مدارات

التحليل الماركسي لظاهرة الديون الخارجية وأبعادها الدولية / د.عودت ناجي الحمداني

الحلقة -1-
عبرت تحليلات الكتّاب الماركسيين ، كارل ماركس وفلاديمير لينين وروزا لوكسمبورغ عن فرضيتهم القائمة على الحتمية التاريخية لانهيارالرأسمالية. ففي كتاب رأس المال و تراكم رأس المال جاءت معالجات ماركس وروزا لوكسمبورغ ضمنية للدَيْن العمومي في مرحلة الرأسمالية التنافسية بينما جاءت معالجات فلاديمير لينين في المرحلة الاحتكارية للرأسمالية متناثرة في عدة أجزاء من أعماله الكاملة. وبالرغم من أن التحليلات جاءت في فترات تاريخية مختلفة من مرحلة الرأسمالية إلا أنها تلتقي في التحليل والمواقف الفكرية.
وللتعرف على اراء ومعالجات هؤلاء الكتاب العظام لدور الدَيْن العمومي في تحقيق التراكم الرأسمالي و تحقيق فائض القيمة ووظيفة الدَيْن العمومي في المرحلة الرأسمالية. سنتناول ذلك كالاتي:

1- تحليل كارل ماركس لظاهرة الدين العمومي

بتحليل مسهب كشف كارل ماركس الدور الذي يؤديه الدَيْن العمومي في تحقيق التراكم الرأسمالي في مرحلة الرأسمالية التنافسية، حيث كتب قائلاً: (إن الدَيْن العمومي يعمل بصفته أحد العوامل الأكثر نشاطاً للتراكم البدائي. فبواسطة عصا سحرية توهب النقود غير المنتجة الفضيلة الإنتاجية ومحولة إياها إلى رأسمال دون أن يتحمل مخاطر وارتباكات توظيفه الصناعي أو حتى مجرد استعماله الخاص).
فالدور الذي يلعبه الدَيْن العمومي كعامل مؤثر في عملية التراكم الأولى لا يمكن إدراكه بدون النظر إلى كيفية أدائه، فيتم تحويل النقد إلى رأسمال نقدي حامل للفائدة عندما تحصل عليه الدولة كقرض. والفوائد التي يدرها هذا النوع من رأس المال لا تخلق من العدم ولا بواسطة عصا سحرية على حد قول ماركس بل مصدرها الدخل العمومي الذي تتحصل عليه الدولة بواسطة نظام الجباية. وان المنتجين الصغار هم الذين يتحملون الضرائب، فإذا كان صاحب رأس المال الحامل للفائدة يحصل على الفوائد دون أن يتحمل أية مخاطر فإن ذلك يتم على حساب المنتجين ال?غار. فبقدر ما يزداد عبء الدَيْن الربوي على المنتجين الصغار بقدر ما تزداد معيشتهم تفاقماً بسبب ما يتحملونه من ضرائب، وبمثل ذلك تتفاقم شروط عملية إعادة الإنتاج. ومثل هذه الحالة غالباً ما ينتهي الأمر بالمنتج الصغير إلى فقدان وسائل إنتاجه ويتحول إلى قوة العمل الأجيرة. و هذا ما يقود إلى التساؤل فيما إذا كانت الديون الخارجية المتراكمة على الدول النامية تحقق عملية التراكم الأولى أم لا ؟ فعملية إعادة الإنتاج المتصفة بالفقر النسبي لا تستطيع أن تحقق فائضاً اقتصادياً للوفاء بالتزاماتها ولا تستطيع تأمين عملية الإنتاج?الموسع . فعلاقات الإنتاج القائمة في البلدان النامية عاجزة عن تحقيق الفائض الاقتصادي الكافي لمواجهة الأعباء المترتبة على الدين الخارجي. وبسبب هذا العجز تضطر البلدان النامية إلى الخضوع لشروط الدول الدائنة كتحجيم دور القطاع العام وتحويله إلى القطاع الخاص. ورغم ما ينجم عن هذا الأجراء من تسريح جماعي للأفراد العاملين، فان من الممكن اعتبار ذلك شكلاً من أشكال تحقيق عملية التراكم الأولي وهذا ما يؤكده قول لينين "إن الرأسمالية التي بدأت تطورها من رأس المال المرابي الصغير تنهي تطورها برأس المال المرابي الضخم، لا تستط?ع أن تحقق فائضاً اقتصادياً للوفاء بالتزاماتها ولا تستطيع تأمين عملية الإنتاج الموسع)
وقد بين كارل ماركس كيف تجري عملية تحقيق التراكم الأولي من خلال ما ذكره ( لما كان الدَيْن العمومي قاعدته الدخل العمومي الذي ينبغي أن يرفع الأقساط السنوية، فإن النظام الحديث للضرائب هو نتيجة طبيعية للاقتراض القومي). وأضاف (ولكن يجب أن يشغلنا تأثيره المتلف على وضعية الطبقة العاملة أقل مما يقتضيه من نزع إجباري لملكية الفلاح والحرفي والعناصر الأخرى للطبقة المتوسطة).
وفي هذه الفقرات بين كارل ماركس اعتماد نظام الدَيْن العمومي على الدخل العمومي الذي يتم تحقيقه بواسطة النظام الضريبي الملازم له. فثقل عبء نظام الدَيْن العمومي هو انعكاس لثقل عبء النظام الجبائي وفي ظروف معينة يفضي إلى فصل المنتجين.
فالشروط المعنية لقيام علاقات إنتاج رأسمالية محل علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية تتحقق عبر تطور القوى المنتجة إلى الحد الذي يجعل علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية متخلفة وغير مقبولة. فعند حدوث التناقض بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة يصبح لنظام الدَيْن العمومي دور مهم في الإنتاج الاجتماعي ويدفعه نحو التطور. فدور الدَيْن العمومي لا يتوقف عند تحقيق التراكم الأولي بل يتعداه إلى القيام بدور آخر، وفيه يقول ماركس: (إن نظام القرض العام يعني الديون العمومية الذي وضعت البندقية وجنوه في العصور الوسطى أولى ركائزه، ا?تاح أوربا بصورة نهائية خلال العهد المانيفاكتوري)، وأضاف أيضاً: (إن القرض العام بعبارة أخرى تخلي الدولة عن سلطاتها لسواها، سواءً أكانت استبدادية أم دستورية أم جمهورية يتسم العهد الرأسمالي بطابعه) .
ونفهم من هذة المقاطع التي ذكرها ماركس أن نظام الدَيْن العمومي هو نتاج مرحلة تاريخية معينة من مراحل تطور المجتمع وهي المرحلة الرأسمالية، ويلعب دوراً مهماً في حياة الرأسمالية بل هو أحد عناصرها الهامة. فالدولة هي المكون الأساسي للنظام السياسي والاقتصادي وبكونها منظمة فوقية للبناء الاجتماعي، فهي تؤثر تأثيراً مباشراً في النشاط الاقتصادي. والدولة الرأسمالية بكونها ممثلة لمصالح الطبقة الرأسمالية فهي تنفذ السياسات التي تحقق أهداف ومصالح الطبقات الاستغلالية وحلفائها من الطبقات والشرائح الأخرى, و في سبيل تحقيق ذلك ?لن تتأخر عن استخدام العنف والقوة الأمر الذي يتطلب المزيد من الأموال. وبما ان من الصعب الحصول على كافة الأموال اللازمة بواسطة النظام الجبائي فهي تضطر إلى اللجوء إلى الاقتراض الخارجي وبذلك يصبح الدَيْن أحد وظائف الدولة الهامة. وفي هذا السياق كتب ماركس يقول: ( بصرف النظر عن طبقة أصحاب الدخل وبصرف النظر عن الثروة سريعة التكوين التي جناها الماليون الوسطاء بين الحكومة والأمة وكذلك بصرف النظر عن ثروة الجباة والتجار والصناعيين والخصوصيين الذين يؤدى لهم جزء عظيم من كل قرض يعقد، هي الخدمة نفسها التي يؤديها رأسمال ه?بط من السماء، وبصرف النظر عن هذا كله فالدَيْن العمومي قد دفع الشركات المساهمة دفعة كبرى، كما دفع التجارة بالأوراق القابلة للتبادل وتلك تجارة من كل نوع ولون ، وكما دفع عمليات المضاربة والمقامرة التجارية والتجارة بالأوراق المالية، وبكلمة فانه دفع دفعة كبرى إلى الأمام حركات البورصة، والسلطة الحديثة للمصارف) .
ان ماركس يفسر في هذه المقاطع كيف يدفع نظام الدَيْن العمومي الشركات المساهمة نحو النمو السريع، وهو بفضل ما يحققه من أموال وبفضل سياسة الدولة الرأسمالية. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كيف يدفع نظام الدَيْن بتجارة الأوراق المالية المعبرة عن ميل الرأسمالية نحو التعفن والى الانتشار السريع. فمع نمو الرأسمالية ومع القفزات الكبيرة التي عرفتها بعض فروع الصناعة اخذ يتكون فائض نسبي من رؤوس الأموال الذي لا يجد فرصاً للاستثمار على المستوى المحلي. ومن ثم فالدَيْن العمومي أخذ هو الآخر يقوم بوظيفة جديدة وهي التي قال عنها مار?س: (وعليه فانه ما لم يحصل توسع تدريجي وكاف في حقل النشاط ومتزامن مع هذا التدفق في رأس المال الفائض فإننا نكون عرضة لتراكمات نقدية دورية تبحث عن فرص الاستثمار، التراكمات التي تكون معتبرة حسب ظروف معينة, خلال سنوات عديدة كان الدَيْن العمومي الوسيلة الكبرى لامتصاص الثروات الفائضة في إنكلترا) .
إن وجود الفائض النسبي في رؤوس الأموال وخاصة في شكله النقدي التسليفي هو نتاج مرحلة معينة من تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية، تعود بداياتها إلى حوالي العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر.
ومع بداية هذه المرحلة المتميزة بوجود فائض نسبي في رأس المال أصبحت الرأسمالية بحاجة ماسة إلى وسيلة لامتصاص هذا الفائض حتى يمكن لعملية إعادة الإنتاج الموسع أن تجري بصورة عادية نوعاً ما,
وقد جاء نظام الدَيْن العمومي بهذه الوظيفة بجانب الوسائل الأخرى.
إن محدودية قدرة الدَيْن العمومي على امتصاص كل الفوائض من رؤوس الأموال المتزايدة قد دفع بالرأسمالية إلى توسيع مجال الدَيْن العمومي ولم يعد الأمر يتعلق بمنح القروض للدول الرأسمالية بل ومنحها إلى الدول الأخرى وبذلك تم تطوير وظيفة الدَيْن العمومي باعتباره وسيلة من وسائل امتصاص الفوائض. وحول ذلك قال ماركس: (لقد أعطت السكك الحديدية انطلاقة لا يشك فيها حتى الآن لتركيز رأس المال والنشاط القرضي . حاصراً بذلك العالم بكامله في شبكة احتيال مالي ومديونية متبادلة هو الشكل الرأسمالي للأخوة الدولية ).وأضاف قائلاً: (شكلت ا?سكك الحديدية في النمسا وإيطاليا مديونية جديدة لا تطيقها الدولة والجماهير المضطهدة).
ومن المعروف أن صناعة السكك الحديدية قد شهدت تطوراً كبيراً خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولم يكن بإمكان هذه الصناعة أن تستمر في عملية إعادة إنتاجها الموسع ما لم تكن لها مجالات تصدير رؤوس الأموال الفائضة في شكل قروض تستعمل في تمويل بناء السكك الحديدية في مناطق أخرى من العالم. وعن طريق مثل هذه القروض وغيرها من أشكال تصدير رؤوس الأموال الأخرى تم استمرار دورة الإنتاج في هذه الصناعة. إلا أن مثل هذه الوظيفة للدَيْن العمومي وان كانت ذات أهمية بالغة في توفير شروط الإنتاج الموسع فهي الأخرى كانت تصطدم بحدودها?الموضوعية والمتمثلة في أن البلدان المدينة عليها أن تتحمل التزامات وان تفي بها حسب الجدول الزمني المحدد. وبمعنى آخر إن القروض لها مقابل وليست مجانية، فالديون القائمة على البلدان المدينة خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر في اكثر الحالات عبارة عن ديون ربوية سواء كان الدائن والمدين من نفس البلد أو من بلدان مختلفة.
وحول هذه الوضعية قال ماركس (إن مفهوم رأس المال كقيمة تعيد إنتاج نفسها بنفسها متنامية في إعادة الإنتاج هذه بفضل خاصيتها النوعية كقيمة تتخلد وتنمو دون انقطاع )