ادب وفن

المرأة الفراتية.. سفر خالد في تاريخ النضال الوطني (1- 2) / سعدي رحيم السماوي *

ظلت المرأة الفراتية إبان ثورة العشرين التحررية المجيدة عنواناً ثابتاً للمفاخر والقيم والمآثر البطولية الناصعة.. فهي الصوت المعبر عن الرفض والمقاومة لشحذ الهمم وإثارة الحماس في صفوف الثوار البواسل تتقدم الصفوف وتهزج بعنفوان وحيوية تندفع امام المقاتلين تلوّح بعصابتها وهي حاسرة الرأس بكل ثقة واصرار لنيل النصر والحاق الهزيمة بالجيوش البريطانية الغازية فهي حاضرة في كل معركة من معارك التحرير الوطني ابتداءً من انطلاق الشرارة الاولى في الرميثة في الثلاثين من حزيران عام 1920 الى انتهاء آخر المعارك البطولية في معركة السوير الخالدة في السماوة.. فهي اضافة الى إثارة الحماس في صفوف المقاتلين ودفعهم على مواصلة القتال والثبات والصبر، الا انها تعتبر العين الساهرة لرصد تحركات العدو الغاصب وتجمعاته وكشف خططه ودسائسه ومناوراته ونقلها الى الثوار اولاً باول اضافة الى نقل المؤن والاطعمة وكل ما يحتاج اليه الثوار من المدد وتضميد الجرحى والسهر مع المقاتلين وتواجدها في سوح المعارك وخنادق القتال. ونذكر منهن على سبيل المثال لا الحصر (حضية العارضية وسكينة العسل وفاطمة الموسى) ومنهن الشاعرات العماريات امثال (فخيتة بنت عبود وحطوه آل دويج ونشميه بنت ثجيل وزهره محيسن وعفتة صويلح) فهي إن سقط منها شهيد فانها تزداد ثباتاً واصراراً على مواصلة الفداء والاستبسال فخذ مثلاً الشاعرة (فخيتة عبود الفتلاوية، أم الشهيد كريزي) الذي استشهد في معارك ابو صخير البطولية ترثيه قائلة:
يا زور يلي عيب ينطر
يا ليث لو عبس او زمجر
شحده الوگف دونك غضنفر
بذجرك كريزي الگلب يستر
فالأهزوجة التي اطلقتها المرأة الفراتية بوجه الاستغلال والتسلط الانكليزي هي بالاساس ضرورة اجتماعية تعبر عن انفعالات الانسان ورفضه الواقع المعاش.. فلقد ظلت اسهاماً ثورياً متميزاً وعطاءً متدفقاً نحو نيل الحرية والاستقلال الوطني الناجز.
- فالاهازيج والعماريات التي تطلقها المرأة الفراتية هي بالحقيقة النتاج الثوري الاصيل للمرأة المناضلة.. فتكون حاضرة في وجدانها وتألقها وقد اتخذت عدة صيغ واغراض شعرية خاصة بها ومنها الأهزوجة الفراتية الحجيمية والصيحات العمارية والابوذية والفزاعية لكن اكثر وقع وتأثير في اوساط الجماهير المقاتلة هي (الصيحات العمارية) التي تثير الحماس عند سماعها فتندفع الجماهير الثائرة بعفوية وعنفوان كالاعصار غير آبهة بالموت ان حل بها وأين ما وقع وتبدأ هذه الشاعرة بطور الحدي اولاً وبعدها تتقدم امام الجموع الهادرة بانشاد الاهازيج واطلاق الزغاريد ملوحة بعصابتها (معصبها) وحينها يبدأ الثوار بتشكيل حلقة حولها لحمايتها لكنها تكسر الطوق البشري وتتقدم بخطوات شجاعة نحو الامام فيتبعها الثوار وهم يهزجون لخوض غمار الحرب.. وحلقة اخرى واخرى الى ان تصل هدفها وتبلغ غايتها لايقاع الهزيمة بالعدو الغاصب.. ودحر فلوله وتحطيم ماكنته العسكرية وتحقيق النصر المؤزر عليه.. وجرت العادة من عدم قتل المرأة الشاعرة اثناء المعارك في النزاعات القبلية والعشائرية حيث يلحقهم عار في ذلك فلذا نجدها تصل الى مواقع متقدمة في المعارك دون ان يصيبها سوء الا ان الانكليز من خلال معارك ثورة العشرين عمدوا الى قتلها معتبرين انها العصب الرئيس لتأليب الجماهير لمقاومتهم ودحرهم.. وهذه الشاعرة (فطيمة بنت گاطع) من عشيرة الظوالم الباسلة في معارك العارضيات الخالدة قدمت ثلاثة شهداء ولم تهتز لهذا الخطب الجلل حين قالت بحق ولدها (جبر) ووقفت بصلابة امام المشيعين قائلة:
عفيه ولدي شيال همي
يا بعد أبوي وبعد عمي
ردتك گلوب أعداك تدمي
شفتك على التربان مدمي
وبحق ولدها الاكبر الذي استشهد هو الآخر في المعركة نفسها:
عفيه ولدي شيال راسي
ردتك ترد ذوله الجواسي
وبموتتك گويت باسي
أي امرأة نريد وأي قامة عراقية هذه ماذا نقول عنها.. ان القلم ليعجز عن وصفها والدموع تسبق الكلمات لثباتها وجرأتها وشجاعتها.. والشاعرة (جلثومة العارضية) لا تقل عنها أهمية فقد كانت تطلق الاهازيج بطريقة (الحدي) ففي معارك العارضيات الخالدة كانت تتقدم زوجها واولادها حاسرة الرأس وهي تلوح بمعصبها بانفعال وجرأة متناهية.
واحدكم أعله الموت يگبل ولا يهاب
لا نفسه تحمل لوم لا يگبل عتاب
الفاله والمگوار تهجم على أطواب
ان الاهازيج الثورية واصوات العماريات التي تطلقها المرأة الفراتية هو النزوع الاصيل والنهج المثابر الصادق نحو تحويل الارض العراقية المقدسة الى حمم مستعرة تحت اقادام الغزاة المستعمرين وهي بالاساس التعبير عن طموحات الشعب ضد مستغليه فنراها تقف بكل ثقة وصلابة مستنهضة الثوار لمقارعة العدو المحتل قائلة:
ثار التفگ وتغير الكون
تشربون گهوه ولا تسمعون
أريدنكم على حسي تگومون
وللمعركة هسا تطبون
وتفتخر ايضاً قائلة لاستنهاض العزائم:
ثار التفگ والنجم غرب
وظهر ليه وين المذرب
واحدهم عجيد وينحر أسرب
مثل السبع بالكون لو طب
فالأهزوجة اذاً تؤجج الحماس الثوري في صفوف الجماهير لخوض غمار النضال الوطني لسحق المستعمرين الاجانب وشل حركتهم وتقدمهم وتمزيق فلول مرتزقتهم الأوباش الجبناء.. فان التضحيات الكبيرة التي يقدمها الشعب تكفي لأن تصنع النصر وتحقق المعجزات.
وهذه الشاعرة (عفتولة بنت كاظم العجل) من عشيرة الظوالم الباسلة تقف مفتخرة بأولئك الرجال العظام الذين سقطوا في معارك (الحچامة) المنطقة المحصورة ما بين السماوة والرميثة عند عشائر البو جياش البواسل ولكثرة القتلى من الثوار وعدم وجود أكفان لهم حملوا مخضبين بدمائهم الى مثواهم الاخير ليواروا الثرى بملابسهم في شموخ وعنفوان.
اليوم أصبحت والكيف خربان
ومن هامتي يظهر الدخان
عالغربوا ما عدهم أجفان
صاروا لعد التفگ نيشان
وأطلقت كلمة (أم الواوية) على هذه المعركة لكثرة تواجد بنات أوى لافتراس جثث القتلى من الانكليز المعتدين حيث تكبد العدو البريطاني خسائر كبيرة في جنوده ومرتزقته وهذا ما جسدته الشاعرة (ضوية الحچيمية) قائلة:
ربع يواوي أهناه واشبع
أو من الشبع ظليت تضلع
وجسومها للوحش مرتع
وكل صوجر اعله الگاع تصرع
ومن سياق البحث نجد ان المرأة تضع خمارها أي (شيلتها) تغطي به كامل شعرها اما المعصب أي (العصابة) تشد بها رأسها لاظهار الحشمة والتعفف والحفاظ على كامل تحجبها في أوساط المجتمع الريفي او مجتمعات المدن على السواء وهي مكملة لزيها الريفي المتعارف عليه.. تخلع المعصب إيذاناً بطلب شيء يراد القيام به في حالة هيجان ثوري.
اما عندما تخلع خمارها وتنشر شعرها وذلك لخطب عظيم حل بها فانها الاستماتة بعينها من قبل الثوار وهذا يحدث عادة عند استشهاد عزيز عليها حتى تنسى نفسها في أتون المعارك وتصبح أشبه بلبوة جريحة تدافع عن عرينها.. لان استلاب الوطن وانتهاك حرمة سيادته يعني انتهاك لعزتها وشرفها فالوطن أغلى من الكرامة الشخصية فان صون الوطن واستقلاليته وتحرره هو صون لكرامتها وعزتها وشرفها.
فهذه المرأة الفراتية التي أرسلت معصبها الى قادة ثورة العشرين في معارك (منطقة أدبيس) المحاذية لنهر العوجة في منطقة الرميثة نتيجة الملاحم التي طرزها ابناء الرافدين الميامين من عشيرة الظوالم الباسلة.. ونهر العوجة اساساً هو نهر صغير يأخذ مياهه من تفرعات نهر الفرات في جنوب مدينة الرميثة المعروف بنهر الحچمي.
وهذا النهر يمر في اراضي عشيرة الظوالم الباسلة لري وسقي مزروعات الشلب والبساتين حيث تربض على هذا النهر الاسود الضواري من الرجال الشجعان.
حيث اشتبك الثوار مع القوات البريطانية الغازية في معارك ملحمية خالدة لقطع امدادات العدو والسيطرة على الطريق الترابي العام بين السماوة والرميثة من أول الليل الى انبلاج عمود الفجر.. وقد رافق معصبها بيت من الابوذية:
وينه اليودي معصبي وي الأوذان
ويخبر صبيان الفنوني ونايف الجريان
يگل للحيد بريس ويحشم الشعلان
(العوجه) أهتزت عينوها
وعلى أثرها أرسل الشيح شعلان الى افراد عشيرته بقلع قضبان سكة الحديد واخذ أخشاب الجاو الاحمر السميك (جندل) بطول 4 متر الموضوعة تحت القضبان ووضعها في نهر العوجة لتصل الى بيوت الفلاحين ونقلها بواسطة الزوارق حيث عمل الفلاحون منها سقوفاً لمنازلهم الطينية ظلت لسنوات لمتانتها وجودتها حسب ما ذكر لي أحد الفلاحين من المعمرين.. كما تم نقل المؤن الى الثوار المرابطين على امتداد الطريق الترابي العام حيث أحدثت هذه المعركة الضارية الخسائر في الارواح والمعدات والحاق الهزيمة بجنود العدو ومرتزقته فالشاعرة الشعبية الفراتية على وجه الخصوص لعبت دوراً اساسياً في التحريض والدفاع بروح نضالية عالية.. وكانت اهازيجها لا تقل أهمية عن الرصاص المنبعث من فوهات البنادق.. فان أهزوجة واحدة تطلقها المرأة الفراتية في جموع المقاتلين بحماس تكفي لاثارة العزائم ودفع الرجال الى مواقع النصر.
فهذه الشاعرة (حطوه آل ريح) من عشيرة البو حسين/ من عشائر البو جياش الأباة اثناء احتدام المعارك البطولية في معارك شاطي حسيجة في منطقة (بربوتي) ومحطة السماوة، ومعارك السور الخالدة. كانت تتقدم الصفوف وتلوح بعصابتها وتحمل خنجراً في يدها الاخرى تطلق الزغاريد والاهازيج الحماسية بطريقة (الفزاعية) وفي معارك محطة السماوة لها الدور الفاعل في تأجيج الحماس الثوري واندفاع المقاتلين بكل ثقة واصرار على مقارعة القوى البريطانية الغازية:
نشامه بثورة العشرين
واسباع المشو ليها
ذوله الجابو الرشاش
ومرّجع سراجيها
عدهم ثور الدخان
والكل والرجم بيها
يفوت اعله الزلم
وتموت رجليها
شلون تغيب
يا صيدح يلعب بيها
ذوله الجابو الهندو
وموجع طباليها
وحينما علمت باستشهاد ولدها (فتنان) في معارك السوير الخالدة.. لم تهتز لهذا الحدث ووقفت على جثمانه الطاهر وهو ملفوف بعباءته وبـ(راية الثورة) مضرجاً بدمائه.. فأنشدت بكلمات لا تعرف الخنوع والاذلال:
ويلا يا فتن يبني
اجتني رگبته بالعلم ملويه
حا يا سوونه
يل حامي اعليه
لا خايف ولا مختل
ولا تخذف چلاويه
الك عُود اليگول
أزوادهم ليه
عنده مكازر الراجيل كيفيه
محله شد المذمر عليج ليه
جسب رشاش والسنكي وراعيه
عونه الحاضر الونه التاليه
نوجع البيت لو ما جاش راعيه
شلك بالكبر يعميك ذاريه
فالأهزوجة حملت اهدافاً كبيرة ومؤثرة في اذكاء روح الحماس لدى الثوار تجعلهم قادرين على الصمود والتصدي بعنفوان وإباء وشموخ.. ورفض الهزيمة والتمسك بالارض والدفاع عن كرامتها واستقلالها وتحررها من قيد العبودية والاستغلال.. في معارك الرستمية (الرارنجية) هذه المعارك البطولية التي استبسل فيها الثوار استبسالاً بطولياً منقطع النظير مما أفقد صواب الانكليز وجعلهم يستخدمون كل اصناف الاسلحة الحديثة بما فيها الطائرات الحربية والمدفعية لضربهم بدون رحمة وبلا هواده.. مما اضطر الثوار الى الانسحاب عدة كيلومترات عن مواقعهم وبحضور البطلة الشاعرة العمارية (نشمية بنت ثجيل) من عشيرة البو عارض من عشائر بني حسن التي كانت تتقدم جحافل الثوار ناشرة شعرها ملوحة بمعصبها مناشدة الرجال على الثبات والصبر بطريقة (الصيحات العمارية) التي تلهب الحماس وتثير النخوة في صفوف المقاتلين قائلة:
وينه الحمل فاله ومگوار
بيها يصد جيوش الأشرار
وينجد أخوته الغدو طشار
ومن الصواجر ياخذ الثار
فحينها استجمع الثوار قواهم وتسابقوا لنيل الشهادة وهم يهزجون:
خلوها تتسجل بالدم
ووصلوا على اثرها الى مرابض مدفعية العدو البريطاني ومزقوا جيوشه وغنموا اسلحته ومعداته وهزمت فلوله الى مشارف مدينة الحلة بتراجع غير منظم وغنموا على أثرها المدفع الكبير المعروف بـ(مدفع الرارنجية) الذي استغله الثوار لضرب البارجة البريطانية (فاير فلاي) الراسية في شط الكوفة واحرقوها فوقفت على أثر ذلك الشاعرة (شلبة بنت فزع) من عشيرة آل فتلة مفتخرة بذلك الحدث التاريخي وانتصار الثوار على رمز من رموز الاستعمار البريطاني.
رصاص الباخرة الصوبين لعلع
وما غير التفكك وانگابه شمع
وآلاف الزلم للكوفه تفزع
حيث أجابتها الشاعرة الفتلاوية بعد إغراق الباخرة البريطانية (فاير فلاي) في الكوفة واحراقها ومصاحبة النسوة باطلاق الاهازيج والزغاريد على ضفاف نهر الفرات من الجهة الاخرى.. قائلة:
فزعت زلمنه أزغار واكبار
احيوده ولا تتحمل العار
ومحد يخاف الطوب لو ثار
فتنه ورمينه المدفع أحجار
ــــــــــــــــ
* باحث اجتماعي