ادب وفن

القصة المباركية : تولية جديرة في الثقافة العراقية العصرية / جاسم المطير

القاص عدنان المبارك.. هل نشأت قصته معه أم هو الذي نشأ مع قصته؟
هذا السؤال يشبه أخاه: الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة.
أحاول هنا بعد أن قرأت " مملكة السرير" أن أقول أن سؤالي الأول " المعقد " الذي قدمته ناتج، أولا وقبل كل شيء، من أن لغة عدنان المبارك فيها من التعقيد إلى جانب التبسيط والإبداع، ما يندر وجوده لدى قصاص آخر.
لا أريد أن أقول بداية أنني أعرف عدنان المبارك منذ أكثر من نصف قرن فليس في هذا القول جلال أو مجد لكنني أريد الإشارة إلى أنني عرفته طموحا مذ كان شابا، ثم تابعته وهو يجبي تجارب الفنون والقصص والروايات والفكر والفلسفة ويدوّن حساباتها، بغزارة، في صفحات ٍ كثيرة ٍ كنت أقرأها بشغف أيام كنت في بغداد، لأجدها على غاية من الدقة والجمال ونبل الروح وعمق التأمل والفكرة.
أما اليوم، كلانا في الغربة والمنفى، فأجد نفسي، تحت الضوء والمسؤولية والنقد، أحاول الإجابة عن سؤالي بنفسي.
لا بد من القول أولا أنني وجدتُ نفسي، اليوم، عند كتابة هذه السطور مجبرا على أن أكون متقصيا قدرات عدنان المبارك ونواميسه القصصية في واحدة فقط من مجاميعه الكثيرة. فعدنان المبارك كاتب، متعدد الكتابات في الأجناس الأدبية المختلفة، أشاد الكثير من علوم العمران، الفني والتشكيلي والسينمائي والروائي وغير ذلك من المجالات المعرفية، التي كتب فيها أو ترجم لها من لغات أخرى. كتابتي، هنا، هدفها كشف وتبيان أحد المستويات الإبداعية لعدنان المبارك في كتابه الجديد " مملكة السرير " مع محاولة التخلي عن رؤية أو مقاربة كتاباته الأخرى، لئلا تؤثر عليّ في مبحثي عن مضامين وأساليب مملكة السرير وحدها ومن دون أن تتحول تأسيساته الإبداعية الأخرى إلى مرجعية لي في صياغة هذه المقدمة.
يبدو لي، أولا، أن مجموعة قصص مملكة السرير قد احتكرت لنفسها مفاهيم وأفكاراً في شيء من البنية الأسلوبية المتميزة.. كل قصة تبدأ عنده قبل الاستهلال بتقديم مقولة من مؤرخي البشرية ومبدعيها ــ بليز باسكال وأوفيد وسقراط وفرجيل ولويس لافيل وغيرهم ــ كمادة شاهدة متاحة لقصصه قررها سلفا كاتب ما أو شاعر ما أو عبقري من عباقرة العالم ومن فلاسفة اليونان الأقدمين.
يبدو السؤال ضروريا، هنا، هل هو يزين قصصه تزيينا مجردا بهذه الأقوال العظيمة ذات الدلالات الكبرى أم انه يربط بين قصته وبين صدارتها في أقوال العظماء و....
هل تتحرك القصة مع الصدارة؟
أم تغور أفكار الصدارة وأقوالها في عمق قصته؟
هذا يعني أننا نحتاج إلى فهم البنية التركيبية للجملة القصصية التي تكون هي المسؤولة في أعماله القصصية كلها ـ تقريبا - عن حركة أبطال قصصه وعن التحول الغريزي في تلك الحركة اللذين ينتجان حجة قوية مفحمة للقارئ بنوع واثق من القناعة أن عدنان المبارك لا يجهز بنيته الفكرية ولا حتى بنية الجملة الواحدة مسبقا.
لو تمعنا في إحدى قصص المجموعة المعنونة "ما حدث بين (أبو موزة) و(أبو فريدو)" فماذا نجد:
غرائبية ذات خصوصية فريدة، فالعنوان ذاته جمع بين شخصيتين.. أبو موزة معروف، عندي، كشخصية شبحية، تتصل بصورة ترابطية مع كثير من الأحداث الشعبية في العراق.. يقال مثلا كان فيضان مدينة العمارة لأبو موزة.. وفي مكان آخر يقال شربنا وسكرنا لابو موزة.. وفي مكان ثالث يقال: تقاتلت العشيرتان بالرصاص الذي انتشر في الريف لابو موزة. يفهم من هذا أن مصطلح (أبو موزة) هو وحدة قياس مبالغة قصوى من أبداع الفلكلور العراقي. أما أبو فريدو فلم اسمع به من قبل، فوجدته في مملكة السرير من إبداع فولكلور عدنان المبارك.
لو بقيت ضمن إشارات هذه القصة من مجموعة مملكة السرير لوجدت فيها أن العقل القصصي يحمل جهازا حاسبا "كومبيوتر" يعمل بطريقة غرائبية أيضا، إذ يقول:
عرف "أبو موزة" أن مؤشر ذكائه عال جدا. كان الفارق بينه وبيني مثلا أقل من 2بالمئة، بالضبط واحد وستة أعشار!
انظر إلى استخدام الرقم واحد وستة أعشار.
الحركة في هذه القصة العدنانية مثل غالبية قصصه لا تتحرك باتجاه واحد رغم أنها قصة قصيرة، لكننا نجد فيها عوامل تغذية تصعد فيها أو تهبط أو تتصارع، تبعا للجملة التي يستخدمها عدنان المبارك التي تقدم للقارئ وصلات كثيرة تستفز الخلايا العصبية عنده وهو يطالع مواكب صور قصصية سريعة تتقدم رويدا رويدا نحو قمة العقدة.
في عديد من قصص مجموعة مملكة السرير وجدت شبكات فكرية تحاكي العقل السياسي العراقي لكن ليس بمدارات الجملة السياسية أو الشعار السياسي أو الحزبي، بل بشبكة فلسفية مرموزة جزئيا أو كليا بطريقة قصصية متتالية.. "وكان أول حلم سجلته عن شارعنا الصغير. رأيت هناك، كما جاء في ملاحظاتي التي دوّنتها، تذكارات تاريخية تناثرت على أسفلته: الفردة اليمنى من خفّ الجاحظ، قدح معدني من أقداح أبي نؤاس، قطعة من راية الحسين، خمس شعرات من لحية المتنبي، طربوش لمدحت باشا، مسبحة نوري السعيد، طلقة من مسدس السعدون، الساق الأمامية اليسرى من كرسي عرش فيصل الثاني " لم أخطىء هنا أبدا ، فبعدها تأكدت من الأمر حسب صورة قديمة لهذا الكرسي "، منديل عبد الكريم قاسم، سيجار صدام حسين. كانت هناك تذكارات أخرى لكني لم أعرف لمن تعود، فاللاوعي و الوعي والحدس وماكنات أخرى فشلت هنا تماما. جمعتها كلها في صندوق كارتوني وتوجهت إلى بيتنا الكائن في نهاية الشارع. قبل أن أفتح باب غرفة الضيوف التي تطل نوافذها الأربع على الشارع كانت قد اختمرت في رأسي فكرة وجدتها مربحة وتنهي عزلتي البليدة أيضا: سأقسم الغرفة ، وهي واسعة إلى حد لا يخلو من المبالغة، إلى نصفين. نصف للضيوف و آخر كدكان لبيع مثل هذه الآثار النادرة المثيرة. سأنظم في كل يوم مزادا أعلن عنه في الصحف و التلفزيون و الإذاعة، والإنترنت بالطبع. سيأتون من كل أصقاع الأرض أفواجا أفواجا. ستزدهر السياحة أيضا. سأفتح فروعا في أور وبابل ونينوى والحضر وتحت ملوية سامراء وغيرها ).. هذه الفقرة استللتها من قصته " العودة إلى الأحلام ".
الجملة القصصية العدنانية ذات تفصيل خاص.. أهم ما في هذا التفصيل أنها تسرع في مخاطبة عقل القارئ.. انه كساحر أو كحكيم يذهب بقارئه إلى كهف أو بستان أو إلى تذكر شيء من النسيان بنفس السرعة ليشارك مع عدنان المبارك في البحث ليس عن مدينة فاضلة بل عن ساعة هادئة في هذا العالم..
يمكن إيراد هذا التفصيل الخاص في فقرة واحدة من قصة الصوت الآخر: انتهى التدرب على الجنون لهذا اليوم. باختصار هم خليط غريب وعجيب من أنصاف الملائكة وأنصاف الأبالسة. نصف ملاك أعطاني حذاء بعد أن شاهد حال نعالي المزرية. آخر أكتشف مسرحيتي على الفور ونصحني بالتوغل في أعماق الريف. أعطاني عنوان عمّ له يعيش وحيدا هناك. أرملة بكت طويلا عندما عثرت على شبه بيني وبين راحلها. لا أعرف كيف عرفت بأنني "أفندي ومتعلم". ربما هناك دمغة خاصة على وجهي. شربت وأكلت عندها. توسلت إليّ أن أقرأ لها رسائل ثلاثة من أبنائها قتلوا في خندق كان قريبا من خندق فارس.
نلاحظ هنا استحضار حركات متتالية في جملة واحدة من دون تشابه:
(!) نهاية التدريب على الجنون اليوم.
(!) المتدربون خليط غريب وعجيب من أنصاف الملائكة وأنصاف الأبالسة.
(!)أرملة.
(!) قراءة رسائل.
(1) و.... متتاليات تعددية أخرى في عملية سرد خلاق .
هذا التنقل المدروس يضع قواعد متجددة في أدب القصة العراقية القصيرة وهو اقتدار واضح في جميع كتابات عدنان المبارك القصصية والروائية والفنية والنقدية الغنية بمجاميع صور فكرية تساهم كلها في تأثيث المشاهد التي يبنيها في كتاباته لتصبح علامة نظامية مؤكدة في غزارة فنونه ومعارفه وندرة المماثل لها في الكتابات العراقية الأخرى مما جعله يحتل موضعا في فن القصة العالمية القصيرة بما يتحلى به عقله من تجمل في الأسلوب وعمق في المعنى..
ليس عبثا هذا القول بل من باب الجد فأسلوبية القصة المباركية تحتمل الألعاب الفنية المختلفة ، وهذا هو أعظم اثر من آثارها ومنجزاتها في بناء عمارة قصصية عراقية عالمية، في الدلالات والمعاني والافكار، ذات ممارسة بحدود احيانا وبلا حدود في بعض القصص الأخرى، محققا الإمتاع والانتفاع والمؤانسة معا، من جلساء وندماء عدنان المبارك في مجالسه القصصية المدونة في مجاميعه القصصية ومنها مجموعة مملكة السرير.
يمتزج في نصوص عدنان المبارك التعبيران السياسي والأدبي منتهلين من مختلف المفاهيم الفلسفية والتاريخية والأخلاقية ليحولها بالتالي إلى أداة في خدمة الإنسان والإنسانية وهو يلتقط في هذه القصة أو تلك من قصص مجموعة مملكة السرير مادة أو مواد أدبية تتحول من واقع عراقي خاص إلى واقع إنساني عام مما يجعل قصته بالتالي نصا أدبيا يرقى إلى المستوى العالمي متجاوزا الكثير من حدود وصلها بعض الكتاب القصصيين في العالم العربي محلقا بفن القصة العراقية المعاصرة بامتياز في سماء ترقى إلى سماء الأدب العالمي.
من ابرز معالم قصص مملكة السرير أنها تعني بالبحث عن موضوعات نادرة وشخصيات نادرة يكتبها عدنان المبارك بأساليب نادرة وهو أمر ليس يخلو من تقنيات صعبة، وأدوات صعب الحصول عليها وضبطها كتابة قصصية، إذ يتطلب جهدا دراسيا سيكولوجيا واجتماعيا متغايرين أحيانا متلاقيين أحيانا أخرى ومتحولين في مرة ثالثة. هذا ما يطبع تصوري بان قصة "سعادة جديدة" هي فصل واضح من فصول رقي القصة المباركية إلى مستوى الأدب السياسي العالمي فقد تضمنت القصة على سبيل المثال قواعد التعامل بين تجنيد أسلوب متنور وبين قضية تجد هواجسها في الشوارع وفي مكاتب النخب وهو ما يندر وجوده في مستويات الكتابة القصصية العربية، بعد.
يشكل التنظيم الهرمي القصصي في القصة المباركية إحدى المكونات الأساسية للقصة العراقية المعاصرة. وتمثل مملكة السرير آثارا وتفاعلات جديدة في وقائع التاريخ القصصي العراقي وفي موروثاته في القرن العشرين..
ولا بد أخيرا من أن أشير إلى نقطتين الأولى: أن مملكة السرير امتلكت القدرة على استنبات مصدر أسلوبي جديد يتميز به قلم وفكر صاحب القصة المباركية. والنقطة الثانية أن قصص مملكة السرير امتلكت أصول وثقافة ووظيفة عراقية شعبية ستلعب دورا حاسما في عمليتين: الأولى تجديد مسارات القصة العراقية بتكاليف لا تخلو من مشروطية الجاحظ ولا من محسوسية بورخيس وماركيز ومن عظماء آخرين من أهل الحل والعقد القصصيين في عوالم هذا الفن ، والثانية انتقال القصة العراقية إلى مستوى مكانة مرموقة في الأدب العربي والعالمي..
في الختام أجيب عن السؤال الأول : لقد نشأت القصة العراقية الحديثة المتميزة من فكر القاص عدنان المبارك.. ومملكة السرير شاهد على ما أقول.