ادب وفن

الأدب ومقولة التاريخ .. القسم الأول .. / سيف سهيل

يقال عن عمل أدبي ما: إنه عمل رائع، إلاّ إنه مؤدلج. أي أن قيمة أدلجة مضمنة هي قيمة منظور لها سلباً في العمل الأدبي. إختبار صحة مقولة كهذه، وتقليب المسألة من وجوه عدة، لا يعني التمحيص في الأدب وحده (إن كان منظورا إليه على إنه تشكيلات لبنى جمالية) فحسب، بل ويعني، أكثر من ذلك، النظر إلى الأدب في تاريخيته: الأدب كموضوع في تيار الزمكان من ناحية، وكذوات فردية متكلمة، من ناحية أخرى.
الأول، يعني إختبار النقطة التي يقيم بها ما هو مكاني وزماني، علائقه مع الأدب ويفرض منطقه فيها فرضاً. ولولا إن الأدب هو نتاج بشري في مسيرة لا جمعيّة (أي تجارب فردية متفرقة) لكان البحث عن هذه النقطة، هو أشبه بالبحث عن نقطة أصل وبداية لهذا التغلغل. وعلى الرغم من ذلك، إن حقبة أو جيلاً ما، مأخوذاً بمجموعه، يشكل سطحاً لبنىً أعمق؛ روافد لا تنتهي لتيار يسير تحت التشكيلات الفرديّة ويوحّد إختلافاتها. لكن، وما إن نعود إلى السطح إلى هذه التجارب الفردية، فإننا سنكون معنيين أكثر بتناول الأدب كذات متكلمة، لا بل قل مجبرين على دراسته بهذا الفردية. هذا الجانب الآخر، من المحاولة، يأخذ الأدب من اللحظة التي صار فيها واعياً بذاته وأطلق على نفسه إسم "أدب"، (يؤرخ ميشيل فوكو هذه اللحظة ويعيد إنبثاقها إلى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر). إن دراسة الموضوع بهذا الشكل الموسع، الذي يتضمن الإنتقال من ما هو موضوعي إلى ما هو ذاتي يعني إشتراك حقول مختلفة.. يعني إنتقال الدراسة من تطرفين: من التاريخي المحضّ إلى الأدبيّ المحضّ. وهو سيكشف عن كثير من الحقائق المرتبطة بالتغييرات التي تعرضت لها الفنون الإبداعية، وما مرت به من تحولات عميقة، وثورات التجديد والتجريب. مثلاً لو تتبعنا "البعد الفلسفي في الأدب" للاحظنا إلى أي مدى تجاوز هذا التأثير شحنة النص الدلالية إلى السياقات الفنية مثل الشكل والإسلوب واللغة. وفيما يتعلق بالعبارة الأخيرة، من الضروري التنويه إلى تأثير الفكر الوجودي في هذا التحول. علاوة على إن الذهاب بعيداً في التحليل بإمكانه أن يلقي الضوء على تحول تأثير قصدية مؤلف في مستوى الدلالة إلى تأثير لا قصدي في المستوى الفني (أي تداخل الذاتي في الموضوعي)، مستبعدين من حسباننا التجريب المكرِّس أولوياته إلى اللغة.
عند هذا الحد من المسألة، أي مسألة قصدية الأديب والفنان، يطرق بالنا بالقوة ذات النقاش الفلسفي الأدبي من جهة وعين الجدل الأدبي الأدبي من جهة ثانية. الأول الذي دعوته نقاشاً كان فلسفياً في طبيعته، وقد ظهر جلياً في الرفض الأفلاطوني للأدب كونه "منافس للفلسفة يطارد الحقيقة وعرضة للفساد"، رغم إن كتابات أفلاطون الفلسفية، ومن بعده التجريبيين الإنكَليز، قد حملت صبغة أدبية. أما الجدل الأدبي الأدبي (القديم الجديد) فتاريخياً قد جرى على مستويات عدة مستقلة لكنها متداخلة. تباينت من إختلاف حول المفاهيم إلى اللغط الدائر حول أجناسه. لكن، في إعتقادي، فإن الجدل الذي يبقى يحتل الصدارة في أهميته، والذي يعيدنا إلى إشكاليتنا المطروحة أعلاه، هو جزء من الجدل والنقاش العنيف الذي دار ولازال يدور حول "وظيفة الفن": أقصد إشكالية هل الفن للفن؟ أم الفن للناس؟. هنا تتبدى لنا المشكلة على نحو أكثر إستعصاءً، وكأننا، نقع في ذات الإشكالية مراراً وتكراراً دون إنفكاك منها!، كما لو أننا عدنا إلى السطر الأول - لم نتزحزح نصف خطوة حتى. لأن الإستخدام اللغوي لكلمة "وظيفة" قد يلمّح إلى تحيزنا المسبق! سأعود إلى هذه النقطة، لكن قبل ذلك أود بأن أشير إشارة سريعة إلى أن جدل الفن- الفن (وبالتأكيد أدب-أدب كعمل فني يجري بوسيلة اللغة)، هو جدل فلسفي داخل الفن. أي أننا ما عدنا ضمن ثنائية تناقش إحداها الأخرى؛ ما عدنا ضمن إنفصال الفلسفة عن الفن- فهذا موضوع آخر، بل إننا الآن نقبع داخل الفن بتفكير فلسفي: الفن ينقد ذاته. وربما ظهر هذا الأمر بسطوعه الأكثر جلاءً مع ماركس، ثم بعده عند نيتشة. نكمل من حيث إستطردنا قليلاً، فنقول: إذا كان الفن هو التبدي لإنفعال فنان ما تجاه العالم. سواء كان الأدب أو الفن البصري أو - حتى على نحو أكثر خطورة الموسيقى، في مجملها لا تخرج في النهاية عن كونها نقلاً وترجمة لمشاعر الفنان، أو بالأحرى، ردة فعله إزاء إحساسه (كوظيفة لا عقلانية) بمحيطه الخارجي، فإنها بهذا المعنى، ولاشك، ترتبط بـ "حاجة". عدد غير قليل من الدراسات بيّن إن الأماثيل ورسوم الكهوف وأدب العالم القديم، والتي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر مع العقائد والأفكار الدينية، كانت تعبر عن "حاجات" نفسية، قارّة، بشكل أساسي. وبكل تأكيد فإن الوعي البشري لم يظل على حاله؛ لقد بدأ يتجه نحو عالمه الماديّ يعقلنه يحاول فك رموزه، ومع كل هذا كان الفن يواكب الحركة؛ يتغير كيما يوائم التعبير عن تغير حاجة الأفراد والجماعات. في إرتباط الشعر بالهدف الإجتماعي عند اليونانيين تتبدى تحت السطح حاجة نفسية إلى ما يشبه تبريراً للأفعال. في الملحمة تمثّل أفعال الآلهة بأفعال البشر، وفي التراجيديا، كما يقول نيتشة، كان على اليونانيين، لكي يعيشوا في الحياة، أن يخلقوا آلهتهم تبعاً للضرورة العميقة. لقد أقصي الشعر الغنائي من دائرة الإهتمام، بعد أن قرن بالموسيقى، لأنه في رأي المجتمع اليوناني "شعر فردي خال من الفائدة الإجتماعية". بعكس شعر النوعين الأولين، كونهما حاملين لقيم إجتماعية. مثّلَ هذا الهدف في الأشعار الهومرية صورة الثقافة اليونانية ووعيها القومي في المرحلة العليا من الحقبة البربرية (Barbarism) (حسب تحقيب موركَان الثلاثي). أعتقد بأن الفن، والفلسفة ولدا من ذلك الجدل القلق بين النفس والمادة. إنها نشأت من أفكار "كوّنها الناس بصدد طبيعتهم والعالم الخارجي المحيط بهم"بدافع نفسي داخلي وحافز مادي خارجي هذا إرتباط مزدوج من العلاقات الداخلية. ومع تغير علاقات الإنتاج وتحولات النظام الإجتماعي الذي أدى إلى ظهور بواكير فكر سياسي وتنظيم إداري في المجتمع اليوناني، بدأ الوعي بتمايز الفئات والطبقات نحو التطور، وإنعكس هذا على أعمال الشعر المسرحي. كان وعياً بالتمايز.. بالإضطهاد، ومن الخطأ الإفتراض بأنه كان وعياً لطبقة بذاتها ولذاتها. فضمن صراع الطبقات، حينها، نرى بأن مسرحيات الهذليين ساندت الأغنياء لأنهم من يمتلك المال، وقد مال آرستوفانيس في مسرحياته إلى السخرية من "الزعماء المتطرفين و دولتهم المثالية"؛ لقد حارب الآراء الجديدة لسقراط الفيلسوف ويوربيدز المسرحي. مع يوربيدز غدا الشعر والمسرح في المجتمع اليوناني مختلفاً: لم يعد الفن المسرحي بذاته هو أهم ما يعنى به يوربيدز، "بل البحث الفلسفي والإصلاح السياسي". مع يوربيدز شأن المسرح بات مختلفاً عما كان عليه مع أسخيلوس و سوفوكليس: تحولت نظرة الكاتب إلى عدم إكتفاء بالوعظ (كما هو الحال مع أسخيلوس) أو بتكريس نظام أخلاقي قائم (كما هي المسألة عند سوفوكليس)؛ تركزت هذه النظرة الآن على نقد الأحوال والأوضاع القائمة، نجد مثال ذلك لديه في مسرحية (ألستيز) التي تمثل "محاولة لتسخيف الخرافة". نلاحظ أن الحاجة النفسية قد بدأت الآن تفقد مكانتها، كدافع وقوة محرّكة لكتابة الشعر المسرحي في أثينا، إلى صالح أساساتها الماديّة التي ظلّت بمنأى عن التناول الصريح حتى هذه اللحظة. شيء من إنقلاب علائق الزمن يظهر هنا: فبدلاً من أن يظهر الواقع الماديّ في شكل ماضوية بطولة أو سرمدية فعل، كي يشبع حاجة نفسية ويعزز تبريراً أخلاقياً لما هو حاضر، صار هذا الواقع مستهدفاً في ذاته و في حاضره. لكن علينا أن لا نفهم هذا الإنزياح على إنه وعيّ تام ومتكامل للأفراد بمفهوم الحاجة الماديّ بكلّ جوانبه حسب معناه الحديث. صحيح بأن التعريف العام للدولة في جمهورية أفلاطون هو تعريف قائم على حاجات الأفراد الماديّة، لكن التفاصيل توضح قطعاً إن هذا التعريف مبني على مثالية منطقية أكثر من بنائه على أسس ومفاهيم إجتماعية وإقتصادية محددة بدقة. كانت فكرة الـ "فرد" في ذاك الوقت، تدخل ضمن دائرة المستحيل التفكير فيه. "لقد صّور أفلاطون في (الجمهورية) المجتمع المتكامل والسعيد ولم يتطرق إلى الإنسان المتكامل، لأن السعادة والكمال، في نظره، لا يمكن إيجادها في الفرد بل في الجنس (أي المجموع) (9)". ولهذا السبب سيتوجه أفلاطون في نهاية عمره لكتابة كتاب (القوانين) ليعيد ما إستبعده من الواقع سابقاً.
"في الشعر اليوناني إلتقت الفلسفة الميتافيزيقية والآيديولوجيا الدينية بالفلسفة الإجتماعية" ولذا فإن أعمال يوربيدز في إطار تشككها ومحاولات إصلاحها السياسي كانت تعمل على هذا التداخل المذكور. لا يمكن القول بأن موقفاً سياسياً أو إقتصادياً يظهر صرفاً في العمل، لأن الوعي بالسياسي والإقتصادي والإجتماعي والديني و (أو) الفلسفي كان لا يزال متشابكاً في نسيج وحدة. أي بطريقة أو بأخرى كان يوربيدز لا يزال يدور في فلك التعميمات المثالية في المحاجة الفلسفية، لكنه في ذات الوقت، كان يوجه، ببصيرة ثاقبة - تبدي تأثيراً بالسوفسطائية - نقده لإرتباط الديني بالسياسي. ويكفي أن نقرأ المقطع التالي له من إحدى مسرحياته لكي نميز مدى هذا التداخل وهذي النظرة الثاقبة التي تحاول عقلنة محيطها وتنقيته من العقائد البالية: "إن هذه الأرض أرض السفاحين قد خلعت على الآلهة ما تتصف به من جشع وشهوانية. والشر ليس مقره في السماء.. وهذه كلها أقاصيص ميتة آثمة من إختراع المغنين"! وسواء مع هذا المسرحي الفيلسوف أو مع عدوه، الشاعر آرستوفانيس، الذي يوصف بأنه رجعي ينادي بالعودة إلى عصور اليونان القديمة، حيث الدين، لا التفكير الفلسفي، هو مصدر المعرفة والأخلاق، نرى إن الشعر المسرحي بدأ يتخذ موقفاً مما يجري من حوله. لقد تجاوز الأديب تركيزه على موضوعة الوعظ الأخلاقي والمحافظة على النظام السائد والهدف التعليمي للمجموع إلى تثبيت رأيه الشخصي والمعارضة والحط من آراء نظرائه. تجدر الإشارة إلى نقطة تجعل المرء يعتقد بتفوق يوربيدز، وهي النزعة الإنسانية الجياشة التي سجلها في أغلب مسرحياته. لم تعد الحروب الهومرية تشكل لهذا الشاعر مصدراً آخّاذاً لبطولات الماضي. لقد بدأ من حيث إنتهى هوميروس مصوراً مذابح المعارك و مظهراً بشاعة الحرب. في مسرحية (هيكبا)، صوّر حدث المعركة التي أطاح فيها الأثينيون بميلوس على إنه إنتصار للمغلوبين بشكل جريء. وبالإمكان عدّ هذا التصوير "أعظم تشهير بالحرب في الأدب القديم". أعتقد إن أهم حادثتين قلبتا الوعي البشري ومعه تغيرت علاقة الإنسان الفرد بعالمه، وبالتالي علاقة الأدب كونه نتاجاً بشرياً يرافق تحولات الفرد الخارجية والداخلية (النفسية)، وهما: أولاً الثورة الفرنسية التي مهدت لظهور الفرد (ككيان) وكسرت رباط السلطة الإجتماعية بشكلها الإقطاعي وما سبقها من نهضة فكرية وإصلاح ديني. أما الثاني، هو ظهور موضوعة الإنسان (ذاتاً وموضوعاً) في حدود القرن التاسع عشر.