مدارات

في تشرين كانت لنا انتفاضتان .. ذكريات وأفكار للمناقشة / ناصر حسين

في شهر تشرين الثاني كانت لنا انتفاضتان. وبين الانتفاضتين اربعة اعوام فقط. الاولى كانت عام 1952 والثانية في 1956، ولكل منهما مناسبتها، ظروفها، قادتها، قواها المحركة وشهداؤها ايضا، ومن ثم نتائجها على الساحة السياسية العراقية.
عام 1949 وجه النظام ضربة موجعة للحركة الثورية في العراق باعدامه قادة الحزب الشيوعي العراقي الشهداء يوسف سلمان يوسف «فهد» حسين محمد الشبيبي، وزكي محمد بسيم يومي الرابع عشر والخامس عشر من شباط. واتبع ذلك باعتقال العديد من كوادر الحزب واعضائه وزجهم في سجونه الرهيبة ومن بينها سجن نقرة السلمان الصحراوي.
كان زعماء النظام يتصورون انهم بذلك قد قضوا على الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يشكل آنذاك رأس النفيضة بالنسبة للحركة الثورية العراقية وانهم بذلك ضمنوا لأنفسهم هدوء الشارع العراقي ولم يعوا أنهم كانوا كلما شددوا من أجراءاتهم يؤججون نيران الحقد على النظام لدى جماهير الشعب، ولا يمكن نسيان ان ساسون دلال في رسالة له الى حزب تودة قبل اعتقاله ومن ثم إعدامه بفترة وجيزة كتب مؤكدا باسم قيادة الحزب الشيوعي العراقي ان العراق مقبل على نهوض ثوري جديد.
حصل عام 1952 تطوران هامان في منطقة الشرق الاوسط كان لهما التأثير الكبير على تحسن المزاج الثوري لدى الجماهير العراقية واستعدادها لمنازلة النظام في هبة جماهيرية كبرى.
في ايران اقدمت حكومة الزعيم الوطني الايراني الكبير محمد مصدق على تأميم البترول الايراني. وفي مصر وجهت القوات المسلحة المصرية ضربة للنظام الملكي المصري حيث اسقط النظام الملكي وابعد الملك فاروق الى خارج مصر، وأعلن النظام الجمهوري فيها.
وفي مواجهة من الامبريالية الدولية لذلك النهوض الثوري في منطقة الشرق الاوسط طرحت الدوائر الاستعمارية مشروعها الذي اطلقت عليه تسمية معاهدة الدفاع عن الشرق الأوسط وكان العراق احد الدول المرشحة للالتحاق بذلك المشروع الاستعماري وان يكون العمود الفقري لذلك الحلف المقترح. وقد شكل ذلك الأرضية الصلبة للانتفاض ضد النظام العميل للاستعمار.
في الفلسفة يجري التمييز بين السبب والذريعة، ويشار الى الترابط بينهما، فالسبب بحاجة الى الذريعة لكي يفعل فعله ويتجلى في العلن.
في العراق آنذاك، كانت كافة اسباب الانتفاضة ضد النظام متوفرة وتدل كافة المؤشرات الى ان النظام كان يحس بذلك ويخشاه وبادر لاتخاذ الاجراءات العملية لتحصين نفسه واعادة ترتيب البيت لمواجهة الانتفاضة اذا ما ابتدأت وهو في موقف قوة وليس في موقف ضعف. وفي مقدمة تلك الاجراءات كان استبدال رئيس الاركان الذي كان آنذاك الفريق صالح صائب الجبوري الذي وقف بقوة ونصح رأس النظام الوصي عبدالاله بعدم اللجوء الى العنف واستخدام القوات المسلحة ضد الشعب ايام الوثبة عام 1948.
أجل كانت كل اسباب الانتفاض متوفرة وكان المطلوب توفر الذريعة التي جاءت فعلا.
كانت الاحزاب المجازة؛ حزب الجبهة الشعبية، الاستقلال، والوطني الديمقراطي قد قدمت الى زعامة النظام مذكرات تستعرض فيها الاوضاع المتردية في العراق وحملت الوصي قبل أي مسؤول آخر مسؤولية ذلك التردي. وفي الاجتماع الذي دعي له يوم 3/11/1952 رئيس الوزراء وحضره الوصي وكما يؤكد الاستاذ نجيب الصائغ في مؤلفه المعنون «من اوراق نجيب الصائغ» ان الوصي خاطب رئيس حزب الجبهة الشعبية طه الهاشمي بكلام مهين واساء الى الاستاذ كامل الجادرجي. الأمر الذي اثار الاستياء الشديد لدى الاطراف السياسية المؤتلفة في «الجبهة الوطنية»، ثم جاء قرار حكومة مصطفى العمري بشأن الامتحانات في كلية الصيدلة والذي كان مجحفاً بحق الطلبة اذ إن الطالب، وكما ورد في القرار، في امتحانات الدور الثاني يؤدي الامتحان في كافة الدروس وليس الدروس المكمل فيها فقط.
رفض طلاب الكلية ذلك القرار. وعندما قابلت عمادة الكلية احتجاج الطلبة باجراءات تعسفية انتفضت جماهير الطلبة في باقي الكليات في اضراب عن الدوام وتظاهرات كانت في البداية داخل حرم الكليات الا انها امتدت الى الشارع ولم يكن باستطاعة أحد منع الجماهير من التضامن مع الطلبة فلم تعد تظاهرات الشارع مقتصرة على الطلبة. لقد تحولت الى تظاهرات جماهيرية ضد اجراءات الأجهزة القمعية التعسفية، وكانت مشاعر الجماهير تتحول الى العداء ضد الأجهزة القمعية كما توسعت تلك الاجهزة في استخدام العنف من أجل تفريق التظاهرات. ومعروف ان المتظاهرين بعد ان احرقوا المركز الاعلامي الامريكي ومقر حزب نوري السعيد «حزب الاتحاد الدستوري» في شارع الرشيد قاموا بمساعدة اصحاب البيوت المجاورة لمركز شرطة باب الشيخ بإحراق هذا المركز. الشرطة تزداد عنادا في استخدام العنف ضد المتظاهرين، والمتظاهرون يزدادون تحدياً في مجابهة النظام وقواه القمعية ويرفعون سقف مطالبهم حتى وصلت حد المناداة باسقاط النظام واعلان الجمهورية وهذا ما يؤكد عليه في مذكراته كل من الرفيق ثابت حبيب العاني والاستاذ كامل الجادرجي - رئيس الحزب الوطني الديمقراطي. ومن اهم مميزات تلك الانتفاضة انها امتدت وبسرعة لتشمل الكثير من المدن العراقية وكانت لانتفاضة جماهير مدينة النجف سعتها الكبيرة بعد ما وصل الأمر بأجهزة الشرطة فيها حد اقتحام بناية المتوسطة واطلاق الرصاص على الطلبة وهم داخل قاعات الدرس.
ان انتفاضة بهذه السعة كان لابد ان تكون لها قيادة ميدانية تنظمها وتوجهها. بهذا الخصوص يشير كل من الاستاذ كامل الجادرجي في مذكراته والاستاذ نجيب الصائغ في مؤلفه المعنون «من اوراق نجيب الصائغ» الى ان اجتماعات قادة الجبهة الوطنية التي ضمت في حينها الحزبين الوطني الديمقراطي والاستقلال بعد انسحاب حزب الجبهة الشعبية منها لأنه كان يريد لها ان تضم فقط الاحزاب المجازة في حين كان التوجه لدى الاطراف الأخرى ان تضم كذلك حركة أنصار السلام والشيوعيين والنقابات العمالية، توصلت الى تشكيل قيادة ميدانية ضمت الحزبين الوطني الديمقراطي والاستقلال والاستاذ عبد الوهاب محمود ممثلا لحركة انصار السلام والرفيق عامر عبد الله عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وهو الرفيق العلني الوحيد من اعضاء القيادة آنذاك الذي كان ممثلا للحزب الشيوعي العراقي، في مذكراته ان كافة قادة الحزب كانوا وسط تظاهرات الجماهير بما في ذلك هو الذي كان يسير على رصيف الشارع الى جانب التظاهرة.
في تلك الايام العصيبة، قدمت حكومة مصطفى العمري استقالتها. وفي عدة تأكيدات من عدد من الكتاب ورد ان الوصي كلف ارشد العمري بتشكيل الوزارة الا ان الشارع رفض ذلك التكليف اذ ان أرشد العمري تطارده الرصاصات التي أطلقتها قواته القمعية يوم كان رئيسا للوزراء عام 1946 في شهر تموز على العمال المضربين في كاورباغي والتي راح ضحيتها 16 عاملا وامرأة وطفلاً وأكثر من 30 جريحاً، فاعتذر عن التكليف بعده كلف الوصي الاستاذ حكمت سليمان وهو الثاني قد اعتذر فكلف جميل المدفعي لتشكيل الوزارة إلا أنها سقطت قبل ان تكمل يومين من عمرها.
في مذكرات بهاء الدين نوري جرى الحديث باسهاب عن تلك الاحداث خصوصا ما جرى في الايام 20-24/11/1952، ففي اليوم الثاني والعشرين اندحرت الشرطة وانسحبت من الشارع الذي اصبح تحت سيطرة جماهير الحزب الشيوعي العراقي.
اجل انسحبت الشرطة من الشارع فاستعادت الحكومة بالقوات المسلحة التي نزلت الى الشارع لحفظ الامن ولم تتعرض وبالمطلق الى الجماهير التي كانت تهتف بسقوط الحكومة واقامة الجمهورية وان الرفيقة ثمينة ناجي يوسف ومن على ظهر دبابة قرأت قراراً بتشكيل حكومة يرأسها الاستاذ كامل الجادرجي من اجل ان تفرض وبضغط من الشارع على الوصي، وهذا ما يؤكده الرفيق ثابت حبيب العاني في مذكراته وانه شاهد الرفيقة مبجل بابان تقف على ظهر الدبابة الى جانب الرفيقة ثمينة وهي تقرأ البيان الذي أصدرته «الجبهة الوطنية» والذي يطالب النظام بتلبية مطالب الشعب والذي اقر في الاجتماع الذي عقدته الجبهة وقد قابلت الجماهير ذلك الموقف من القوات المسلحة بالاعتزاز وترديد الهتاف المعروف «عاش تضامن الجيش ويه الشعب».
ان الاستقالات المتعاقبة تركت فراغاً في السلطة، وفي المذكرات المشار اليها يجري التأكيد على ان الجبهة الوطنية ناقشت موضوع الفراغ هذا فقررت السعي لملئه من خلال السعي لتشكيل حكومة شارع يجري الضغط على الوصي من اجل القبول بتشكيلها. وكما يشير الرفيق عزيز سباهي في الكتاب الثاني من مؤلف (عقود) ان ذلك جاء من خلال صفة التياسر التي كان يتصف بها «بهاء» وبقرار فردي وشخصي من جانبه أتخذه وهو يسير في الشارع الى جوار التظاهرة.
المهم انه اعلن عن تشكيل الحكومة وفي مذكراته يؤكد بهاء انه جرى تداول بشأنها مع كل من محمد راضي شبر وعزيز الشيخ، أما الاستاذ كامل الجادرجي فأبدى استغرابه أنه اختير لرئاسة الوزراء دون التشاور معه وأخذ وجهة نظره.
أما الرفيق ثابت حبيب العاني فقد ذكر في مذكراته ان بيان الجبهة والاعلان على تشكيل الحكومة جاء متأخراً.
ولو أخذنا بوجهة النظر هذه فماذا كان سيكون لو جاء الاعلان عن البيان وتشكيل الحكومة متقدما وبالترابط مع الموقف الايجابي للجيش الذي كان عليه في اليوم الاول من نزوله للشارع بديلاً عن الشرطة التي انسحبت من الشارع؟ هل كانت ستنطبق عليها مواصفات الحكومة الثورية المؤقتة التي تحدث عنها لينين ومن أنها تنبثق من الانتفاضة وتشكل جهاز الانتفاضة؟
أنا هنا لا اعتقد ذلك لأن شروط نضوج الوضع الثوري الموضوعية والذاتية لم تكن متوفرة آنذاك. فهذا الرفيق ثابت العاني يذكر في الصفحة 103 من مذكراته ان تعداد منظمة الحزب الشيوعي العراقي آنذاك لم يتعد الخمسين عضوا، فأي نضوج للعامل الذاتي وعدد رفاق منظمة الحزب بهذا الحد؟
لقد عرقل المناشفة عام 1905 تشكيل الحكومة الثورية المؤقتة الذي دعا له لينين في الثورة الروسية الاولى فسهلوا مهمة قيصر روسيا في مواجهة الثوار وقمع الثورة بينما جاء انحياز القوة الجوية الايرانية في شباط 1979 وسحب لواء الخالدين «الحرس الامبراطوري» من الشارع بقرار من رئيس الوزراء شاهبور باختيار احد أقطاب المعارضة الايرانية الاربعة الذين وقعوا عام 1977 على ما أتذكر على مذكرة قدموها للشاه يستعرضون فيها الأوضاع المزرية في ايران ويطالبون فيها بأجراء اصلاحات جذرية في ادارة الدولة وسياستها والذي عينه الشاه رئيسا للوزراء يوم غادر ايران هو وزوجته الامبراطورة فرح بهلوي، الى مصر ليحل ضيفا على الرئيس المصري القتيل محمد انور السادات، جاء عاملا مساعدا لنجاح قرار الخميني بتشكيل حكومة بازركان في مواجهة حكومة شاهبور باختيار خصوصا وان النظام كان في حالة اندحار وانهيار وانكسار. كل هذا جرى في الايام التي سبقت اليوم 23/11. وعن كل ما جرى كتب الرفيق عامر عبدالله مقالا مطولا عام 1977 على ما أتذكر، وعلى صفحات جريدة «طريق الشعب».
اشار الرفيق الى احداث 22/11 وكيف انسحبت الشرطة من الشوارع وسيطرة الجمهور عليها.
الناس اخذت ترقب ما سيتخذ النظام من اجراءات. ومن قبيل الاحتراز غير مكان مبيته تلك الليلة (22-23/11). تلك الليلة اصدر الوصي قراره بتكليف رئيس الاركان الفريق نور الدين محمود بتشكيل الوزارة والذي باشر فوراً بنشر الجيش في شوارع العاصمة وأعلن الاحكام العرفية في البلد وباشرت الأجهزة القمعية بحملة اعتقالات شملت حتى مسؤولين في الاحزاب السياسية ومنهم الاستاذ كامل الجادرجي، وحل الاحزاب المجازة والغاء اجازات صحف تلك الاحزاب، وحل النقابات العمالية كذلك.
وفي صباح اليوم 23/11 تصدت القوات المنتشرة في الشوارع الى المتظاهرين باطلاق الرصاص لتفريقهم.
الرفيق ثابت العاني يذكر ان الرصاص كان يطلق الى الاعلى بينما يشير الرفيق عزيز سباهي في الصفحة 70 من الكتاب الثاني من (عقود) الى ان القوات كانت تطلق الرصاص على صدور المواطنين مباشرة وسقط الكثير من القتلى والجرحى.
انا هنا اميل الى الرأي الذي يقول بأن الجيش عندما يضطر الى الرمي فانه الى الاعلى فقط وتجنب ايذاء المتظاهرين. وان ما يشير له الرفيق عزيز سباهي في مؤلف عقود كان حالة منفردة وقعت أمام باب وزارة الدفاع إذ جرى أطلاق النار على المتظاهرين يوم 23/11 وبحضور الحاكم العسكري الزعيم عبدالمطلب الأمين الذي عينه رئيس الاركان نور الدين محمود الذي كلف بتشكيل الوزارة الجديدة ومعالجة الوضع القائم الأمن. ومنتسبي الاستخبارات العسكرية ورجال الانضباط العسكري كانوا في الشارع، فالا يمكن ان يكون بعض هؤلاء قد أطلق النار على المتظاهرين دون ان يكون هناك ايعاز بذلك؟
المعروف عن الزعيم عبد المطلب الأمين الذي اصبح فيما بعد لواءً ومعاوناً لرئيس اركان الجيش تكتمه على نشاطات الضباط الاحرار وعدم ايصالها الى الجهات الأعلى منه وتحذير من يصبح منهم ضمن دائرة الضوء كي يكون حذرا.
ان نقله من منصب معاون رئيس الاركان ليكون وزيرا مفوضا في اندونيسيا مؤشر الى ان النظام كان يشك بولائه. واعتقد من المفيد هنا ايراد انطباع صبحي عبدالحميد عنه الذي ورد في مؤلفه اسرار ثورة 14 تموز 1958 في الصفحة 31 اذ يقول انه «انسان طيب ومخلص ووطني وعلى علاقة وثيقة مع المقدم رفعت». المقصود رفعت الحاج سري.
عليه لا يمكن لرجل بهذه مواصفاته ان يأمر باطلاق الرصاص القاتل على صدور المتظاهرين والتسبب باستشهاد بعضهم واصابة البعض بجروح.
هناك مسألة هامة ينبغي ان لا نغفل عنها وهي ما دار في جلسات المحكمة العسكرية العليا الخاصة - محكمة الشعب- والاحكام التي اصدرتها بحق المتهمين الذين احيلوا اليها.
باستثناء الضابطين عمر علي - قائد الفرقة الاولى- وغازي الداغستاني لم تجر محاكمة اي ضابط من ضباط الجيش متهماً بالاساءة الى الشعب. وحتى الضابطين المشار اليهما فأن التهم الموجهة اليهما كانت التمرد صباح يوم الثورة بالنسبة لعمر علي، وقيادته لعملية التآمر على الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 بالنسبة الى الداغستاني.
ان من حوكم امام محكمة الشعب بسبب التصدي لتظاهرات العراقيين واطلاق الرصاص عليها والتسبب باستشهاد مواطنين عراقيين سواء كان في الشارع او داخل السجون هم اربعة أشخاص فقط: وزير الداخلية سعيد قزاز، مدير التحقيقات الجنائية - الأمن العام - بهجت العطية، مدير السجون العام عبدالجبار ايوب، وعبدالجبار فهمي - مدير شرطة بغداد، ومعروف ان المحكمة اصدرت بحقهم حكم الاعدام الذي نفذ فجر اليوم العشرين من ايلول/ 1959.
مما تنبغي الاشارة له حول حالة «التآخي والتعاطف بين الجنود والمتظاهرن» التي شاهدها بعينه في انتفاضة تشرين 1952 وكتب عنها في مذكراته الوزير السابق عبدالكريم الازري، هي حالة دائمة وليست صفة من صفات انتفاضة 1952 فقط، أنها حالة ملازمة للجيش العراقي واذكر اي تعاطف وتعاون ذلك الذي تم في مواجهة فيضان نهر دجلة عام 1954.
آنذاك كنت طالباً في المتوسطة الجعفرية، ولاكثر من مرة تركنا الدروس وتوجهنا الى السدة لمساعدة الجيش، واتذكر جيدا بأي مرح كان الجنود والضباط يستقبلوننا.
عام 1956 وانا بانتظار موعد التحاقي بكلية الضباط الاحتياط الذي تحدد موعده صباح 15/12/1956 كنت اتجول لساعات وساعات في شوارع مدينتي الكوفة والنجف وأشاهد بعيني علاقات المودة بين الجيش واهالي المدينتين وفي احدى الأماسي كنت والوالد في ضيافة للشيخ محسن عوينة واتذكر ان عمتي - والدة الشهيد حسن عوينة- في مقارنة بين حالة مدينة النجف في تلك الانتفاضة وانتفاضة عام 1952 انها أعادت الفضل في عدم وقوع ضحايا في مدينة النجف مثلما جرى عام 1952، الى قوات الجيش الموجودة في المدينة والتي كما علمت لاحقا كان الفوج الثالث من اللواء الرابع عشر والذي كان آمره آنذاك العقيد الركن عبدالوهاب عبدالملك الشواف.
عام 1958 صباح 6 كانون الثاني، الذكرى السنوية لتأسيس الجيش العراقي كنت احد اربعة ضباط يتقدمون القطعات المستعرضة في مدينة الديوانية بعد أداء مراسيم التحية من أمام المنصة حيث يقف كل من قائد الفرقة والمتصرف والتي أقيمت الى جوار بناية المتصرفية «المحافظة القديمة؟» وعبور القطعات الى الجانب الثاني من المدينة في طريقها اى المعسكر، واتذكر جيدا ذلك الجمهور الذي احتشد على جانبي الشارع الذي استقبلنا بالتصفيق والهتاف بحياة الجيش وزغاريد النسوة.
وقد حدثني عديدون حول التنسيق الذي كان يجري بين الضباط الاحرار في معسكر الديوانية وفلاحي الريف المجاور لمدينة الديوانية الذين انتفضوا بوجه النظام الملكي واستمروا في انتفاضتهم حتى سقوط النظام في ثورة الرابع عشر من تموز 1958.
وفي الرابع عشر من تموز 1958، أنا كتبت لعدة مرات على صفحات طريق الشعب تحت العنوان «ذكريات تموزية» عن ذلك السيل الجارف لجماهير بغداد التي انتشرت في شوارع بغداد وهي تهتف للجيش، للثورة واتذكر جيداً وأنا كنت يومها وقبل طلوع الشمس متواجدا في شارع الرشيد بين الثوار الذين كانوا يهتفون سوية «هذا اليوم ألچنه نريده».
وهكذا انتهت احداث تلك الانتفاضة المجيدة لشعبنا والتي وان لم تستطع اسقاط النظام الا انها قبرت في المهد «معاهدة الدفاع عن الشرق الاوسط» والتي لم تر النور مطلقا، كما أنها أجبرت النظام على تعديل قانون الانتخابات وجعلها تجري بمرحلة واحدة بعد ان كانت تجري بمرحلتين.
لقد كانت الانتفاضة ابنة ظروفها والتي فجرتها احداث كلية الصيدلة. الا ان مجريات الأمور في الشارع طرحت على بساط البحث مسألة تغيير حالة النظام باعتباره معاديا للديمقراطية خاضعاً للسيطرة الاستعمارية مسؤولا عن التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلد.
ومن المفيد ان اثبت هنا وجهة نظر عبدالكريم الازري وهو شخص استوزر لعدة مرات وزيراً للمالية، فقد ورد في مذكراته الصفحة 394:
«بقي منظر التآخي والتعاطف بين الجنود والناس المتظاهرين عالقا في ذهني وصرت افكر في مصير الحكم القائم في العراق ذلك الحكم الذي كانت تفصل بينه وبين الناس هوة سحيقة من الشكوك وانعدام الثقة والذي لم يحاول في يوم من الايام ان يردم هذه الهوة، بل بقي ممعناً في سياسته القائمة على التخوف من الناس والتشكيك بهم واضعا جل اعتماده في البقاء والاستمرار في الوجود على القوات المسلحة وكأنها ليست جزءا من هؤلاء الناس، وصرت أفكر ماذا سيحل في الحكم اذا ما تخلت يوما ما هذه القوات المسلحة او الجزء الفاعل منها عن ولائها له. وقلت لنفسي آن لهذا الحكم ان يعيد النظر في موقفه وان يقلع عن فرض سياسته على الناس بالقوة وان يقتنع بأن الاعتماد على القوات المسلحة وحدها في فرض سياسته أمر محفوف بأكبر المخاطر»ان التخوف من الناس والتشكيك بهم كان هو الصفة البارزة التي كان يتميز بها الحكم في العراق منذ اول تأسيسه.
اما انتفاضة شعبنا في تشرين الثاني عام 1956 فلها قصة أخرى.
عام 1955 على ما أتذكر ومن اجل توفير الاسلحة الجيدة للقوات المسلحة المصرية التي لم تكن تستطيع الحصول عليها من ترسانة الاسلحة الغربية والتي حتى لو حصلت عليها فأنها تأتيها بلا عتاد مثلما جرى في العراق يوم زودونا بكمية من مدافع الهاوزر ولم يصل معها غير ثلاثة قنابل فقط وشاهدتها بنفسي عام 1957 وهي تقف في معسكر الوشاش تشكو حالها او دبابات السنتوريون الامريكية العتيقة التي استحقت ان يضيف الطلاب لأغنيتهم الشهيرة التي كانوا يرددونها في سفراتهم (صل على النبي صل على النبي مالح وطيب لبلبي) مقطعاً خاصا يقول «انطونه دبابات صل عالنبي عتك وخربانات صل عالنبي»
اقول عام 1955 كما اتذكر قررت مصر كسر احتكار السلاح ووقعت مع تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية صفقة اسلحة تشتري بموجبها كمية من الأسلحة المتطورة وهذا ما اغضب دوائر السي اي اي والحكومات الاستعمارية وخصوصا امريكا وبريطانيا وتابعتهما اسرائيل. فحرضوا صندوق النقد الدولي لسحب العرض الذي كان قد قدمه الى مصر لإقراضها ما تحتاج له من سيولة نقدية لتغطية نفقات انشاء السد العالي وفي منطقة اسوان.
وكرد على ذلك الموقف المؤذي لمصر اعلن الرئيس جمال عبدالناصر تأميم شركة قناة السويس الفرنسية البريطانية المشتركة من اجل تغطية نفقات انشاء السد من متراكم رسوم عبور السفن في القنال.
هذا ايضا اثار غضب الدوائر الامبريالية فاشتكت مصر الى مجلس الامن الدولي بسبب قرار التأميم وقد امضى المجلس صيف عام 1956 كله في مناقشات حامية حول الموضوع.
في تشرين الثاني، وفي خطة متفق عليها مع الحكومتين البريطانية والفرنسية اقدمت اسرائيل على شن عدوانها على مصر واقتحمت قواتها المسلحة منطقة سيناء.
ادركت القيادة المصرية ان ذلك بداية لعدوان اوسع تشنه عليها بريطانيا وفرنسا فقامت بسحب القوات المسلحة المصرية من سيناء الى الضفة الغربية من القنال في عملية انسحاب منظمة قيمت بالجيدة من قبل كل الخبراء العسكريين الذين كتبوا عن ذلك الانسحاب في حينه.
وتطور العدوان فعلا ليصبح ثلاثيا: بريطانيا، فرنسا، اسرائيل وأخذت البوارج الفرنسية والبريطانية تطلق قذائفها على مدينة بور سعيد من عرض البحر الأبيض المتوسط الذي كانت تتمركز فيه بالتزامن مع الموجات المتلاحقة للمظليين الذين تسقطهم الطائرات البريطانية فوق نفس المدينة التي خلت من القوات المسلحة المصرية ولم يعد فيها غير المقاومين الشعبيين الذين تطوعوا وفي المقدمة منهم رفاق الحزب الشيوعي المصري في المقاومة السرية لقوات الاحتلال البريطاني التي احتلت المدينة.
لقد علمت في حينه ان حكومة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر رفضت رفضا قاطعاً تزويد المقاومين الشعبيين في مدينة بور سعيد بالسلاح للدفاع عن أنفسهم ولمقاومة الاحتلال لإجبارها على الرحيل عن مدينتهم وتحريرها من دنس الاحتلال وراحت تتطلع الى ما سيفعله مجلس الأمن الدولي من اجل اجبار بريطانيا وفرنسا واسرائيل على سحب قواتهم من سيناء وبورسعيد. تلك القوات التي لم تتوقف عن اطلاق النار وتوسيع رقعة الاحتلال الا بعد ان صدر الانذار السوفيتي الشهير الذي هدد بقصف باريس ولندن بالصواريخ اذا لم توقف عدوانها على مصر وتسحب قواتها الى مواقعها الأصلية واحترام سيادة مصر واستتقلالها الوطني. تماما مثلما فعل الزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم صباح الثامن من شباط 1963 عندما رفض تسليح الجماهير الغاضبة المحتشدة امام وزارة الدفاع مستنكرة وقوع الانقلاب ومطالبة بالسلاح كي تقاوم دبابات الانقلابيين وعصاباتهم التي انتشرت في الشوارع وأخذت تطلق النار على الجماهير العزلاء.
في بلادنا، حال بدء العدوان اخذت جماهير المدن العراقية تنتفض الواحدة بعد الأخرى بوجه سلطات الحكم التي مالأت العدوان حال وقوعه واخذ نوري السعيد يطلق تصريحاته الشامتة اتجاه مصر وما تتعرض له من عدوان بغيض، ولم يكتف بذلك، بل ولم يعترض على انطلاق الطائرات البريطانية المتواجدة في مطار الهضبة في الحبانية والتوجه الى مناطق العدوان وقصف القوات المصرية، مساعدة منها للقوات المعتدية الأمر الذي اثار غضب القوات العراقية المتواجدة في الحبانية والتي كانت تشاهد بأعينها الطائرات البريطانية تتوجه الى ساحات القتال وتعود الى قاعدتها من اجل التزود بالوقود والعتاد والتوجه ثانية الى الجبهة.
لقد واجهت شرطة نوري السعيد وسعيد قزاز وزير داخليته آنذاك تظاهرات الشعب بالعنف واطلاق الرصاص القاتل على صدور المتظاهرين. في شارع الكفاح الذي كان يسمى آنذاك شارع غازي، استشهد الرفيق عواد رضا الصفار، من مدينة النجف وعضو لجنة منطقة بغداد للحزب الشيوعي العراقي وهو يهتف لمصر وضد العدوان وعندما سقط على الارض حاولت شقيقته نرجس واختها المتواجدتان في التظاهرة إخلاءه من المكان فتدخلت الشرطة ونقلته من المكان حيث دفن في مكان مجهول حتى ثورة الرابع عشر من تموز حيث عثر على مكان الدفن فنقل الرفات الى مدينة النجف ونظم له فيها تشييع مهيب شارك فيه كما أتذكر الشهيد جمال الحيدري زوج شقيقته نرجس. لقد اختلفت انتفاضة عام 1956 عن انتفاضة 1952 كونها لم تشمل المدن العراقية في وقت واحد بل كانت تتابع الواحدة بعد الأخرى وهذا ما مكن الاجهزة القمعية لوزارة الداخلية من الانفراد بها وقمعها الواحدة بعد الاخرى حيث كانت آخر المدن المنتفضة هي مدينة الحي الباسلة التي وقعت احداثها في شهر كانون الاول اذ دارت فيها معركة حقيقية بين المنتفضين والقوات الحكومية التي استقدمت من مناطق مختلفة، من لواء الكوت (محافظة واسط حاليا) لتطويق المدينة ومن ثم اقتحامها بمساعدة مسلحين عشائريين وقفوا الى جانب القوات الحكومية ونكلت بجماهير المدينة أبشع تنكيل واعتقلت الرفيقين علي الشيخ حمود وعطا مهدي الدباس عضوي قيادة منظمة الحزب الشيوعي العراقي فيها واللذين اعدما بعد محاكمة صورية من قبل محكمة عسكرية.
الشاعر الرفيق زاهد محمد رثا الشهيدين بقصيدة رائعة انتقى المطرب داخل حسن بعض ابياتها وغناها وهي تقول:

«جان الحي حلو بعيني
ورياضة تغني لي
من جنتوا بربوعه انتو
جان الوكت زاهيلي»

ومن بين شهداء انتفاضة الحي كانت الرفيقة الشيوعية أركية شويلية التي كانت مهمتها التنقل بين اماكن تواجد المقاومين لتزويدهم بالمياه. رصدها احد القناصة واطلق عليها النار فأرداها قتيلة.
الشهيد علي الشيخ حمود الذي كانت زوجته حاملا بطفل وقت اعدامه فاوصاها بتسمية المولود ان كان ذكرا باسم الشهيد عطا وهذا ما تم فعلا وأكده لي الرفاق زكي الطرفي وحسن هويش عندما كنا سجناء في سجن الكوت عام 1961 وكذلك الرفيق هاشم جلاب عندما جمعتنا الايام في غرفة واحدة في سجن بعقوبة عام 1963.
بكر النظام هذه المرة باللجوء الى القوات المسلحة وزجها في الشارع في مواجهة الانتفاضة واعلان الاحكام العرفية. وقد علمت من العقيد عبدالوهاب الشواف شخصياً عام 1957، عندما نسبت الى الفوج الثالث من اللواء الرابع عشر بعد اكمالي فترة الدراسة والتدريب في كلية الضباط الاحتياط منتصف الشهر السادس من العام 1957 وكان هو آمراً للفوج ، بانه الفوج الذي ارسل الى مدينة النجف ايام الانتفاضة التشرينية 1956، ومعلوم ان تلك القوات لم تطلق ولا طلقة واحدة على التظاهرات في مدينتي النجف والكوفة, بل كانت تراقبها من بعيد فقط. ذات مرة قرأت استذكارا لاحد الأخوة حول انتفاضة تشرين 1956 في مدينة النجف وما لفت نظري حينها ان الكاتب ذكر ان الشواف لم يأمر باطلاق النار على المتظاهرين خوفا . من ان تفتك به الجماهير الغاضبة.
أنا هنا لست في موقع الدفاع عن شخص الشواف ولكن الحق ينبغي ان يقال فقد رأيت في حينه والان ايضا اقول ان ذلك الطرح كان تجنيا على الرجل, فهو لم يأمر باطلاق النار على المتظاهرين ليس من موقع الخوف على نفسه كما ورد، بل من وطنيته. نعم من وطنيته فالرجل كان آنذاك عضوا في منظمة الضباط الأحرار واصبح عضوا في لجنتها القيادية عندما تم توحيد منظمات الضباط الاحرار المتعددة في منظمة واحدة عام 1957 واختير الزعيم عبدالكريم قاسم رئيسا لها. وكل من كتبوا عن ثورة 14 تموز ومقدماتها أشاروا الى المحاولات الثلاث التي قام بها عبدالوهاب الشواف أوائل عام 1958 لاسقاط النظام الملكي بعد ان نقل الى معسكرات بغداد في الشهر السابع عام 1957.
ان لجوء النظام الملكي للاستعانة بالجيش في مواجهة الشعب سواء في 1952 في 1956 كان درس نافع لفصائل الحركة الوطنية العراقية لاستمالة الجيش الى جانب الشعب من أجل اسقاط النظام الملكي واعلان الجمهورية الأمر الذي تحقق في 14 تموز 1958.