دائرة الحس الإنساني الأوسع. واضعا نفسه ضمن حيوات وجود الآخرين، وليس في صدارتهم. وأرى أن هذا فيه نوع من تواضع الكبار. فكل الذين حايثهم في حياته رحلوا كما هم (عزيز السيد جاسم، رزاق النجّار، عزيز عبد الصاحب، خالد الأمين، عبد القادر رشيد الناصري، قيس لفتة مراد، عدنان عبد الصاحب، رشيد عمران، مهدي السماوي، عقيل علي ) والقائمة تطول. وبهذا أجده قد اقترب منهم، ليس بالمباشر، وإنما بما أوحى به من صور وانعكاسات، لواقع وألفة كان ينتمي إليها، فصحّت مسيرته، ورُشّح كذاكرة أمينة لمتشكل متنوع، أضفى على قصائده الصدق والأمانة والوفاء. فهو حين يُعبّر عن وجدانه، لا يغيب عن ذهنه وجدان من رحلوا أو بقوا، لأن ما يقوله مرتبط بشكل أو بآخر بالأقران في مسيرته. وبهذا نجده يعبّر في قصيدة (تهيؤات) عن ذاته، بقدر ما يُعبّرعن ذوات الآخرين، لأنه أساسا جزء منها: (يتسلل الأمل إلى حياتي، / كما يتسلل شعاع واهن / من سقف يتداعى / فالأمل جثث محنطة / في متحف الأيام، / فقد غادرت صبواتي نافوراتها / وسكنت في بحيرة الملح) لذا فهو يستقر على: (يكفيني أن أمسح بكفي/ على وجه الفجر/ يكفيني أن أطعن الليل/ برمح الرفض/ يكفيني أن استبدل البغض/ بالغفران بلا مقابل).
في قصيدة (لجوء) يلّخص الشاعر رؤيته للوجود، عبر ناتج تجربته، وتجربة جيله، الذين ما حصدوا غير الخيبة والمرارة. إذ يحاول جمع كل الصور المؤثرة، التي مرّت، أو تلك التي سوف تمّر. مبتدءا بـ (ملك الأرصفة / والرياح خيولي/ أسماء في سماء الأشجار المثمرة) وهذه الصورة يضعها كمعادل لما تليها من صور أخرى: (أنا الذي حدّقت طويلا في الهاوية / فرأيت:/ طيورا قتلتها عاصفة الأمس / سواحل هجرتها نوارسها الهاوية / براكين خامدة تعشعش على فوهاتها العناكب) وثمة صورة تبدو أكثر بلاغة بالرغم من بساطة تعبيرها ومكونها اللغوي، إلا أنها حاملة لمعاني كبيرة (أنا الذي نظرت إلى نفسي في المرآة/ فأيقنت أن لابد أن أغيّر المرآة) وفي هذا تكمن الثقة العالية بما أجادت به الذات. وهو نوع من تحدي الزمن الذي هو بالتأكيد ترك آثاره عل وجه القائل. ونجده يسترسل، ليضع المبرر الذي يعزله بقسوة عن الوجود عبر مشاهداته وإحساسه بالمتغيّر السلبي (ليتني أطعن برمح الوضوح / قلب الظلام/ آه من ندرة الألفة !).
إن تحديات الشاعر وهو يتأمل ما تركته أقدام الزمن لا تدفعه سوى إلى ما تبقى من عقيدة البقاء، لأنه لم يجد ما يتشبث به سوى هذه الرؤية التي لازمته. فحين يصف خطأ الوجود، إنما ليقف مع الآخر على خطأ التاريخ الذي خلقه الإنسان لنفسه. كما لو أنه يقول: نحن من يخلق الخطأ والانحراف في التاريخ، وعلينا أن نتحمل تبعاته. لكنه كذات يصّر على البقاء بمفرده إزاء كل ذلك (يا أنت يا مالك المصير! / يا عشبة الحياة / يا من تُهيم في صحراء اليأس ! / أن أكون زهرة... أو سيفا.../ سيّان الأمر... / عليّ أن أقطع الزمن / الذي قطع زمني).
ويحاول في قصيدة يُرثي بها الشاعر (عقيل علي) أن يمزج بين الذات والآخر، فلا فرق بين خيبة عقيل ووجعه وتمرده على الواقع، وبين نظرة الشاعر لما حوله. فالذي يراه حاضنة للكبوات. والقصيدة تزخر بوصف تراجيديا الشاعر الراحل، مستلهمة عمق مأساته في الوجود، متأملة نشأته الفتية في مدينة كانت تُلهمه الأمان، راحل إلى مدن يضيع في زواياها الأبرياء، الذين لا يتعاملون إلا بالشعر. إن قسوة الحياة على الشاعر، وقسوة الشاعر على نفسه جسّدتها القصيدة على نحو ما اعتاد عليه الباقري من أسس في التعبير : (الريح تبكيك / والرصيف الذي توسدته / ينوح عليك / والسماء المنخفضة / أسدلت ستائرها الثقيلة على خاتمتك) وتتواصل المرثية، واضعة صورة الشاعر ضمن حيّز البراءة التي تعامل بها مع الواقع، مستدرجا تاريخ الأشياء وصيرورة الوجود الذي شكّلت سيرة (عقيل) متمردا ً، مأخوذا في جملة ما هو سائر نحو الخطأ الحتمي. ثم يخاطبه دون أن يستثمر هذا الخطاب سوى لفحص التجربتين معا ً. تجربتنا مع الحياة، وتجربتنا مع الشاعر: (أيها السخيّ / هل تعفو عنا / نحن الخطاة / الذين ساروا في طريق الإثم ؟) ولعله لا يفرّق بين تجربة الآخر وتجربة الأنا، كما ذكرنا. فهو سائر باتجاه نقد التاريخ للأفراد والجماعات. فحين يخاطب تجربته، يضع اللوم على نفسه، ولحظة يخاطب الآخر، يمزج بين التجربتين في معنى تجربة الآخر فهو يخاطب ذاته : (يا للرغوات التافهة / التي أفنيت عمري بجمعها ! / يا لشبكات العناكب / التي أبليت أصابعي بنسجها) في الوقت نفسه يُعيد صياغة الكلام، وهو يخاطب الشاعر (حسين حسن) (يا حسين حسن / لوقُدّر لك أن ترجع إلى طفولتك / هل ستعيش حياتك نفسها مرة أخرى ؟) ويستقري الجواب قائلا ً (يا لك من عنيد ومشاكس) لأنه قال نعم غير الرائقة للباقري كما يفترضها، لأنه يعرف (حسين) جيدا ً. لذا نجده يُرثي له في حياته (لماذا بعثرت حياتك / على غرف الفنادق الرخيصة القذرة / وتدوس قدماك اللدنتان / على عتبة جثتك التالفة / آمل أن تعثر على مفتاحك الضائع) وبهذا يعود بالشاعر إلى حكاية المفتاح التي تحوّلت إلى أسطورة خلاص، كما ذكرها (البياتي) في شعره. وبالأخص في قصيدة المفتاح، الذي أودع الساحر الهندي مفتاح الخلاص بيده، لكنه ضاع في الزحمة. وارتكب (حسين) نفس التهاون مع زمنه، فأضاع مفتاحه الذي بقي يبحث عنه إلى الآن.
لقد حاول الباقري من خلال قصائده أن يرصد تجربته الذاتية سواء من خلال خوضه تجربة التراجيديا مع زمنه، أو عبر تراجيدية زمن الآخرين. فهو بهذا يعبّر عن معاناة جيله المواجه للكبوات والإحباط. ولعل خير ما يختتم به مفصله في الشعر قصيدة مهداة إلى الشاعر المبدع (عبد العظيم فنجان). وهي قصيدة لا تبتعد عن دربة الباقري في مزجه بين تجربتين حيّتين. فهي قصيدة تحتوي على خلاصة عميقة من خلال معرفة شعرية عميقة. فهو يستدرج التجربتين معا ً (ليس من طبعي أن أبتني لعزلة بيتا / في نفسي... / بل أن العزلة هي التي ابتنت لها / بيتا ً من أضلاعي) ونلاحظ قوة البلاغة في (من) وليس (بين) المفترضة. لأنه يلاحق المعنى الأكثر بلاغة. ففي (من) نوع من انتزاع ومصادرة وخسارة. ثم يعود إلى فنجان ليخاطبه عبر رؤاه المفترضة (قل لي ماذا رأيت ؟ / رأيت الشرف خرقة: يمسح بها أشباه الرجال / أفخاذ البغايا / وما ذا أيضا؟ / رأيت الصدق مزحة / يتندر بها المتطفلون على الحياة) أو (سمعت بوق الاستيقاظ / الذي لم يوقظ أحدا ً).
لقد ظهر لنا (أحمد الباقري) شاعرا ًمتمكنا ً من تعرية المخبأ، إزاحة الغطاء المتراكم الذي وضعه الآخرون للتستر على عورات أفعالهم. وفي هذا قام بجولة، أختار منها ما يُلبي نداء روحه من قصائد، أراها تضمر غيرها. لأن تجربة الباقري طويلة، سواء مع أبناء جيله الذين فُجع بغيابهم، أو الذين تعاقبوا على واقع المدينة المنطرحة منذ الأزل على هدهدة جريان نهر الفرات الذي قدسته الأساطير منذ نشوء البشرية، فكان عطاؤه أبناء بررة من مثل الباقري الذي بحوزته الكثير من العطاء، كان يجمعه حبة تلو أخرى منذ أن كان يحمل رزمة كتبه وما زال، داخلا ً إلى مقهى الحاج كاظم، أو مقهى التجّار أو مقهى أبو أحمد، بعد أن يغادر يوميا ً مكتبة (طاهر غفوري) مصطحبا ً ما يجود به بريدها اليومي من الدوريات والكُتب.