مدارات

ربع قرن على انهيار جدار برلين وتفكك المعسكر الإشتراكي :حدث صاخب.. وتبدلات عاصفة (2-2)

قاسم حنون
البيروسترويكا ... تناقضات وأوهام
تختصر عملية الأصلاح الغورباتشوفية بمصطلحين هما : البيروستريكا وهي مجمل الإصلاحات التي يسعى لإدخالها غورباتشوف وجماعته الى المنظومة الأقتصادية كإعادة بناء ومراجعة للسياسات العامة في إدارة الدولة , والغلآسسنوست أو العلنية وهي الأصلاحات السياسية التي تتخذ منحى ديمقراطية جزئية للمنظومة بكاملها . حدد ارنست ماندل في كـــــــــــــــتابه (الأتحادالسوفيتي الى أين .. في ظل غوباتشوف ) اربعة احتمالات لتطور الأوضاع في بلد ثورة اكتوبر :
الاحتمال الأول يتمثل بعودة الرأسمالية وطي سبعين عاما من تاريخ الدولة السوفيتية
الاحتمال الثاني هو تبلور كتلة في الحزب الشيوعي السوفيتي وتعبئة جماهيرية اوسع بكثير مما يجري لتنتج ربيعاً موسوكوفياً شبيبهاً بربيع براغ .
الاحتمال الثالث وهو الفشل ومبادرة المحافظين في أعلى الهرم البيروقراطي الى توجيه ضربة قاسية الى الدمقرطة وايقافها .
الاحتمال الرابع هو انتصار الثورة السياسية بالمعنى الماركسي للكلمة الذي يعني ان قيادة سياسية جديدة شيوعية تنبثق من البروليتاريا الصناعية ومن الأنتلجنسيا الأشتراكية الجذرية للأمساك بزمام المبادرة ومساعدة الجماهير على تحقيق اهدافها الأساسية . هذا الاحتمال رجحه ماندل ولكن الوقائع دحضته فقد انتصر الاحتمال الأول بعد تعاظم الكتلة الليبرالية المناصرة لإعادة الرأسمالية والمجازفة بمستقبل البلاد فقد حدثت تطورات متسارعة بعد المؤتمر الثامن والعشرين للحزب المنعقد في اوائل صيف 1990 ومنها عمليات تحويل فعلية لأقسام مهمة من الصناعة السوفيتية الى القطاع الخاص والبرامج المحتلفة التي حرى تداولها والتي تقوم على صيرورة التخصيص بما في ذلك الصناعات الكبرى و يبدو ان الشريحة القيادية من البيروقراطيين وصلت الى قناعة انها لا تستطيع ان تضمن مواقعها الا بالتراجع عن مكاسب الأشتراكية في التاميم والتجميع واحتكار التجارة الخارجية والدور المركزي للدولة بحجة استيعاب ( الحضارة الغربية) أي الرأسمالية في صورتها المشوهة وحركتها المنفلتة. لقد كان ستالين يأمل بالحصول على ستة مليارات دولار بعد الحرب العالمية الثانية من روزفلت وترومان لإعادة اعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية في بلاده ولكنه فشل في الحصول عليها فاضطر لاختيار الدمج البنيوي للأقتصاد السوفيتي مع اقتصاديات اوربا الشرقية وتقسيم اوربا الى معسكرين , وفي اواخر العقد الثامن من القرن العشرين تخلى غورباتشوف عن اوربا الشرقية واتاح المجال لأعادة توحيد المانيا على أمل أن تتجه اوربا الرأسمالية واليابان والولايات المتحدة الأمريكية لأنقاذ اقتصاد بلده المنهار الذي يطلب مبلغاً أكبر بكثير وهو مئة مليار دولار ويجابه جفاء يتسبب بالمزيد من الأزمات والتدهور الأقتصادي ولكنه يرد بالمزيد من التنازلات في ظل الأوضاع المتدهورة لصالح الأمبريالية وهو يأمل الحصول لقاء هذه التنازلات على تخفيف في وتيرة سباق التسلح الى جانب قروض ضخمة لردم الهوة التكنولوجية تدريجياً بينما تتصاعد حمى التسلح والتلويح بمبادرة حرب النجوم من جانب اليمين الريغاني والتاتشري ونشر القواعد العسكرية في العالم والهجوم على حركات التحرر الوطني والحركات الثورية , وفي ظل صعود الليبرالية الجديدة التي تقوم على اخراج الدولة من منظومة العلاقات الأقتصادية فيما اظهر غورباتشوف استعداداً للتفريط بحلفائه في اوربا الشرقية والحركات الثورية في كل مكان والتفريط بالأعتبارات الجيوسياسية للأتحاد السوفيتي, ومثلما وجد نفسه في حالة ضعف في علاقته مع الدول الأمبريالية فقد كان ضعيفا كذلك في علاقته مع الجماهير السوفيتية فلم يتم التغلب على حالة الركود في الاقتصاد السوفيتي فقد بلغ معدل النمو الاقتصادي في عام 1989 2.4 بالمائة وازداد العرض الكلي للسلع بنسبة تقل عن 1 بالمائة بينما انخفض الإنتاج الصناعي بشكل فعلي في مجال استخراج الفحم والنفط والحديد والأسمدة الكيمياوية وصناعة السيارات وانخفضت كمية المنتجات الزراعية المسلمة الى الدولة من 37 بالمائة من مجموع الأنتاج الى 30 بالمائة كما بقي الأنتاج الحيواني على حاله تقريبا . أما التضخم والعجز فيعتاشان الواحد من الآخر ويقدر العجز المتضخم في الميزانية بـ 120 مليار روبل عام 1989 أي أكثر من 10 بالمائة من الناتج القومي الأجمالي .
وبالرغم من كل الضجيج الذي رافق عملية البيروسترويكا فإن الاقتصاد السوفيتي واصل اشتغاله بآليات حقبة الركود وما قبلها واكثر الأمثلة مأساوية هو قطاع الزراعة والغذاء فقد سجل الأتحاد السوفيتي عام 1990 رقما قياسياً في المحاصيل الزراعية يقدر بحوالي 250 مليون طن من الحبوب او اكثر الآ انه لكي تصل هذه الحبوب الى المستهلك يجب اولاً ان تحصد لكن اكثر من 20 بالمائة من الآلات الزراعية معطلة ويحول نقص حاد في البنزين دون استخدام آلات اخرى كما يتعذر نقل جزء من المحصول الى المدن كما كان هناك نقص في الصوامع وتخلف نظام المواصلات وتقول التقديرات ان 40 مليون طن من الحبوب ضاعت في ظل تلك الأحوال . وعلى الصعيد السياسي والثقافي كانت الإصلاحات تقوم على إحداث تغيير في وسائل الأعلام وزحزحة احتكار الدولة والحزب باتجاه اللبرلة والتعددية واتاحة الفرصة لحرية النقاش والنقد حتى خارج وسائل الأعلام فتحطمت قيود وانهارت أجزاء بكاملها من الرقابة وعرضت أفلام في صالات السينما والتلفزيون وعرضت مسرحيات كانت ممنوعة من قبل الرقابة ونشرت مخطوطات محظورة وقد افضت مؤتمرات الكتاب والفنانين الى تغيير كبير في الأجهزة المحافظة والمحور الآخر من الأصلاحات السياسية هو تطهير جهاز الحزب فمنذ اصبح غورباتشوف سكرتيرا للحزب عين خمسة اعضاء من اصل 12 في المكتب السياسي وحصلت فيما بعد تعيينات اضافية ليصل العدد الى 15 , وعين عشرة رؤساء اقسام من اصل 24 في اللجنة المركزية و30 من اصل 80 وزيراً ورئيس لجنة دولة واربعة من اصل 15 سكرتيراً للأحزاب الشيوعية في الجمهوريات السوفيتية الخمس عشرة و38 من 320 عضواً في اللجنة المركزية القديمة وخمسين من المئة وخمسين سكرتيراً اقليمياً للحزب الشيوعي كما شمل التطهير جهاز الدولة بما فيه الاقتصاد والمؤسسات الثقافية والجهاز العسكري وقد سنحت فرصة هبوط الشاب الألماني بطائرته الشراعية في الساحة الحمراء بموسكو بما كشفه من تهاون وضعف في الاستعداد والخدر فاغتنم غورباتشوف الفرصة ليعين نصيره الجنرال يازوف متجاوزاً كل الماريشالات علماً ان هذا القطاع من القوات المسلحة يهيمن عليه نخبة من الجنرالات والمسؤولون الحزبيون في المؤسسة العسكرية ,لنتذكر رد فعل سلفه أندربوف بإسقاط الطائرة الكورية التي اخترقت أجواء الاتحاد السوفيتي ! , وبقدر ما كانت البروستريكا والغلاسنوست تعول على احداث تغيير ما فإن التطورات اتخذت مسارا آخر ولم يعد بالأمكان التحكم في التحديث والدمقرطة التي غالباً ما اتخذت طابع الفضح العلني للتجاوزات والأخطاء ووصم الأشتراكية برمتها بالأنحراف والبيروقراطية تمهيداً للتبرؤ منها وفتح الباب واسعاً أمام المافيا والرأسمالية المتوحشة .
وقائع ... ودلالات
1) في نهاية العام 1995 وفي فندق فيرمونت بسان فرانسيسكو, وهو منشأة مهمة له منزلة الأيقونات إذ هو منزل لسكن من اعتادوا حياة الترف والنعيم ,تحفة معمارية تفخر كاليفورنيا بعظمتها ورقيها .. بهذا المكان الذي شهد أحداثا عالمية وقف غورباتشوف آخر الزعماء السوفييت وحامل جائزة نوبل أمام أقطاب اليمين في المال والسياسة والأعلام ليقترح هيئة خبراء جديدة ويبين معالم الطريق الى القرن الحادي والعشرين ,هذه الطريق التي ستفضي الى ( حضارة جديدة ).. كان من بين الحاضرين الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش والسيدة الحديدية مارغريت تاتشر وجورج شولتز وزبغنيو برجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد كارتر الى جانب أقطاب العولمة في عالم الكومبيوتر والمال وكهنة الاقتصاد الرأسمالي وأساتذة الإقتصاد في جامعات ستاتفورد وهارفرد واكسفورد !!أكانت خاتمة البيروسترويكا الارتماء السافر في أحضان اليمين ؟ هل هو مآل ( التعايش السلمي المعمق ) الذي دعا اليه غورباتشوف في أواخر الثمانينات؟
2) سبق لتروتسكي أن أشار الى فرضية ظهور جزء مناصر لعودة الرأسمالية داخل البيروقراطية السوفيتية وذلك في البرنامج الإنتقالي للأممية الرابعة 1938 وقد أشار اليه بتسمية ( جناح بوتنكو ) نسبة الى فيدو بوتنكو القائم بالأعمال السوفيتي في رومانيا الذي فرً الى ايطاليا الفاشية شباط 1938 وقد وضع هذا الجناح بإزاء ( جناح رايس) نسبة الى أحد قادة الأجهزة السرية السوفيتية في أوربا الغربية الذي انضم الى الأممية الرابعة ..
3) في زيارته الأولى الى المملكة المتحدة 1986 أعدت الحكومة البريطانية برنامج استقبال للزعيم السوفيتي وزوجته لارسا , المفاجأة أن السيدة اعترضت على بعض فقرات البرنامج ومنها زيارة قبر كارل ماركس في لندن وفضلت ارتياد دور الأزياء والمجوهرات وحين سئلت من قبل الصحفيين عن الشعراء الروس الذين تأثرت بهم أجابت : غوميليف وهو من أعداء ثورة اكتوبر وليس من الشعراء الروس الكبار ..في نهاية الزيارة (الناجحة) أطلقت السيدة تاتشر زعيمة المحافظين ورئيسة الوزراء دعوة الى الزعماء الغربيين لتفهم مبادرات وأفكار الزعيم السوفيتي الجديد ,كانت الدعوة بمثابة العثور على لقية !!
4) صحيح إنه لايمكن تأويل ماجرى استنادا الى المؤامرات الخارجية وإنه يجب البحث في التناقضات الداخلية للتجربة الاشتراكية وميكانزمات التحول الإجتماعي والسياسي والثقافي والقوى الفاعلة والعوامل المؤثرة التي قادت الى انهيارها المدوي ,ربما يكون مقبولا أو محتملا انتقال غورباتشوف ورهطه الى مواقع الاشتراكية الديمقراطية باعتبار انجازاتها في بعض البلدان الأوربية ,إلا إن انحدار النخبة الغورباتشوفية ورمزها الأعلى الى أقصى اليمين له مغزى خطير ودلالة سافرة على موقف ايديولوجي وسياسي ونوايا مبيتة
أفكار ...واستنتاجات
- تباينت الآراء بشأن ما حدث، كما تعددت مستويات دراسة التجربة، وهذا أمر طبيعي وناجم عن اختلاف المرجعيات وأدوات ومناهج التحليل. ولكن يبدو ان المقاربة الأنسب لفهم ما جرى هي تلك التي لا تكتفي بالبحث في العوامل الظرفية التي أدت إلى الانهيار، بل القيام بدراسة اشمل وأعمق للتجربة من منظور ماركسي يكشف عن العوامل البنيوية والتناقضات الداخلية الاقتصادية/الاجتماعية/الثقافية .. الخ التي قادت في النهاية عبر تطورها وتفاعلها مع الضغوط الخارجية في ظل سياقات تاريخية محددة، إلى انهيار أول تجربة تاريخية في العصر الحديث لبناء الاشتراكية. المهمة فهي باختصار شديد، تتجلى في ضرورة البحث في "جذور" انهيار نظام الاشتراكية الفعلية، ومحاولة التوصل الى اجابات ولو أولية عن التساؤلات التي طرحت وتطرح نفسها عند تناول هذه القضية.
وارتباطا بذلك لابد من التأكيد على القضايا التالية:
عند البحث عن اسباب الإخفاق، من الضروري عدم القبول بتلك الاطروحات التي تقول بأن " المؤامرات الخارجية " هي التفسير الوحيد لما جرى. نعم أن التدخل الخارجي، وان كان قد ساعد على دفع عملية الانهيار، فإنه لم يكن السبب الرئيسي او المقرر. فانطلاقا من الاطروحة الماركسية المعروفة وهي ان دوافع التطور الاساسية (والنكوص ايضا) يجب البحث عنها في تناقضات الظاهرة المدروسة ذاتها، اي في بنيتها الداخلية. ولهذا فإنه يتوجب علينا ان نتلمس اسباب الانهيار في البنية المنهارة ذاتها. وكل تضخيم لدور العامل الخارجي في احداث الانهيار، أو كل تقليل لدور العوامل الداخلية، سيؤدي الى استنتاجات قد لا تكون دقيقة وبالتالي لا تخدم حركتنا في سعيها للوصول الى بدائل اكثر قابلية للحياة من النموذج المنهار وتمثل نفيا حقيقيا للرأسمالية.
على هذا الطريق يتعين الانتباه الى ما يلي:
1. تجنب ايجاد مسوغات للستالينية؛ المفيد الاشارة الى بعض النقاط التي نراها ضرورية هنا. لفهم جوهر الظاهرة الستالينية علينا ان نحدد مكان جذورها. وهنا تقتضي الاشارة الى انه من العبث ان نبحث عن تلك الجذور في النوايا السيئة أو الارادة الشريرة لدى ستالين، في طموحاته السياسية أو في "مرضه العقلي الخاص" لان ذلك لا يفسر شيئا. ان على اي تحليل جاد حقا لجذور الستالينية أن يوضح أولا العلاقات القائمة بين اهم المجموعات والفئات الاجتماعية المشاركة في الحركة الثورية الروسية. كيف كانت مصالح هذه الفئات والجماعات ومبادئها وتطلعاتها تتفاعل وتتضارب. كان ماركس هو الذي أبدع، ومنذ وقت طويل، المنهج الصحيح للقيام بمثل هذا التحليل. فقبل فحص وجهات نظر شخصيات معينة ونواياهم ورغباتهم يلزمنا منهج ماركس بمعاينة المنطق والصيغ النمطية التي تقود الحركة والصدامات الحاصلة بين قوى اجتماعية كبيرة. ولا شك ان دور الافراد يكون دورا ذا اهمية. غير أن الأفراد، مع ذلك، لا يستطيعون ان يؤدوا هذا الدور إلا في اطار تلك الاتجاهات التاريخية القوية والموضوعية غير الخاضعة لإرادة كائن من كان. اضافة الى ذلك ان شخصية تاريخية معينة قد تنتقل من قوة اجتماعية الى اخرى وقد تبدل مواقفها دون حصول تغير ذي شأن في مواقف هذه القوى وفي المجابهة بين هذه القوى وفي المضمون الفعلي لتلك التناقضات الشاملة والكلية تاريخياً. ذلك هو الذي يجعلنا نخص جوهر هذه التناقضات التاريخية الشاملة والكلية ذات الاساس الطبقي بالدور المركزي في الدراسات التاريخية تاركين سلوك الافراد ودسائسهم جانبا.
وخلاصة القول ان الستالينية لم تكن تطوراً حتمياً لشكل السلطة الاشتراكية بعد وفاة لينين، ولكنها كانت احدى الامكانات الكامنة في الوضع، والتي تحققت بفعل عوامل عديدة، منها ظروف الحرب الأهلية، والمؤامرات الخارجية للدول الإمبريالية، والإجراءات الاستثنائية التي لجأت اليها السلطة السوفيتية، والتقليل من أهمية الديمقراطية السياسية، والمواصفات الشخصية لستالين.
2. تجنب إرجاع الازمة والانهيار الى البريسترويكا وحدها دون تقصي الأسباب الرئيسية للأزمة وخلفياتها والقوى الفاعلة والاجراءات المتبعة
3. تجنب استخلاص استنتاج بأن النظرية الماركسية هي التي جعلت التشويهات امرا محتوما.
- القضية الاخرى تتعلق بضرورة تجنب الخلط بين النظرية والممارسة. لا بد من الاشارة الى ان الكثيرين ممن حللوا التجربة وما الت اليه من الانهيار الذي اصاب النظام الاشتراكي خلطوا بين النظرية والممارسة، متحدثين عن ازمة الماركسية رابطين بينها وبين الانهيار. في حين يحتاج هذا الربط الى اسئلة نقدية تعيد طرح قضية الماركسية في حقلها الطبيعي (الحقل النظري) بعيدا عن كل مظهر من مظاهر مأسستها مما يكون سببا في تمثل موضوعاتها تمثلا سياسيا تجريبيا. ويمكننا في هذا المجال ان نسوق بعض الاشكاليات:
1. لأسباب منهجية لا يجوز قراءة أية نظرية والماركسية هنا مثال من داخل اطار الممارسة، لأن هذه القراءة تلغي الاستقلال الذاتي للنظرية، وتقرؤها في سياق اليات اخرى مادية تقع خارج منطق المعرفة النظري واشتغاله الفكري والخاص. فهكذا حين تكون الممارسة السياسية للذين ينتسبون الى الماركسية مأزومة لا يصبح ذلك مسببا كافيا للاعتقاد في أن مرجعهم النظري مأزوم بالضرورة، إذ قد تكون اسباب الازمة كامنة في بنية الممارسة ذاتها.
2. يقود التحديد السابق الى وجوب اقامة تمييز بين الماركسية (النظرية) وبناء الاشتراكية (الممارسة). فالماركسية نص نظري فكري، ونوع من المعرفة يتجه الى تحليل ظواهر من العالم المادي وإنتاج صور نظرية عنها، أما الاشتراكية فهي نظام اجتماعي سياسي واقتصادي بشّرت به الماركسية ودافعت عنه نظرياً. وخوض تجربة بناء هذا النظام من قبل افراد وجماعات أو احزاب تبنت النظرية الماركسية لا يعفي من احترام الفاصل الموضوعي بين معرفتهم للعالم ومحاولتهم اعادة صياغته، باعتباره الفاصل بين الادراك والإرادة. وإذا كان طبيعيا أن يدب التحلل في الارادة ويصيب مشروع ادارة العالم وإعادة صياغته عطب من الأعطاب، لسبب من الأسباب، فليس طبيعيا أن تؤاخذ المعرفة بجريرة الممارسة، إذن هي تستحث نوعا أخر مختلفا من المقاربة.
- ومن جانب اخر ضرورة التمييز بين نقد التجربة بهدف استخلاص الدروس المناسبة وبين عدم اهمال المنجزات التي تحققت في هذه البلدان. فإذا كان التحليل النظري المنضبط يبتعد عن الهجاء فالحاجة ملحة إذن الى تقييم متوازن يجمع بين الثغرات والتجاوزات التي ادت الى المال المأساوي للتجربة وبين ما حققته تلك البلدان من منجزات.
- وعودة الى الملموس مجددا. فخلال الفترة الأولى من صعود ميخائيل غورباتشوف إلى رأس السلطة (1985 - 1987)، تحدث عن تعديل التخطيط المركزي، ولكنه لم يقم بأي تغيرات جذرية حقيقية (تسريع). بعدها قدم هو وفريقه من المستشارين الاقتصاديين إصلاحات أكثر جذرية، عرفت باسم البيريسترويكا. في يونيو 1987 وفي الجلسة العامة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي قدم غورباتشوف أطروحته الأساسية، التي قدمت "القاعدة السياسية" للإصلاح الاقتصادي للفترة المتبقية لوجود الاتحاد السوفييتي.
وفي يوليو 1987، وافق "السوفييت الأعلى"، وهو أعلى هيئة تشريعية سوفييتية، على مشروع "التزام الدولة" أو "مقاولات الدولة". نص القانون على أن "التزام الدولة" يعني ان لها حرية تحديد مستويات الإنتاج بناء على طلب المستهلكين من الأفراد ومن الالتزامات الأخرى. كان على الجهات الملتزمة تطبيق أوامر الدولة، ولكن كان لها الحرية في تقرير مصير المنتج المتبقي. فاشترت الالتزامات والمواد والمؤن من الموردين بعقود وبأسعار متفق عليها بين الطرفين. وبحسب القانون أصبحت مقاولات الدولة ذاتية التوليد لدخلها؛ فأصبح عليها تغطية التكاليف (الرواتب، الضرائب، المواد الأساسية، والقروض وفوائدها) من عائداتها. ولم تعد الحكومة تتدخل لإنقاذ الالتزامات التي لم تكن مربحة وواجهت خطر الإفلاس. وأخيرًا، نقل القانون الجديد السيطرة على المقاولات من الوزارات إلى تجمعات عمّالية منتخبة. كانت مسؤوليات لجنة التخطيط الحكومي تنحصر في تحديد الخطوط العريضة والتوجهات العامّة وأولويات الاستثمار القومي، وليس صياغة خطط الإنتاج التفصيلية.
ربما كان قانون التعاونيات الذي سُنَّ في ايار 1988 أكثر الإصلاحات راديكالية خلال الفترة الأولى لحكم غورباتشوف. ولأول مرة منذ "سياسة النيب" سمح القانون بالملكية الخاصّة للمصالح في قطاعات الخدمات، التصنيع والتجارة الخارجية. فرض القانون في البدء ضرائب عالية وتحديدات للتوظيف، ولكن سرعان ما تمت مراجعتها لاحقًا لتجنب تثبيط نشاط القطاع الخاص.
- بالمقابل، جلب غورباتشوف إعادة الهيكلة لقطاع الاقتصاد الدولي في الاتحاد السوفييتي باستعدادات بدت جسورة للاقتصاديين السوفييت في ذلك الحين. قام برنامجه بإلغاء احتكار وزارة التجارة الخارجية للعمليات التجارية. وسمح لوزارات الفروع الاقتصادية والزراعية المتنوعة بأداء عمليات تجارية خارجية في القطاعات التابعة لها بدل ما كانت عليه الحال من تواصل غير مباشر عبر بيروقراطية مؤسسات وزارة التجارة. بالإضافة إلى ذلك، أصبح بإمكان ملتزمي الدولة من الجهات المناطقية والمحلية وحتى الأفراد القيام بعمليات تجارية خارجية. هذا التغيير كان محاولة لتقليل القصور في نظام التجارة الخارجية السوفييتية: انعدام التواصل بين المستهلك السوفييتي والمورد وبين شريكهم الأجنبي-الخارجي.
ولعل التعديل الأكثر تأثيرًا الذي أدخله غورباتشوف على قطاع الاقتصاد الخارجي هو السماح للأجانب بالاستثمار في الاتحاد السوفييتي على شكل مشاريع مشتركة مع الوزارات السوفييتية ومع ملتزمي الدولة والتعاونيات.
- لم تفعل التغييرات الاقتصادية التي أدخلها غورباتشوف الكثير لإعادة تنشيط اقتصاد الدولة الراكد في نهاية الثمانيات. وبحلول 1990 كانت الحكومة قد خسرت السيطرة على الظروف الاقتصادية. وازدادت نفقات الدولة بحدة بسبب ازدياد عدد المقاولات الخاسرة التي احتاجت لمعونة الدولة واستمر دعم البضائع للمستهلكين. وانخفضت عائدات الضرائب بسبب امتناع سلطات الجمهوريات والسلطات المحلية عن تقديمها للحكومة المركزية بسبب روح الحكم الذاتي المناطقي المتنامية. وبسبب إنهاء السيطرة المركزية على قرارات الإنتاج، وخاصة في قطاع البضائع الاستهلاكية، كسرت علاقة العرض والطلب التقليدية، دون المساهمة في بناء علاقة عرض وطلب جديدة! وبالتالي، بدل أن تؤدي سياسات اللامركزية التي قدمها غورباتشوف إلى سلاسة النظام الاقتصادي، خلقت هذه السياسات معوقات إنتاجية جديدة. وفي النهاية تفاقمت وانفجرت الازمة الاقتصادية - الاجتماعية ووصلت ذروتها وانفجارها بالانقلاب الذي حصل ونتائجه المعروفة وفي مقدمتها التحول من الاشتراكية الى الرأسمالية ونتائج ذلك معروفة.
- وأخيرا، وبغض النظر عن المال المأساوي للتجربة الاشتراكية فان ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة: هل يمكن ان نظل ماركسيين، شيوعيين بعد هذا الزلزال الذي وقع؟
يبدو ان هذا السؤال هو في حد ذاته تعبير عن منطق مقلوب. فالسؤال الذي ينبغي ان يُسأل هو: هل يمكن ان لا نكون ماركسيين بالنظر الى الاوضاع الراهنة والانهيار الذي حصل؟ هل هناك بديل تغييري اليوم للماركسية والمشروع الماركسي؟ هل يمكن ان يكون هناك بديل معقول؟
لتوضيح مغزى هذه الاسئلة لا بد من الاشارة الى ان جوهر الخطأ الكامن في السؤال (الذي راج في الاوساط اليسارية حينها وربما لا يزال عند البعض!) يكمن في ربط الماركسية بالاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي: قيامه ومصيره. غير ان المنطق المعمق يقضي بأن تربط الماركسية بتناقضات الرأسمالية. ان الماركسية كفكر وكحركة تاريخية نبعت تاريخيا وتنبع منطقيا من قلب هذه التناقضات الرأسمالية، وما دامت هذه التناقضات موجودة تكون الماركسية أداة لحلها بالنسبة لنا نحن الشيوعيين والماركسيين عموما.
- خلاصة القول، ان الاستنتاجات التي توصلت لها "الورقة الفكرية" التي اقرها المؤتمر الوطني الثامن لحزبنا (2007) ما زالت صحيحة والتي تم التأكيد فيها على ما يلي:
1. ان الاشتراكية مستحيلة من دون اوسع قدر من الديمقراطية وفي حيوية الفكر والتمسك بالروح النقدية.
2. ليس هناك من نموذج وحيد للاشتراكية في العالم، ودون ان يعني ذلك اهمال تجارب الاخرين. وعلى كل حزب دراسة خصائص بلده الموضوعية بعمق، لكي يحدد اشكال وأساليب خوض النضال من اجل الاشتراكية التي تتنوع طرق الوصول اليها بعيدا عن نظام الوصفات الجاهزة. الاشتراكية التي نناضل من اجلها هي تلك التي تأخذ الجوانب الايجابية والمنجزات التي حققها النظام الاشتراكي، وتتجاوز الثغرات والأخطاء التي حصلت، وتعتمد كل القوانين التي اكتشفها ماركس والمفكرون الاخرون.
3. العودة الى الماركسية، كنظرية وكمنهج، للبحث الملموس في مشاكل الواقع الملموس من دون اغماض العين عن المشاكل القائمة بترداد الجمل العامة، فالمهم هو التطبيق الخلاق للنظرية والمنهج على واقع متحرك باستمرار. فالماركسية منهج وليست شعارات جامدة. ومن أهم أركان مبدأ التطبيق الخلاق هذا هو أن يتمتع الحزب الماركسي، بادئ ذى بدء، باستقلال سياسى وفكرى من وصاية ومؤثرات كائن من كان، وأن يكون مرجعه فى اجتهاده الماركسى حقائق شعبه الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية والروحية.