مدارات

رحلتي على طريق حزب الشيوعيين / عبد دراج

كانت ولادتي في قرية النفشة المحاطة بالأهوار، وهي قرية من قرى نهر العدل جنوب قضاء المجر الكبير من لواء العمارة (محافظة ميسان). وبعد وفاة والدي الفلاح، وفي مواجهة قسوة العيش وظلم الاقطاع، إنتقلنا الى مدينة المجر الكبير، حيث أكملت دراستي الابتدائية وكنت في بيت شقيقتي الكبرى. تركت الدراسة بعدها، لأتفرغ لاعالة الاسرة وانتشالها من الفقر الذي تعيشه. فعملت في محل عطار وفي العمالة، وعندما بلغت الثامنة عشر في عام 1952، توجهت الى بغداد للتطوع في الجيش، على الصنف الآلي (مدرسة النقلية الآلية).

التعرف على الشيوعية

في عام 1956 عملت مع النائب عريف جميل حسن، ذلك الرجل الطيب من أهالي الناصرية، والذي بذل جهداً لتوعيتي سياسياً. كان جميل حسن يحدثني عن الاستعمار البريطاني والنظام الملكي وحكومة نوري السعيد العميلة، وعن الحكومات الرجعية المتعاقبة وعن المظاهرات والانتفاضات، ويركز على الحزب الشيوعي العراقي، ونضاله، ويقرأ لي جريدته، وهي سرية الصدور. تأثرت بأخلاق هذا الرجل، وما يطرحه، وإنجذبت اليه. وفي أحد الليالي جاءت مفرزة من الأستخبارات الى معسكر الوشاش واعتقلته مع الجندي الاول ناصر. عندما تساءلت عن سبب الأعتقال، أجابني أحد العرفاء الطيبين بأنهم شيوعيون، ونصحني بأن لا أتحدث عن ذلك لأتجنب مصيرهما.

البحث عن بديل جميل حسن

بعد ترقب خروج جميل من التوقيف لاتعلم منه المزيد عن الشيوعية، جاءت نهاية فترة تطوعي في الجيش عام 1957، وجرى تسريحي جلبت عائلتي للسكن في بغداد في محلة (ابو سيفين)، الواقعة في شارع غازي، وهو شارع الكفاح حالياً. عملت سائقاً في مديرية نقل الركاب، مما أتاح لي فرصة التعرف على الحزب الشيوعي مرة ثانية، وعبر رفيق وجدته بديلاً عن جميل حسن. حيث وجهني الى ضرورة الحذر في طرح آرائي، وأخذ يسرد لي بعض الأحاديث المطعمة بالسياسة، وضمنها توجيهات إستفدت منها.
عندما تأكد من أنني أبحث عن الحزب الشيوعي وأريد الأتصال به، قال لي: ستصل الى هدفك. وفي نهاية عام 1957، طلب مني تبرعات للحزب، موضحاً لي أهمية التبرع، فسلمته 250 فلساً وأنا مسرور. كان اسم هذا الرفيق حسين، يفوتني إسم أبيه، قمت بتعريفه على أصدقاء لي يعملون في المديرية نفسها، منهم عبد الأمير سعيد، السائق في مصلحة نقل الركاب والذي أصبح كادراً حزبياً معروفاً، والهارب من سجن الحلة لاحقاً، والذي إستشهد بعدها.

الترشيح للحزب.. وقيام ثورة 14 تموز

في شباط من عام 1958، تم ترشيحي أنا وعبد الأمير سعيد للحزب، حيث شكلنا خلية من خمسة رفاق يقودها الرفيق حسين، وواصلنا نشاطنا السري بكل تفان ونكرات ذات. بعد خمسة أو ستة أشهر، قامت ثورة الرابع عشر من تموز، فساهمنا بتأييدها بحماس وحسب توجيهات الحزب.. بعدها بثلاثة شهور منحنا شرف العضوية، ونشطنا في عملنا الحزبي بين عمال ومنتسبي مصلحة نقل الركاب، ورشحنا عدة أصدقاء للحزب، ودفعنا آخرين للانتساب الى نقابة مصلحة نقل الركاب. حثنا الحزب على دارسة الأدبيات الحزبية، وإستيعاب النظام الداخلي والبرنامج، ومتابعة جريدة إتحاد الشعب، والاهتمام بالتثقيف الذاتي. وأخذت أبحث وأدرس كل ما يقع في يدي من كتب ومجلات وصحف، ودرست الفلسفة الماركسية والاقتصاد السياسي، ونظراً لضعف مستواي الدراسي، لم أتمكن في البداية من إستيعابهما، فأعتمدت على المزاوجة بين التثقيف الذاتي والجماعي. لجأت الى المواضيع البسيطة والمبسطة في كتاب «موجز الفلسفة الماركسية» تأليف أفناسيف وترجمة عزيز سباهي، و»فصول في الاشتراكية العلمية» ترجمة عبد الرزاق الصافي، ومجموعة كتب لينين والمؤلفين الشيوعيين الآخرين. تعددت قراءاتي، وأخذت أستوعب الفلسفة والاقتصاد بشكل جيد، أو متوسط، وأصبحت خريج جامعة الحزب لا خريج الابتدائية. وعند إطلاعي على الفلسفة الماركسية، وجدت فيها جوانب مشرقة، مفهومها هو إزالة إستغلال الانسان لأخيه الانسان.
بعد مواظبتنا على العمل الحزبي، أنا والرفيق عبد الأمير سعيد، أصبحنا أعضاء في لجنة الوجبة الأولى. وكانت المنافسة رفاقية خالية من الأنانية، فأنجزنا مهامنا الحزبية وفق توجيهات الحزب، وقدنا العمل الحزبي والنقابي، مقارعين العناصر المعادية لثورة 14 تموز، ومواجهتهم عند تعرضهم للمسيرات في شارع الرشيد في منطقة ابو شيبة، وكذلك في ساحة الميدان. جرى الاعتداء علينا نحن الشيوعيين في مصلحة نقل الركاب، وجرى تشخيصنا بالاسماء، وبأرقام الباصات التي نعمل عليها. وفي عام 1961. جرى فصلنا في اول قائمة صدرت بفصل الشيوعيين في المصلحة. وبعدها توالت قوائم الفصل عن العمل. ولكن رغم ذلك، ظل عملي التنظيمي مستمراً في الدائرة، وبأجواء من السرية، فحافظنا على منظماتنا.
اعتقال لجنة الوجبة الأولى

وفي عام 1962، تم اعتقال اللجنة الأولى التي كنت أقودها، من قبل الأمن، نتيجة خيانة عضوها خليل ابراهيم. كانت تتكون من ثمانية رفاق، وحسب توجيهات الحزب، كنا نعفي ثلاثة رفاق من الاجتماع، كأجراء إحترازي.. حصل ذلك في منطقة الأكواخ خلف السدة ببغداد المعروفة بـ «العاصمة والمجزرة» وفي بيت الرفيق فوزي هدهود، حيث جرى اعتقالنا جميعاً، ولم يتمكنوا من اعتقال الرفاق الثلاثة.

الى مركز شرطة الباب الشرقي

في الطريق الى المركز، قادتنا مفارز الأمن الثلاث مع المتجمعين في الأكواخ المجاورة، واضعين الكلبجات بايدينا، وهو يصرخون بأننا لصوص، وذلك للتمويه على سكنة منطقة (العاصمة والمجزرة) وحتى يتحاشوا الصدام مع سكان الأزقة، وهم غالباً ما يكونون من الشيوعيين وأصدقائهم.
في مركز الشرطة إنهالوا علينا بالضرب، وهناك وجدوا نسخة من النظام الداخلي عند الرفيق نوري هدهود، الذي قال لهم أنه وجده صدفة في الشارع، رافضاً أن يعطيهم أسماء الرفاق الثلاثة المعفيين من الاجتماع. نقلونا بعدها الى الأمن العامة، وفي موقفها تعرفنا على العديد من الشيوعيين واصدقائهم، مثل فائق بطي صاحب جريدة البلاد.
وبعد 22 يوماً في الأمن العامة، رحلونا الى موقف باب المعظم. وفي القلعة الخامسة، إلتقينا بكثير من الرفاق، منهم الرفيق الشهيد حمزة سلمان وصادق جعفر الفلاحي وعلي شاكر وحسين علوان. كذلك الشعراء والفنانين: كاظم السماوي ونصير النهر وأخيه، والفنان احمد الخليل الذي كان يشنف آذاننا بعوده الذي صنعه بنفسه داخل الموقف، وبأغنية هربيجي كرد وعرب رمز النضال.. والتي يصل صداها الى خارج أسوار السجن في باب المعظم، مما يجعل الجماهير تتجمع وتردد كلمات الاغنية.
بعدها حكم علينا بخمسة شهور سجن وسنة مراقبة، بينما كان نصيب نوري هدهود السجن سنتين لانكاره عائدية النظام الداخلي!