ادب وفن

زهوة الحبيب السايح.. رواية نقية الدم / فاطمة بريهوم*

هل يمكن لرواية أن ترجعنا وتعيدنا إلى منابعنا الأولى؟ لتقول صمت حاجتنا إلى سكون الدعاء يطهره كل الصخب الذي شوش أرواحنا؟ قطعا كتب قليلة تفعل.. وهي كتب سلالة الأدب الإنساني الخالص الذي ينشد التعبير عن الإنسان وحيرته الأبدية محاولا الحفاظ على كينونته بعيدا عن كل الضوابط التي يحاول النقد أن يقلم بها أظافر الأدب من تنظيرات يجب ان تلتزم بها الكتابة؛ فالسايح نفسه في حديث له يؤكد أنه في عمل دؤوب واجتهاد لتجاوز ما كتب قبلا، ابتدأت معه فكرتها وهو يتسمع إلى تلك التهليلات، هناك في أقاصي الحكاية الأصلية، حيث الصفاء: «كل يوم زهوة، واليوم أكثر. ازه يا قلبي»..
من أول كلماتها تهزنا لغة هذه الرواية إذ تزيح عنا شيئا فشيئا النظام اللغوي الذي اعتدناه في أدبنا، يقارب لغة الصحافة الوظيفية غالبا.. فهي لغة يختل فيها تراتب عناصر الجملة:»واستدار عنه ففتح النافذة على سماء غمر ضياؤها شجر اللوز المزهر نوارا أبيض... فاستنشق هواء محملا بمزيج من طيب الخضرة موجه تيار خفيف...»ص86 و لعل القارئ الذي تعود على احتمالات متشابهة مكررة لتراكيب اللغة وسهولة القراءة لا يستسيغ هذا المستوى المغاير والمخلخل للذائقة، ولكن هذا يجعلنا نتساءل بعيدا عما فرضه النمط الذي تكرسه وسائل إعلامية ومؤسسات أكاديمية: ما الأدب إن لم يكن تشكيلا جديدا على كل مستويات القراءة يرمي إليه الكتاب و القراء ؟؟ ويدفعنا إلى الإقرار بأننا فقط تعودنا لغة «ميديا «وذوقها فصار سهلا علينا أن نهرب من لذة القراءة الواعية إلى القراءة السريعة، متهمين الأدب مبرئين كسلنا.
وكما تربكك اللغة في «زهوة» كذلك يفعل تعدد مستويات خطابها بين الصوفي والمحكي، و الواقعي - التحليلي، والشعري فكأن السايح أكثر من كاتب صاحب أسلوب أوحد ووحيد يحدد مسبقا ما سيؤول إليه النص من أول كلمة، فبحسب ما أتاح المقام والحديث يتلون الكلام الذي يغير الروائي كل مرة خط كتابته لنميزه ونتعمق في كنهه، ولا نعجز أن نفهم ذلك إذ نقرأ أن السايح المشتغل على لغة القرآن، والحديث، والكتب التراثية كما أكد في أحد حواراته يريد عن وعي إعادة الأدب إلى مقامه الأزلي :الإمتاع والتطهير.
منطلقا من هدأة تلك الخلوة في إحدى «زوايا» منطقة توات يفتحنا السايح على كل الأسئلة التي نتوارثها من أجيال بشرية عن الحب والجنس والعادات والصراعات تماما كما تتطلب الحياة في تلك المنطقة البعيدة هناك حيث سادت حضارة راسخة الوجود لقرون لا نتعب أن نفهم أنها ملجأ لكل حائر خذلته هذه المدنية بعنفها. فهل ندرك أننا نمتلك ما نقدر أن نواجه به ذلك إذ نستمسك بالأمانة: «أمانة آبائكم، بما فيها مفتاح الخزانة...»ص342
تماما كما اهتدى عبد النور وهو يفر من حياة صاخبة بفسادها بعد فقد زوجته وابنه من طرف جماعات متطرفة لعله يفيء إلى سلام تعرفه رغم «عقلانية ثابتة في تفكيره اكتسبها من مساره الدراسي ومن تحصيل قراءاته وتجاربه وتأملاته، ظل يقيم له توازنا نفسيا حفظ به موضعا في روحه بمثابة أرض براح...»ص315 ، وهو يعود إلى نداءات دمه النقي ليفتحنا على مشابك الحياة وعمقها بخيرها وشرها من خلال الصراع الأبدي بينهما من خلال قصة حب بسيطة يكون عرابها، كأنما ليعطي حياة أخرى بانتصار الحب والحكمة ويرسم لنا محددات حياة فاضلة لا ينعدم فيها الشر لأنه وجه آخر للحياة إذ يموت بالإقتيات على نفسه، والمحبة تغمر الدنيا ؛ فنتنحي بعيدا إلى شفافية المشاعر بعيدا عن دموية هذا العالم الذي تسيره نوازع السيطرة فتسرق من إنسانيته ليس إلا.
مع عبد النور نعود إلى تفاصيل ما عاش كحكاية لا نثق فيما بعد صفحات هل هي صلب الرواية لأن لكل شخصية في «زهوة» حكايتها ولعل هذا ما يجعلنا كل مرة نفتح بابا لنتعمق في تفاصيل حكاية مع يوسف وجرح الأبوة فلقياه بأخته لأبيه «إدريس» الذي لا نتأكد مطلقا هل هو بشر سوي، أم ملك علم الناس الصبر والتغلب على الرغبة والفتنة، فلننصت لما قاله رضوان مريده وربيبه: «كان سيدي ملتزما في كل شيء، مثابرا على بعث الحياة حيثما وصلت قدماه...»ص82
ولرضوان حكاية تتنامى في الهندسة المتشعبة التي سطرها الكاتب باقتدار إذ أننا كما في الفانتازيات الرائقة للآداب القديمة لا نشعر بتلك الشعرة التي تلج بنا من فسحة لأخرى تشرع عيون الدهشة و الاستغراق، ولربيعة أيضا حكاية مترعة بالحيرة والسؤال إذ تغالب شره سلطانة للسيطرة وتبييض ما اختفى من ماضيها وبؤسها وهي تحكم خناق زوجها لتسير قبضتها الزاوية. وتتشابك الأسرار إذ نفك لغزها مع السبعاوي ضابط التفتيش، الذي يهتك ما أخفته سنين ويدخل بنا إلى التعفنات التي استغلها غيلان الفساد :»هي سلاحي الوحيد لاستعادة أرض والدي من أشخاص استولوا على أغلب أجزائها بعد موت والدتي مدعين، في ظلمة فوضى البلاد...»ص340
لا تتوقف الدهشة إذ أتوقف هنا فمازال الكثير من الحكايات والخفايا التي تسترها الحجب في «زهوة».
لذلك سأؤكد لقد استطاعت «زهوة» وبجدارة أن تعيدنا مع ذاكرة الأستاذ إلى أعماق حكاية بدأت بالحب واللقيا واجتثت تفاصيلها أياد آثمة سلبت الحياة عذوبتها التي وقفنا عليها هناك بين الأشجار التي غرسها سيدي إدريس والساقية التي تبعث كل ما هو حي. وسأقول فيها ما قلته للاستاذ الحبيب السايح لما أنهيتها أول مرة:
«في الأول اندهشت.. وبعد ذلك في جلستي اعتدلت لأفهم نظامها اللغوي المتفرد وهندسة الحكاية فيها ..ثم سحرت بعوالمها الفاتنة، ومن صدق شخصياتها بكيت لاسيما في تلك اللحظات التي يختلون فيها لصفائهم ..لأتأكد عند تمامها أنها رواية من دم نقي..»
______________________
*كاتبة من الجزائر