ادب وفن

"جثث بلا أسماء".. تساؤلات في السرد / حميد حسن جعفر

إسماعيل سكران.. هل هو آخر كتّاب الواقعية الاجتماعية؟
أولا: هل من الممكن أن يتساءل قارئ ما، أو المهتم بالشأن القراءاتي خاصة، اذا ما اعتبرنا الكتابة الواقعية في هذا الجزء من الشرق العربي هي غيرها عما في المغربي؟
إن القراءة الواقعية الطالعة من مدونات الكتّاب الواقعيين العراقيين خاصة والعرب عامة لها شأنها الخاص، لها خصوصيتها الطالعة من كتابات عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، وغائب طعمة فرمان، وادمون صبري، وعبد الحق فاضل، حيث الرعيل الأول والثاني الذين ظهروا في النصف الأول من القرن العشرين وحتى نهايات العقد الخمسيني من القرن الماضي، و قد تشكل ثورة الرابع عشر من تموز ظهور جيل روائي جديد غير ما سبق يعتمد التجريب والتغريب والمختلف.
هل يحق لهذا القارئ أن يتساءل عن اختلافات القارئ العراقي عن سواه في استقبالاته للنص المكتوب، وفي تفسيراته، وتأويلاته والكشف عن المحمولات؟
هل من الممكن أن يقول هذا القارئ وهذا المهتم ان إسماعيل سكران وفي مجمل كتاباته القصصية والروائية، هو امتداد أصيل للواقعيين من الكتاب العراقي؟
وهل من الممكن أن يقول إنه سيكون آخر العنقود؟
***
إسماعيل سكران مهووس بالواقع ومفرزاته، ما من كاتب قصصي ينتمي إلى الأجيال اللاحقة بمقدوره أن ينافسه على اهتماماته وشغفه بالشخصيات والوقائع، حتى تتحول الكتابة بين يديه إلى مرآة للحراك الجمعي، فهو من الكتاب الذين لا يتركون صغيرة أو كبيرة إلا واحصاها،
فهو المفوض والمؤتمن والموكل من قبل جميع كائنات النص القصصي أو الروائي لأن يقول كل ما لديه من غير أن يخضع إلى مساءلة ما، أو حساب ما، أنه دكتاتور النص والكاتب المستبد، الحاكم باسم الواقعية الأولى الاجتماعية والنقدية.
ولينطلق السؤال الأكثر أهمية والذي يقول أين المستقبل اذاً؟ والقاص منشغل بالماضي، أين اليوتوبيا، المدينة الفاضلة التي يدعو اليها الكتاب عامة والكاتب المنتمي إلى اليسار، المنتمي إلى التحولات ما زال يركض خلف الأحداث؟
وهل أن القارئ بحاجة إلى من ينقل إليه الواقع الذي لم يتم إنتاجه بين يديه ليضعه على الورق؟
هل القارئ كائن يبحث عما في الماضي من مستقبل مخبوء؟ أم أن القارئ كائن يتحرك بمعزل عن الكاتب؟
وهل أن محاولة الكاتب في تذكير القارئ بالواقع تبدو مجافية للتغيير؟ أم أن صناعة الاحتجاجات، والرفض، وتثوير القارئ، والحض على صناعة المغامرة والبحث عن المختلف، هو ما يجب أن يضع الكاتب بذوره في تربة ومخيلة القارئ من أجل أن تنبت غابات لصناعة الحرائق، والتي سوف تلتهم السلطات وان نشطب على الممنوعات التي صنعها الحس الذكوري، للأب، والقائد و لرجل الدين، سواء كان الدين وضعيا، ارضيا، أو سماويا، فالدعوة الى منع المواطن من التفكير بالمتغير والمتبدل، يجب أن تقابلها دعوة إلى صناعة التفكير بعدم القبول بالثوابت التي تحاول السلطات أن تدفع بها إلى المقدس، إلى الفعل الإلهي، السماوي، لكي تبقى سلطات الحكومة والمجتمع والفكر الديني هي القائمة، الباقية، وسواها المؤقتة ،الزائلة.
***
إسماعيل سكران روائي يدعو إلى التفكير بالثورة وإلى كيفية القيام بها، ولا يقوم هو بنفسه انقلاب ثوري كهذا.
فهو كائن من الممكن أن يكون أكثر من مسالم، أنه كاتب يعمل على إعادة كتابة الواقع لا من خلال تدمير الواقع، وإعادة تشكيله، بل إنه يعمل على تقدم الواقع مع الحفاظ عليه بعيدا عن البدائل.
* * *
ثانيا: مائتان وثلاث وعشرون صفحة، ثلاثة وخمسون فصلا أو كتلة كتابية، مدونات غير مستقلة. أكثر من نصف قرن من الزمن. سرد روائي، قد يكون نقديا، أو اجتماعيا ،قد ينتمي في بعض صفحاته إلى الواقعية الثورية أو الرومانسية أو السحرية، نسوة، انوثة مطمورة، رجال، ذكورة مغيبة، لا وجود للجسد، لا وجود للجنس. لا اطفال. لا احتجاجات، لا دعوات للرفض.
يبدو أن الكاتب لا يحبذ الدخول في شؤون الآخرين الخاصة، سواء كان الآخرون دولة أو حكومة أو مؤيدين.
الكاميرا المحمولة ،القلم والورقة، مادة الكتابة وبعيدا عن الانتقاء أو الاختيارات، تتحرك، أعني الكاميرا بحيادية كبيرة.
سيجد القارئ أن الراوي العليم قد تسيد الفعل الروائي، ،والذي لم يسمح لشخصيات القص السردي أن يتحدثوا بأصواتهم، بألسنتهم بما يرغبون، أو بما يفكرون به، بل هو الراوي العليم المتحدث الرسمي، الناطق الرسمي باسمهم، ولم تتمكن هذه الشخصيات من ازالته إلا ضمن عدد محدود من الفصول.
وعلى الرغم من النسق، النمط السردي المهيمن على عملية الكتابة، إلا أن القاص حاول صناعة المغايرة، أي الخروج عن الخط العام ، من خلال دفتر مذكرات "علي السلمان"، إلا أن ما كتبه و دونه الروائي لم يكن باستطاعته أن يتصاعد، إلا من خلال شخصية الراوي الذي هو الروائي،
"هيلين ، مارلين ، سامح ، علي سلمان ، أم زينة" شخصيات النص السردي الذي كتبه إسماعيل سكران، اسماء لكائنات لا تمتلك ملامحها إلا من خلال الراوي، كائنات تمتلك تاريخا عاما، رغم الخصوصية الفردية السائبة، فليس بمقدور القارئ أن يمسك بها،
كائنات تتقبل كل ما يقدم لها، كائنات لا تمتلك القدرة على التمرد.
طبيعة الكاتب، الراوي العليم في عدم صناعة المواجهات رغم توفر الظروف لحدوثها، أو الصدامات، هذه الطبيعة السلمية عملت على أن تتحول معظم شخصيات القص إلى كائنات تستقبل من غير نقاش، كائنات تتقبل كل ما تكلف به من تحولات، أو انكسارات، من غير أن تطلق علامة استفهام بوجه المصدر ، الراوي العليم ،السلطة الروائية الأولى.
***
كان من الممكن أن تشكل كتابات، مذكرات علي سلمان الذي لم يشكل مرجعية أكيدة لكتاباتها ، لوجودها أو غيابها، هذه المذكرات لم تشكل مصدرا للمواجهة على الرغم من أن ، مارلين ، كانت تنقل إلى القارئ بعض التصورات، على أن المذكرات هذه من الممكن أن تشكل مصدر رعب لكاتبها، أو أنها تمثل موقفا مضادا للسلطة القائمة.
هل هناك مالك آخر للمذكرات ؟
هل كان على سلمان مؤتمنا عليها؟ هل كانت تمثل موقف علي سلمان أو موقف شخص آخر؟ هل كانت الكتابة تنتمي إلى لحظة انفعالية ؟أم أنها نتاج لحظة تفكير، أو لرأي آخر، أو لوعي مختلف؟
إن عدم اهتمام علي سلمان بالمفكرة، أو بغيابها، أو بالإخبار عنها، حولها الى فعل ضائع، إلى شيء من الأفعال الجانبية التي لا يمكن أن تعمل على صناعة نمو للفعل المضاد، الذي من الممكن أن تصنعه المفكرة.
يبدو أن وجود المفكرة كان فعلا ينتمي إلى تقنية الكتابة أكثر من انتمائه إلى المتن السردي وبالتالي من الممكن لما حصل بالفعل أن يتحول إلى فعل خامل ، مهمل، إلى فعل لازم. غير قادر على إنتاج مفعول به،
فقد كان مقدرا للمفكرة أن تقوم بأكثر من فعل لتصعيد الأحداث، إلا أن الروائي أو أن الفعل السردي ما كان مستعدا لاستقبالات كهذه، فالتناقضات تحتل مساحات واسعة، إلا أن الاستعدادات لم تكن بالمستوى المطلوب، والشخصيات لم تكن مؤهلة للقيام بفعل مضاد على الرغم من أن الجميع وبدون استثناء كان يقف في الجانب الآخر، الجانب المضاد للسلطة، رغم وجود الانتماءات الظاهرة أو الباطنة للدولة أو الحكومة، انتماءات الشخصيات المضطهدة، سواء تلك التي داخل فضاء السلطة أو خارجه.
ان حيادية العديد من الشخصيات ،علي سلمان ،الشخصية الرئيسة، والتي فيها الكثير من السارد العليم، الروائي، وكذلك ،هيلين ،الشخصية الأولى، لم يستطع أي منهما أو من سواهما أن يحولا الأفكار إلى أفعال، بل انساقت هذه الشخصيات خلف حركة السلطة المتمثلة بـسامح، لكي تنفذ المخطط المرسوم لها.
ثالثا: لم تستطع واقعية إسماعيل سكران التي كان من الممكن أن أقول إنها الواقعية العراقية بدلا من غيرها من الواقعيات، بدءا من الاجتماعية، والانتقادية ومرورا بالرومانسية والثورية، وصولا إلى السحرية، والتي تقع جميعها تحت لافتة الواقعية الاشتراكية، تلك الواقعية التي استطاعت عبر المهتمين بشؤونها أن تتحرك مع تطورات النظريات والمناهج المهتمة بالكتابة، والقراءة، أن توفر للقارئ المتابع أكثر من منظار، أو من زاوية نظر، استطاع عبرها أن يضع يده على عناصر الصراع، وعلى المتوقع، أن يضع أصبعه على الأسباب والعلل والنتائج، واقعية يتمكن الواقع عبرها من تغيير مناطق العبور نحو تشكيلات مجتمعية متطورة، تعتمد المغايرة والاختلافات، بدلا من الثوابت والمهيمنات المنتجة للممنوعات، فالتناقضات التي تحكم المجتمع أفرادا، وجماعات، طبقات و شرائح صراعات ، مواجهات ، تصادمات هي حجر الزاوية في القراءة، والكتابة، ضمن منظور الواقعية.
***
هل استطاع الكاتب أن يستقبل ما تحمل الواقعية؟ أو أن يستقبل أشياء مما تحمل عبر مراحلها وتطوراتها وإن يقدم رؤية مستقبلية للواقع العراقي، لخمسين عاما أو أكثر من الصراعات ما بين السلطات المتعددة والجماهير، ما بين الحكومات المتمثلة بالفكر المستبد، والحاكم الطاغية، بل وحتى الصراع داخل السلطة الحاكمة ، أفرادا ومؤسسات و تكتلات. لقد كانت أمام إسماعيل سكران أكثر من فرصة لصناعة الإزاحات أو لتجاوز المراحل المتقدمة من الواقعية التي وجد نفسه وسطها، والتي وضعته تحت سلطة الوصف ،حيث حيادية الكاتب ، حيث يكون هو المراقب، العين ، السلطة النقلية التي تعتمد الكثير من المباشرة أو التقريرية لحظة دخول الراوي فضاء التاريخ، فضاء الماضي.
قد يكون اقتراب الكاتب من الواقع. أو اقتراب الكاتب من القارئ المحلي ، الواسطي، أو اقتراب القارئ نفسه من الكاتب والمكتوب سببا في عدم صناعة الصدمة أو المفاجأة، أو الدهشة، أو في عدم صناعة الاستقبال للمختلف، لأن واقع الكتابة لم يستطع أن يعتمد على اللا واقع ، على المتخيل، في تحويل الفعل المختلف في صناعة المشهد التدويني للنص الروائي.
لقد حاول إسماعيل سكران أن يستفيد من نظرية "الرواية داخل الرواية" في كتابة نص واقعي ، وان يصنع نصا خاصا به ، ليتداخل مع مفردات النص الذي ينتمي إلى الآخرين، وأعني به نص ، مذكرات علي سلمان.