ادب وفن

الأسس البنائية للنحو عند المخزومي / أ. د. زهير غازي زاهد

كان المخزومي ينطلق في تصوره الأسس البنائية للنحو العربي من اندفاعه نحو تجديد بنية هذا النحو. وكان وهو يرسم خطوط المناهج النحوية قديما يشغل فكره كيفيةُ إصلاحِ النحو وإعادة تصنيفه ويوازن بين موقف القدماء من اللغة وأوضاعها وتقعيدها وبين ما وصلت إليه الدراسات التي عاصرها والتي نشدت التيسير والإصلاح.
وكان يصرّح بين حين وحين في الحكم على دراسات المحدثين التي ما زالت تتمسك بالبالي من القديم، ويربط بين الجديد من المناهج والقديم الذي كان يراه أقرب إلى اللغة وطبيعتها وكثيرا ما دار على لسانه هذا السؤال: ما الأسس التي يمكن أن يقوم عليها بناء النحو العربي في خضم هذه التغيرات والتقدم الحضاري الذي أصاب كل جوانب الحياة المعاصرة؟ وعلى الرغم من ميله إلى المنهج الكوفي باعتباره أقرب إلى طبيعة اللغة كان لا يرى فيه المنهج المثالي الذي ينبغي الاقتصارُ عليه. إنما كانت له نواقصه وجوانب قصوره لكنه إذا قورن بالمنهج البصري رَجَحَ عليه بالتزامه بأسبابِ المنهج اللغوي في مجال أسسه التي قام عليها بناؤه وقواعده لكن هذا الترجيح لا يعني (إن النتائج التي توصل إليها الكوفيون صحيحة كلها كما لا يعني أنّ منهجهم في دراسة اللغة سليم كله. فقد كانوا يعتمدون على الملاحظة والتجربة في اللغة العربية نفسها دون أن يلتفتوا إلى ما بين العربية وأخواتها الساميات من وشائج وصلات).
لقد سعى المخزومي إلى اتخاذ منهج وصفي نابع من ترثنا النحوي فهو أفضل المناهج لدراسة اللغة وهو ما وَصَفَ به المنهجَ الكوفي كما مر ذكره. هذا المنهج مستفيد من أهم مبادئ وصفية علم اللغة: وأول هذه المبادئ الذهاب إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية متطورة وقد صرّح به أكثر من مرة في أثناء دراسته. ففي نقده اعتماد البصريين على القياس قال: (إنما يصدرون عن اعتقاد بان اللغة منطقية.. وقد أومأنا إلى أن ذلك خطأ في المنهج لأن اللغة لا تخضع للأحكام العقلية ولا تجري وفق الأسس المنطقية لأنها ليست ثابتة ولأنها ظاهرة حيوية اجتماعية تتطور بتطور الحياة نفسها وتسير وفق قوانين يحدد الاستعمال اتجاهها فهي إذن متغيرة لا تبقى على حال بل التغير من مقومات وجودها. ولولا اعتقادهم بثباتها وعدم تغيرها لما اصطنعوا التأويلات والتقديرات؛ لأن التقديرات إنما تهدف إلى ردّ الكلمة إلى قالبها الذهني المتصوَّر..).
فاللغة إذن ليست منفصلة عن المجتمع. وبهذا فرّق بين موقفين: أولهما موقف المتكلم المستعمل للغة. وهدفه صحة الاستعمال الذي يجري بحسب المعايير والأعراف. وثانيهما موقف الباحث من اللغة وهدفه وصف المستعمل بمنهج يعترف بتلك المعايير والأعراف. ومع دعوته لاتخاذ المنهج الوصفي وقولِهِ بتطور اللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعية كان يدعو أيضا إلى الاحتفاظ بسلامة هذه اللغة الفصيحة دون النظر إلى مراحل تطور لهجاتها في مجال وضع النحو وتغييره. وهو موقف تقليدي للنحويين عامة.
قد يسأل سائل أين مَوْقِفُه في تيسير النحو وإصلاحه وإيمانُهُ باجتماعية اللغة وتطورها مع المجتمع؟
الجواب يكون في دراسة تراثه في هذا المجال. وبدراسته نجد أنه يؤمن باجتماعية اللغة وتطورها لكنه يؤمن أيضا بثبات فصاحة اللغة والجدّ للمحافظة عليها. وفي هذا المكان تكون نقطة الخلاف بين وصفية منهجه والوصفية باعتبارها منهجا لعلم اللغة الحديث. فوصفيته تنطلق من تراثنا النحوي لدى أوائل النحويين والكوفيين خاصة. فهو دعا إلى إصلاح منهج النحو ولم يَدْعُ إلى وضع نحو جديد للغة في كل مرحلة من مراحل تطور لهجاتها؛ فذلك في رأيه يؤدي بالنتيجة إلى تشجيع اللهجات المتطورة عن اللغة الأم ثم إلى تركِ اللغة الأم الفصيحة ثابتة مهملة مما يؤدي إلى نسيانها وموتها. وبهذا يحدث الانفصال بين اللغة الأم الفصيحة وما تطور عنها من لهجات كما حدث للاتينية واللهجات التي تفرعت عنها: الايطالية والفرنسية والاسبانية والبرتغالية والرومانية.
فالإصلاح ينبغي أن ينصبّ على مناهج نحو الفصيحة ودراسة الظواهر المتطورة فيها والتي تتصل بها وإهمالُ ما لا يتصل بها. وكان يدعو إلى الإبقاء على استمرار اللغة الفصيحة والحفاظ على سلامتها وتطور هذه اللغة نفسها دون النظر بالدرس إلى لهجاتها المتطور عنها. بهذا وقف من محاولتين لدراسة اللغة رآها تعارض دعوته للإبقاء والحفاظ على فصاحتها ورأى أنهما تُضعفان عربية القرآن الكريم وهما:
1- محاولة الشيخ أمين الخولي في بحثه (هذا النحو) لأنها كانت تدعو إلى مساواة قواعد للفصيحة بما يشيع في كلام الناس على زعم التخفيف من المعاناة واطرادِ القواعد مثل ترك إعراب الأسماء الخمسة أو الستة بالعلامات المختلفة وإلزامُها القصر وكإعراب جمع المذكر السالم بالحركات وإبقائه بالياء دائما والمثنى بالألف دائما.
وقف المخزومي من هذه المحاولة موقفَ الرفض قائلا: (ومحاولة الأستاذ هذه وان كانت تهدف إلى بناء النحو وإعادة الحياة إليه من جديد إلاّ أنها تهدف مع ذلك إلى خلق جديد قد تنقطع بوجوده الأسباب بين لغة الحياة اليومية وبين التراث القديم) (وستؤدي محاولته أيضا إلى فصل الأقاليم العربية وذهاب كل إقليم بلغة إقليمية خاصة).
2- أما المحاولة الثانية فهي للدكتور محمد كامل حسين في كتابه (اللغة العربية المعاصرة)(50) وقد حاول تغيير النموذج النحوي التقليدي بناء على الاستعمال اللغوي ومستوياته المعاصرة. فقسّم في هذا الكتاب مستويات العربية إلى أربعة أقسام هي:
1- الفصحى العالية وهي لغة الأدب الرفيع والخطب والمواعظ والحكم.
2- الفصحى المخففة وهي اللغة الشائعة بين المثقفين والمتعلمين.
3- العامية المنقحة وهي تقوم على إحلال وتغيير بعض الأصوات والمفردات وطرق النفي والاستفهام الفصيحة محل ما يقوم مقامها في العامية.
4- العامية الخالصة.
ويرى الدكتور محمد كامل حسين إنّ الفصحى المخففة هي الجديرة بالدراسة دون الفصحى العالية أو العامية المنقحة. وتنبأ بأنّ هذه الفصحى المخففة هي التي ستنتشر ويكتب لها الذيوع. ودعا إلى دراسة خصائصها ووضع القواعد لها لتنظيمها.
وقف المخزومي من هذه الدعوى موقفه من سابقتها وبالحجة نفسها. إنّ هذه القواعد الجديدة لغير الفصحى يبعدنا بالنتيجة عن لغتنا لغة القرآن وتراثنا.
لهذا دعا إلى نحو جامع بين الاتجاهات المختلفة ليكون جامعا شاملا للغة الفصحى على وفق منهج سليم قال عنه: (المنهج الكوفي معدلا بما وصل إليه الدرس الحديث لأنه منهج يقره النظر العلمي الحديث ويقره النظر اللغوي بوجه خاص).
يقوم هذا المنهج على الأسس الآتية:
1- الإفادة من جهود النحويين الأوائل سواء أكانوا كوفيين أم بصريين وجمع مروياتهم ونقولهم وإعادة النظر فيها باستقراء جديد وتسجيل ما جدّ من ملاحظات وظواهر لغوية.
2- اعتماد المصادر اللغوية التي اعتمدها الأوائل من النحويين وهي:
أ- القرآن الكريم وقراءاته فهي تمثل اللهجات.
ب- الشعر العربي والنثر وكلام الفصحاء.
3- توسيع رقعة الاستشهاد بالفصيح من لغة الشعر والنثر زمانا ومكانا. فتحديد النحويين زمانَ الاستشهاد اللغوي ومكانَه حرمه من الحركة ومرونة التفكير ومن إبداع المبدعين في العربية وأساليبها.
4- الإفادة من منجزات علم اللغة الحديث وما جد من التقدم في أدوات البحث ووسائله ومناهجه.
لقد قام نحو المخزومي على هذه الأسس. ومنهجه فيها وُصِفَ بالوضوح والوعي العميق للتراث النحوي العربي كما اتصف بجمع الخصائص اللغوية للنحو العربي كوفيها وبصريها إلى أهم مبادئ علم اللغة الوصفي الحديث وأقام نظريته عليها ثم تطبيقه في ضوئها.
كان لأفكار المخزومي وآرائه في اللغة أثر في الوسط الجامعي وفي دارسي كتبه، لذلك واجه ما واجه كل دعاة الإصلاح من حقد حساده أشباه الأميين الكارهين للجديد، فقد استعانوا لمحاربته بكل الوسائل غير المشروعة.
ولا عجب أن يكون في حياة العلماء الكبار منافسون وحاسدون كما يكونوا لهم معجبون ومريدون.
لقد كان المخزومي واحداً من الأصوات العالية المؤثرة في القرن العشرين، فالمخزومي في الدرس اللغوي والجواهري في الشعر وعلي الجواد الطاهر في النقد وجواد علي في التاريخ ومصطفى جواد في اللغة والتاريخ وهلال ناجي في تحقيق التراث.