مدارات

قراءة متأنية في العمليات الاستباقية والتعذيب في مكافحة الإرهاب / ماجد الياسري*

يواجه العراق ومنذ ٢٠٠٣ تصاعداً في الأنشطة الإرهابية بأشكالها التقليدية وغير التقليدية، من سيطرة على مواقع جغرافية سكانية او اغتيالات بكاتم الصوت وبالعبوات اللاصقة، الى انواع مختلفة من الإرهاب الذي يستهدف المنشآت الحيوية كالسدود والجسور، والنشاط الاقتصادي الشريان الحيوي لتمويل العمليات الإجرامية، ترافقها حملات إعلامية على الشبكة العنكبوتية لغرض التهويل والمبالغة والتشويش الإعلامي كجزء من الحرب النفسية التي هي من الجوانب المهملة عادةً في التصدي للإرهابيين لأن التركيز في الغالب على العمليات العسكرية، وذلك لما توفره من نتائج ملموسة عملية آنية وإعلامية آنية، وأيضاً?لتوفر الأدوات من خلال الجهاز الأمني والعسكري التقليدي.

وكان المؤتمر الدولي حول الإرهاب الذي عقد مؤخراً في بغداد، على الرغم من قلة المعطيات المتوفرة بسبب ضعف التغطية الإعلامية وما قدم من الدراسات والبحوث خاصة العراقية منها، محطة هامة توفر ارضية جيدة للانطلاق نحو بلورة سياقات اكثر نجاحاً وأشد فاعلية مضادة للإرهاب.
في هذا السياق، هناك أهمية استثنائية في الاستفادة مما هو متوفر، وهو ليس بالقليل، من استنتاجات ودراسات حول مكافحة الارهاب عالمياً، والذي يتمثل أحد مقوماته بإقامة معهد أكاديمي ومهني متخصص حول الارهاب في العراق تابع لإحدى الجامعات العراقية الرصينة وممول حكومياً، واستقطاب أفضل الخبرات والعقول العراقية للعمل فيه، والاستفادة من أساتذة زائرين من المعاهد الدولية المتخصصة. وهو ما سيوفر للأجهزة العسكرية والاستخباراتية وللجنة الأمن والدفاع البرلمانية استنتاجات يمكن في ضوئها أن يرسم الجهاز التنفيذي تكتيكات واستراتيجيات ذات خصوصية عراقية وليس استنساخه لتجارب اخرى او إرهاصات لهذا المسؤول لتسجيل موقف في ظل التدافع على المواقع والمكاسب اوغيرها، لأن السياقات والتاكتيكات لمكافحة الارهاب يجب ان تكون معللة نظرياً. واثبت الواقع نجاحه في التطبيق العملي والميداني في الإجابة على الأسئلة الأكثر أهمية عن كيف يتم تنفيذ هذه الأهداف السياسية وما هي مكوناتها من موارد ومهارات بشرية وعسكرية وتقنيات و ميزانية كافية.
هناك خلل آخر هو ضرورة وجود مرصد وطني، وربما يكون جزءاً من المعهد الوطني المتخصص حول الأنشطة الإرهابية المتنوعة التي يشهدها العراق، والذي بدوره يمكن ان يوفر معطيات موضوعية حول متغيرات النشاط الإرهابي زمانيا ومكانيا وعملياتياً. فمكافحة الارهاب، شأنها شأن العلوم العسكرية والأمنية، ذات جوانب نظرية وعلمية وفنية، وان جعلها حقلا للتجارب ورسم سياقات مبنية على الإرهاصات والتأملات الناتجة عن مخيلة السياسي سيؤدي الى خسائر فادحة بشريا وماليا، اضافة الى تأثيراتها المعنوية على المؤسسات التي تتصدى للإرهاب او على المواطنين بشكل عام لكسر هيبة الدولة وإظهار عجزها وإشاعة الرعب والفزع لدى الناس، وهي احد أهداف النشاطات الإرهابية الرئيسة.
ومن القضايا العراقية الآنية المثيرة للجدل هي فاعلية العمليات الاستباقية التي تنفذها الأجهزة العراقية المختصة بمكافحة الارهاب والمعتمدة على معلومات يوفرها المخبر السري او عن طريق استخدام التعذيب لانتزاع المعلومات، وما يرتبط بالفقرة «٤ ارهاب»، وأساليب التحقيق بجوانبها الفنية والعدلية، وفاعلية التعذيب في التوصل الى معلومات ذات نوعية حرجة ومؤثرة وفاعلة في سياق عمليات مكافحة الارهاب.
وقد تناقلت الصحف الامريكية والدولية مؤخراً تسريبات عن تقرير اللجنة الرقابية للنشاط الأمني والاستخباراتي في الكونجرس الامريكي والتي راجعت وقيّمت الاعتقالات وانتزاع المعلومات تحت التعذيب من قبل عملاء المخابرات المركزية الامريكية (سي آي أي) فيما اصطلح على تسميته بالعمليات السوداء، وفي فترة الرئيس الامريكي بوش الابن وديك جيني ومنذ بداية الحملة الامريكية ضد الارهاب بعد أيلول ٢٠٠١. ولتفادي الجوانب الأخلاقية في استخدام مفردة التعذيب و لغرض التمويه بلورت و استخدمت الـ»سي آي أي» مفردة أساليب التحقيق المكثفة. وقد درست اللجنة الآلاف من الوثائق السرية الامريكية غير المعلنة حاليا. وحسب ما تسرب فان التقرير يقع في اكثر من ٦٠٠٠ صفحة وسيبقى سريا، ولربما سيعلن عن موجز تنفيذي في حدود ٤٠٠ صفحة خلال الستة أشهر القادمة (صوّت الكونجرس لصالح الإفراج عن الموجز التنفيذي في ٥ نيسان ٢٠١٤). وتشير التسريبات الى ان التقرير الأصلي يحوي دراسات تفصيلية لحالات معينة تتضمن أساليب التعذيب التي استخدمت مع ما تحقق من معلومات وكم كانت ذات فائدة حقيقية، وكم كان جهاز الاستخبارات الامريكي صادقا مع الجهاز التنفيذي والتشريعي ومع الرأي العام الامريكي و يبدو مما تسرب لحد الآن ان الـ»سي آي أي» قد بالغت في تسويق نوعية الإرهابيين المعتقلين وحقيقة مواقعهم التنظيمية في الجهاز الإرهابي للقاعدة ومدى الاستفادة منهم كمصدر للمعلومات. فأحدهم الذي روج له انه قيادي في جهاز القاعدة تبين انه كان ذا مهمات واطئة المستوى. كما انها أقامت عشرات المراكز السرية السوداء لانتزاع الاعترافات تحت طائلة التعذيب، العديد منها خارج أمريكا ومخالفة للقانون الامريكي من الناحية الشرعية والدستورية، اضافة الى استخدام أساليب متنوعة من التعذيب النفسي والجسدي وعدم دقة وفاعلية المعلومات التي تم الحصول عليها من ناحية الدقة والمصداقية العملية. كما كان احد الاستنتاجات ان الـ»سي آي أي» قد أخفت معطيات عن اللجان التحقيقية للكونجرس وسربت معلومات كاذبة للإعلام.
ويمكن القول ان اللجنة الأمنية التابعة لمجلس الشيوخ امتازت بالنشاط في اجتماعاتها ومتابعتها للنشاط الأمني والاستخباراتي. فمثلا في تقريرها المنشور في آذار ٢٠١٣ في تقييم نشاطها خلال الدورة ١١٢ للكونجرس الامريكي، نجد سعة ما يشمله دورها الرقابي والذي ركز على السياقات والبرامج الأمنية وما يرتبط بها من تشريعات قانونية، وبضمنها النشاط الاستخباراتي في العراق وأفغانستان ومخاطر التهديدات الرقمية، واستخدام المعلومات الاستخباراتية في نشاطات الأجهزة المعنية. وتناولت الفقرة الرابعة من التقرير الدور الرقابي للجنة في متاب?ة الجهد الاستخباري في العراق والدول المحيطة، خاصة بعد انسحاب القوات الامريكية في ٢٠١١. اما الفقرة ١٤ فتناولت ما يسمى بالربيع العربي ودور اللجنة في مراقبة ذلك.
ومع ذلك نجد ان التقرير أعلاه يشير الى الانتهاكات والتجاوزات الكبيرة لجهاز الـ»سي آي أي» التي تتجاوز ميزانيتها السنوية النواتج الوطنية الاجمالية لعدة دول في العالم الثالث، و التوتر الدائم بين الجوانب القانونية والشرعية والأخلاقية وسعي الأجهزة التنفيذية للحصول على نتائج سريعة في هذا الميدان الحساس المتعلق بالأمن الوطني وحياة المواطنين، والاتفاق على أي خلل يؤدي الى كوارث محتملة خاصة مع مخاطر حصول الإرهابيين على أسلحة فتاكة غير تقليدية. كما ان ذلك ليس بعيداً عن الإرادة السياسية لنخب قيادية أمريكية تبوأت المواقع السيادية في فترة إدارة بوش الابن ممن اصطلح على تسميتهم بـ»المحافظين الجدد»، والمتطلعين الى تحقيق عهد «القرن الامريكي الجديد» عبر غزو العراق واحتلاله المثير للجدل و حرب دولية ضد الارهاب بعد جريمة أيلول ٢٠٠١. في هذا البلد المعتمد على مؤسسات وصيغ متطورة مقارنة بالعراق، لتنظيم العلاقة بين المكونات الثلاثة، الحكومة والكونجرس والقضاء، نجد ان الخلل في القرار السياسي أدى الى ممارسات التعذيب والكذب على المؤسسة التشريعية واخفاء المعلومات. فيكف الامر اذاً في العراق حيث أدى نظام المحاصصة الطائفية في بناء الدولة الخلل بنيوي من الصعب إصلاحه بدون العودة الى متطلبات بناء دولة مدنية عصرية تعتمد المهنية والكفاءة في اجهزة ومؤسسات الدولة والذي لا يلغي حق الأحزاب الفائزة في تعيين ممثليها في المواقع السياسية ومن يتوسم فيهم الكفاءة والمصداقية وتتحمل مسؤولياتهم في حالة الفشل، وفي إطار جهاز رقابي برلماني فاعل وفعال. ومن الفضائح السياسية التي سيكشف عنها التقرير ان حكومة توني بلير ووزير الخارجية البريطاني جاك سترو كانوا على علم بأنشطة الـ»سي آي آي» بتنفيذ عمليات سوداء و اخضاع المعتقلين للتعذيب.
لقد اثبتت كل الدراسات القانونية منها والنفسية المتخصصة في فهم الارهاب (وهو كما يبدو جانب مهمل في السياقات العراقية) ان الجوانب النفسية ذات أهمية في تشخيص و بلورة طرق للمعالجة على صعيد استخدام ممارسات لغسل وتغيير الأفكار في المدارس والجمعيات التي تتعامل مع الأطفال والقاصرين وأساليب تجنيد الضعفاء او استخدام السخط الاقتصادي والاجتماعي لدفع المجند للانضمام الى منظمات ارهابية، والتحولات الفكرية والنفسية التي يواجهها المجند عند دخوله التنظيم، او أساليب وأدوات تشخيص وتهيئة الإرهابين لعمليات التفجير ورسم معالم ومكونات شخصياتهم في التصدي الاستباقي وتحديد الأولويات في استهداف المنشآت والمواقع لإشاعة الخوف والرعب، ومكونات أنشطة الإرهابيين الإعلامية والفكرية ومحتويات أدواتهم الإعلامية ومنها مواقع الشبكة العنكبوتية الموالية لهم. واكدت تلك الدراسات فشل التعذيب كوسيلة للحصول على معلومات ذات مصداقية، اضافة الى لا إنسانية الممارسة وتبعاتها الأخلاقية البشعة. اما في العراق، وفي ظل التجييش والاحتقان الطائفي، ستؤدي هذه الممارسات المرفوضة الى مزيد من التمزق للنسيج العراقي وتهيىء ظروفاً مناسبة أفضل للإرهابيين لغرض التجنيد وتنفي? عملياتهم الإجرامية.
وتمثل مرحلة ما بعد نيسان ٢٠١٤ تحدياً حقيقياً للحزب الفائز والنخب السياسية المتنفذة في العملية السياسية الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تشكيل الجهاز التنفيذي من الحكومة، وبضمنها اعادة توزيع القيادات العسكرية والاستخباراتية والأمنية المتصدية للإرهاب على أساس احترافي ومهني، يحسب ولاؤها للوطن والشعب بعيداً عن الطائفية و الولاءات الحزبية او العشائرية والقضاء على الممارسات اللاانسانية في التحقيق وانتزاع المعلومات واعتبار التعذيب جريمة و اعادة صياغة سياقات التصدي للإرهاب وتوفير الغطاء القانوني لها.
ويمكن القول ان المحور السياسي والإنساني لبرنامج التحالف المدني والديمقراطي يتضمن خطوطاً عامة تتوجه لتحقيق هذه الأهداف التي يتطلع اليها شعبنا فيما اذا ترجمت عملياً الى وسائل وآليات مناسبة في برنامج الحكومة القادمة المنتخبة ديمقراطياً، لتضع اللبنات الاولى للمركز الأكاديمي لمكافحة الارهاب بالمواصفات التي أشرنا اليها أعلاه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* استشاري في الطب النفسي