ادب وفن

موسى غافل الشطري.. ضوء على فنه السردي / محسن ناصر الكناني

في العام 1975، وصل مدينة الحي ، قادما من السليمانية. رجل وسيم يتأبط دفترا يحوي بين دفتيه مجموعة قصص ، من بينها قصة بعنوان "سعدة يا حلاها"، بقيت القصة بين يديه لسنوات عديدة، كتب خلالها عشرات القصص، لكنه كان يعود اليها، يضيف أو يعدل ، كان يكتب تحت نار الحرب ، والحصار ، والملاحقة السياسية.
في العام 2017 تظهر "سعدة يا حلاها" بأحلى صورة ، تحت عنوان جديد هو "الياقوتة السوداء".
* *
قيمتان تتقاسمان فن الشطري السردي هما الألم والأمل ، فمن مرارة الالم ، ولدت لؤلؤة ابداعه، ركزت له حزنا داخليا ، وتجربة عميقة ، عزف فيها موضوعاته الاثيرة على نفسه .. الامرأة المضطهدة، المستلبة ، في كنف عائلة ، تتعرض إلى قسوة الفقر والحرب ، والاضطهاد والاستغلال ، ويتجه الامل الذي فتح من خلالها نافذة مضيئة ، وشموعا تضيء المكان الموحش، ليتحول على يديه الى مكان اليف ، مؤنس ، باثا في شخصياته روح الامل والثقة بالحياة ، ظهر ذلك في مجموعاته الثلاث "الجذور المتوحشة ، وفناءات قزحية ، وذات الاطار الابنوسي". ويكشف القارئ عن أسلوبه الخاص في خلق عوامله الاثيرة ، القريبة الى نفسه ، وقد علل الكاتب بروز ثيمتي الالم والامل في متنه السردي ، بألم الفاجعة الانسانية التي ينوء تحت ثقلها شخوصه ، وهو منحاز اليها متفاعلا مع همومها ، وتطلعها نحو الحياة والحرية.
* *
في "الياقوتة السوداء" استجمع الكاتب خبرته في السرد، حيث القى ضوءا كاشفا على شريحة من المجتمع الريفي في الجنوب العراقي ، محللاً علاماته الاجتماعية القائمة على الاستغلال والظلم في ظل نظام اجتماعي –اقتصادي متخلف ، مزيجا ، ومستجليا الضباب الكثيف في الفضاء الزماني والمكاني ، مقتربا من شخصياته وما يعتمل في داخلهم من رغبات ، واهواء ، وتناقضات ، مضيفا أنسنة إلى المكان ، وعناصره ، وتفاعل شخوصه معه ،
اختار الروائي ، شكلا مطواعا ، غير متكلف ، شكلا متدفقا متفاعلا بحذر مع التجريب ، مازجا بين الكلاسيكية والواقعية ، في تشكيل متن سردي جميل ، اعتمد الكاتب في متنه على تكنيك المكانية ، المتصاعدة الذروات ، افقيا ، الزاخرة في تجلي الجميل ، الملحن ، بالأغاني ، والاشعار ، والرقصات الشعبية ، يذكرنا بالروايات الريفية والنص الريفي ، لشمران الياسري ، وفهد الاسدي ، وجاسم عاصي ، وحميد الجيلاوي ، وناجح المعموري، وعبد عون الروضان ، وزيد الشهيد ، وشاكر ، وآخرين .
ينشد القارئ الى حياة عائلة حواس ، وزوجته فدعة ، وكيف تعيش في كوخ قصب ، عند اطراف المدينة ، تحلم احلاما بسيطة ، حياة امنة ، ولقمة حلال تدفع عنها غائلة الجوع والعوز .
ويوم رزقت العائلة بابنتهم "سعدة" امتلأ المكان بالضحكات والاغاني "سعدة يا حلاها .. كَصايبها وراهه .. اجه الخطاب يخطبها وابوها ما نطاها" وشخص الكوخ مسامرات وحكايات حولت المكان الى مكان انيس.
ويتابع الروائي "حياة سعدة" عندما كبرت ، وكيف آل أمر العائلة في تزويجها الى خلف سركال الشيخ حرب ، لتجدنفسها في بيئة القرية ، وصيفة لخدمة زوجات الشيخ .. سعدة النشمية ، تركت امها العجوز لتنغمر ليلا ونهارا في الخدمة .
، الروائي يتابع مصائر شخوصه ، بدر وبدرية ، وشمران شقيق الشيخ ، والحياة الداخلية لزوجات الشيخ والحياة اليومية للفلاحين، وكلهم يقعون ضحية ثروات الشيخ حرب وطمعه صور مأساوية ، لحياة الريف ، تنتهك فيها عرض وشرف سعدية ، ومشهد قتل بدر وبدرية ، وشرف زوجة شمران ، شقيق الشيخ ، "سعدة الحلوة النقية ، والطاهرة ،المحبوبة، هي بحق كجوهرة فريدة أو "ياقوتة سوداء"، بيضاء القلب والسريرة لكن الواقع الجديد ، لوثها ، ولوث حياة الشخصيات الاخرى ، والقى بضلاله القاتمة على حياة الفلاحين .
حكاية سعدة في رواية الياقوتة السوداء هي الحكاية الكبرى التي ابتدأت في اطراف المدينة ، وانتهت في الريف ، توازيها حيوات اخرى ، تؤازرها شخوص محرومين يحلمون احلام البشر .. حياة امنة .. ولقمة حلال ، لكن الجشع والاستغلال قد قتلا احلامهم .
الكاتب كشف عن الوجه الاخر البشع ، القائم ، الوجه المخفي ، في حياة الشيخ حرب وأزلامه ، الذين يعيشون على حساب الضحايا ، وسعدة هي الشاهدة التي لامست تفاصيل حياة الاخرين ، مسراتهم ، واوجاعهم ، وبقيت في لحظاتها الاخيرة تئن – وتحن الى اهلها ، في حوار حزين ، شجي ، والموت يقترب منها ، وعيناها مفتوحتان نحو السماء.