مدارات

الاقتصاد السياسي لموازنة 2015 في العراق */ د. صالح ياسر

اخيرا، وبعد شدّ وجذب وكباش سياسي، صوّت مجلس النواب العراقي على مشروع موازنة 2015 قبل نهاية شهر كانون الثاني الماضي، وبهذا نجح المجلس في أداء احدى اهم مهامه، وفي تجاوز الخلل الكبير الذي شاب عمله في الدورة السابقة، عندما فشل في تشريع قانون الموازنة لعام 2014. هذا مع العلم ان مشروع قانون موازنة 2015 تأخرت إحالته من طرف حكومة الدكتور حيدر العبادي، التي لم تتوصل هي نفسها إلى اقراره إلا بعد مخاض وإثر مراجعة أكثر من مرة لتخمينات الايرادات المعتمدة فيه، نتيجة الانخفاض المتواصل في اسعار النفط العالمية خلال الاشهر الاخيرة، حتى استقر في النهاية اعتماد سعر 56 دولارا للبرميل، وحجم صادرات قدره 3.3 مليون برميل يوميا.
   وخلال الفترة السابقة حدثت تطورات كثيرة، وهذه التطورات ولدّت وقائع جديدة وعناصر جديدة، وخلقت شروطا جديدة، تسمح لنا بالاستنتاج بأننا دخلنا مرحلة جديدة في الصراع الدائر حول أفق التغييرات المطلوبة، وطبيعتها، وقواها المحركة وتناقضاتها الملموسةوأشكال تجلي تلك التناقضات بما فيها التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية.
   ومن المؤكد ان فهم هذه التناقضات وحركتها وتفاعلاتها وترتيبها ترتيبا صحيحا سيكون قاصرا اذا لميبدأ من الاساس الاقتصادي وما طرأ من تغيرات على مستوى القوى المنتجة وطبيعة علاقات الانتاج وفي بنية الطبقات الاجتماعية والعلاقات فيما بينها بما يمكن من رصد الاصطفافات الجارية على الجبهة الاقتصادية وانعكاساتها على البناء الفوقي في اطار العلاقة المتبادلة والوحدة الجدلية بين المستويين.
   لذا فإنه وقبل الدخول في التفاصيل الخاصة بارقام موازنة 2015 ودلالاتها الاقتصادية – الاجتماعية نحتاج الى ان نمر سريعا بالاوضاع الاقتصادية العامة التي تعيشها البلاد.
أولا: المعالم الاساسية للمشهد الاقتصادي الراهن
   على المستوى الفعلي، ودون الدخول في التفاصيل، تتمثل المعالم الاساسية للمشهد الاقتصادي الراهنفيما يلي:
المعلم الاول:تفاقم الاختلالات الهيكلية للاقتصاد العراقي.
ويتجلى ذلك في عدة مؤشرات من بينها:
- المؤشر الاول: انحسار القدرات الإنتاجية وتراجع مساهمة القطاعات السلعية (من غير قطاع النفط الخام) في توليد الناتج المحلي الاجمالي (جدول رقم 1).
   فمثلا يلاحظ تواصل ضعف بل تدهور قطاعات الإنتاج المادي وخصوصا قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية وتدني وتائر نموهما، حيث لا تشكل حصة الصناعة التحويلية في الناتج الاجمالي في عام 2013 سوى 2.7% في حين تبلغ حصة الزراعة 4.0% فقط. وفي عام 2010 بلغت نسبة مساهمة القطاع الزراعي 5% والقطاع الصناعي 2.3% في الناتج المحلي الاجمالي [1].
جدولرقم (1)
الناتج المحلي الاجمالي للعراق حسب الانشطة الاقتصادية للفترة 2010-2013 بالاسعارالجارية
(مليون دينار)


2010

2011

2012

2013

القطاع

المبلغ

الاهمية النسبية %

المبلغ

الاهمية النسبية %

المبلغ

الاهمية النسبية %

المبلغ

الاهمية النسبية %

الزراعة والأسماك والصيد وصيد الأسماك

8657.4

5.0

8808.6

4.2

9990.7

4.1

10742.4

4.0

النفط الخام

73990.6

43.0

116184.9

54.7

130064.4

52.4

126750.5

47.0

الصناعات التحويلية

3916.5

2.3

3879.9

1.8

4221.5

1.7

7288.0

2.7

الكهرباء والماء

1979.8

1.1

2671.6

1.3

3112.9

1.3

3991.1

1.5

البناء والتشييد

6010.5

3.5

10486.2

4.9

13785.6

5.6

22738.5

8.4

النقل والمواصلات

19415.2

11.2

10323.6

4.9

11582.9

4.7

15063.3

5.6

تجارة الجملة والمفرد والفنادق

14940.2

8.6

13941.6

6.6

15626.4

6.3

17688.3

6.6

المال والتأمين وخدمات العقارات والأعمال

16310.0

9.4

18075.7

8.5

21506.7

8.7

22143.2

8.2

خدمات التنمية الاجتماعية والشخصية



27459.4



15.9

27882.2

13.1

36527.8

14.8

43242.5

16.0

المجموع حسب الانشطة





212254.9

100.0

246418.9

100.0

269647.8

100.0

ناقصا رسم خدمة المحتسب





945.0

100.0

1484.7

100.0

2252.2



مجموع الناتج المحلي الإجمالي

171957.0





211309.9



251907.7



267395.6



المصدر: من اعداد الباحث استنادا الى المعطيات الواردة في:
-         وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات 2010.
-         التقرير الاقتصادي السنوي للبنك المركزي العراقي لعامي 2012 و 2013 .
       وما يثير الانتباه ان خطة التنمية الوطنية 2010-2014 اعتبرت الصناعة التحويلية احد الانشطة المستهدفة لتنويع الاقتصاد الوطني، إلا ان المخصصات الفعلية للسنوات 2010، 2011، 2012، 2013 كانت منخفضة حيث بلغ المخصص الفعلي للاستثمار الحكومي للسنوات الاربع للصناعات التحويلية (3.52%) علما ان نسب التنفيذ كانت متدنية ايضا حيث بلغت (23.3%) من المخصص الفعلي[2].
- المؤشر الثاني: وعلى اساس هذا الواقع المختل حظي قطاع الخدمات بالنصيب الاكبر في الناتج المحلي الاجمالي بعد القطاع النفطي اذ يشكل حوالي اكثر من 20% من مكونات ذلك الناتج (على سبيل المثال بلغ 22.1% في عام 2013 بعد ان شكل 20.3% في عام 2011 و 22.2%). وباستبعاد قطاع النفط من تركيب معادلة الاقتصاد الوطني ترتفع مساهمة قطاع الخدمات في تكوين الناتج المحلي الاجمالي الى نسبة تزيد على 41.3% منه. واذا اضفنا حصة الانشطة التوزيعية والتي بلغت 26.8% لبلغت حصة الاثنين (قطاعي الخدمات والتوزيع) 68.1% من الناتج المحلي الاجمالي بدون النفط (انظر الجدول رقم 2 ) مما يؤشر الى ان الاقتصاد العراقي لم يعد اقتصادا ريعيا فقط بل بات ايضا اقتصادا خدميا - توزيعيا ضعيف الإنتاج. هذا مع العلم ان خطة التنمية الوطنية 2013 – 2017 تشير ان حصة قطاعي الخدمات والتوزيع ستستمر في الارتفاع لتبلغ 74.6% في عام 2017 [3].
جدول رقم (2)
الاهميةالنسبيةللانشطةالاقتصاديةفيتوليدالناتجالمحليالاجماليمعالنفطوبدونه
بالاسعارالجاريةللاعوام 2012- 2013
الانشطة       

2012 %

2013 %

الانشطةالسلعيةمعالنفط

66.0

63.6

الانشطةالسلعيةبدونالنفط

32.0

31.9







الانشطةالتوزيعيةمعالنفط

11.8

14.3

الانشطةالتوزيعيةبدونالنفط

23.6

26.8







الانشطةالخدميةمعالنفط

22.2           

22.1

الانشطة الخدمية بدون النفط

44.4           

41.3

المجموع

100.0%

100.0%

المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للاحصاء وتكنولوجيا المعلومات.
وتأتي خطورة مثل هذا الإختلال بالاتجاهات التالية:
أ‌- سيادة القطاع الخدمي والتوزيعي دون توافر جهاز انتاجي متطور ومرن، مما يعني توليد دخول نقدية تمثل قدرات شرائية تزيد من ضغوط الطلب.
ب‌- الانفاق الاستهلاكي المتزايد دون استجابة مناسبة من الجهاز الانتاجي المحلي قد يصبح القوة الدافعة لنمو الضغوط التضخمية التي تترك اثارها النسبية على حركة الانتاج و مستويات المعيشة وقدرات الفرد الشرائية.
ج. والاهم من ذلك ان هذه النسب تفسر استمرار تدني الجهاز الانتاجي وعدم مرونته للاستجابة للطلب المتزايد على السلع في السوق المحلية مما ادى الى ارتفاع حصة السلع المستوردة بالمقارنة مع حجم السلع المحلية.
المعلم الثاني: تعاظم الطبيعة الريعية والأحادية الجانب للاقتصاد العراقي.
   ويتجلى ذلك بازدياد اعتماده على الريوع النفطية، التي تمثل، في المتوسط، أكثر من 90% من ايرادات الموازنة العامة، وحوالي 60% من الناتج المحلي الاجمالي (وحسب بعض التقارير الصادرة عن منظمات دولية يشكل 65 بالمئة).
   وبمقابل ذلك يلاحظ ضالة الايرادات غير النفطية حيث كانت في عام 2011 لا تزيد عن 1.2 في المائة و 2.61 في المائة في عام 2012 و 6.89 في المائة في عام 2013، علما ان ضمور المصادر غير النفطية كالصادرات غير النفطية والايرادات الضربية تواصل ففي تقديرات موازنة 2014 بلغت نسبة مساهمة ايرادات النفط في اجمالي الايرادات أكثر من 93%، على الرغم مما يعلن منذ سنة 2004 عن ان الدولة تتجه الى تنويع مصادر الدخل، والابتعاد عن التبعية المفرطة لقطاع النفط. وهذا يعني ان النفط ما زال يعد المحرك الرئيسي للنمو وسيبقى كذلك لامد طويل في ظل البنية الراهنة للاقتصاد العراقي.
   ان هيكلية الموارد اعلاه تعكس حقيقتين:
الاولى: الطبيعة الاحادية الريعية للاقتصاد العراقي حيث شكلت العوائد النفطية الجزء الاعظم في الايرادات.
الثانية وتعكس الضعف في نظامنا الضريبي وفي نشاط بقية القطاعات الاقتصادية.
المعلم الثالث: اما من جهة النفقات، فيتأكد الطابع التوزيعي للتصرف بالريع النفطي.
فقد مثّل مجموع تخصيصات القطاعين الزراعي والصناعي نسبة 3.3% عامي 2012 و2013 لتنخفض إلى 3.1% من النفقات الاجمالية في تقديرات موازنة 2014. واستمر قطاعا الطاقة (النفط والكهرباء) والأمن يحظيان بالاولوية مستحوذان على 21.3% و14.2% على التوالي من اجمالي تخصيصات موازنة 2013 و 22.3% للطاقة و12,6% للامن والدفاع في تقديرات موازنة 2014.
   وما يثير الانتباه انه وخلال السنوات 2004-2014 تم تخصيص ما يزيد على 160 مليار دولار للنفقات الاستثمارية للوزارات والمحافظات والاقليم، من خلال الموازنات العامة، ولكن الغالبية العظمى للمشاريع الحكومية تعاني من التلكوء وسوء التنفيذ أو عدمه، ونسب انجاز متواضعة لآلاف المشاريع سواء فيما يتعلق باعمار وتطوير البنى التحتية المادية، كشبكات الطرق والمجاري والصرف الصحي والكهرباء والماء وغيرها، ام بالبنى التحتية المتعلقة بالخدمات الاجتماعية والاساسية في مجالات التعليم والصحة والثقافة. ويشهد على ذلك ضعف وتهالك البنى التحتية، ورداءة انجاز الجديد منها.
   والاسباب في ذلك عديدة، في مقدمتها ضعف القدرات الادارية والتنظيمية والفنية وشحة الكفاءات في الآجهزة والمؤسسات الحكومية وترهلها، وتخلف البنى التحتية وما يترتب عليه من تدن في الطاقة الاستيعابية للاستثمار، فضلا عن استشراء الفساد الأداري والمالي ليصبح "مؤسسة" يشار لها بالبنان!!.
   ومن المفيد الاشارة الى انه وعلى مدى السنوات الماضية، لم تكن ضآلة المنجز وتعمق الاختلال البنيوي في الاقتصاد العراقي بمعزل عن استمرار السياسات والنهج السياسي والاقتصادي، المفتقر إلى الرؤية والوجهة الواضحتين، اللتين توفران شروط تحقيق تنمية اقتصادية اجتماعية متوازنة.
المعلم الرابع: تفاقم مستويات الفقر.
فقد كشفت المسوحات الإحصائية الاقتصادية والاجتماعية التي أجريت خلال العامين الأخيرين من طرف عدة مؤسسات (ارقامها متضاربة طبعا) من بينها وزارة التخطيط العراقية أن حوالي ربع السكان يعيشون تحت خط الفقر.
   وحسب المعطيات الاحصائية المثبتة في خطة التنمية الوطنية 2013-2017 فان نسبة السكان الذين يقل دخلهم اليومي عن 2.5 دولار يبلغ 11.5% من مجموع السكان (حوالي ثلاثة ملايين ونصف مواطن في بلد تفوق عوائده النفطية الـ 100 مليار دولار) في عام 2011، بعد ان كان يشكل 13.9% في عام 2007. علما ان هذه النسبة تتفاوت من محافظة الى اخرى، فمثلا بلغت في المثنى 29.4% وفي ذي قار 37.9% وفي البصرة 16.1% علما ان هذه المحافظة تنتج حوالي 60% من اجمالي الانتاج النفطي في العراق. علما ان هذه النسبة قد ازدادت بوتائر مضاعفة بفعل موجات النزوح بسبب اجتياح داعش منذ حزيران 2014.
المعلم الخامس: استمرار المعدلات المرتفعة للبطالة على خلفية تعطل القسم الأعظم من الإنتاج الصناعي والأنشطة الإنتاجية الأخرى وعدم وجود استراتيجية تنموية تعرف أهدافها بوضوح.
   يبدو تأثير البطالة أكثر وضوحا على الشرائح الشبابية (ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً) حيث تجاوزت نسبتها الـ 57%. كما تبقى النسبة مرتفعة بين النساء، حيث تتجاوز الـ 33 في المائة. هذا مع العلم انه ووفقا لآخر تقرير رفعه ممثل الامين العام للأمم المتحدة لحقوق الانسان في العراق (فالتر كالين)، فان نسبة البطالة في البلاد تجاوزت 28 في المائة في حين تشير التقديرات الى ان البطالة الناقصة (العمل بساعات قليلة، أي اقل من 35 ساعة في الاسبوع الواحد) قد يتجاوز الـ 30 في المائة. فيما يقدر البنك الدولي نسبة البطالة بحوالي 39%. أما وزير العمل والشؤون الاجتماعية في الحكومة السابقة، نصار الربيعي، فقد أكد في 16/5/2014 ان نسبة البطالة في العراق "تتجاوز 46% من عدد سكانه" واعتبر ذلك امرا خطيرا [4]. وبهذا يمكن القول ان البطالة لا تزال تشكل احدى التحديات الكبرى التي تواجه عملية التنمية في العراق في ظل واقع اتسام السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة بغياب الرؤى والستراتيجيات والسياسات الموحدة للدولة في مجالات التنمية والمالية وغيرهما، وبالإضعاف القسري لدور الدولة، وخاصة ما يتعلق بدورها في الميدان الاقتصادي. فيما استمرت المغالاة في تأكيد "مزايا" السوق الحرة في اقتصاد البلاد، دون معاينة للواقع الملموس واستحقاقاته، الامر الذي يعيق عملية الاعمار وإعادة بناء القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية، وكذلك الخدمية، وتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة.
المعلم السادس: التدهور المتواصل في امكانات وقدرات القطاع الخاص
   منذ وطأت اقدام الحاكم المدني الامريكي (بول بريمر) وجيوشه احتلاله الجرارة الى العراق والصراخ لا يمل حول طرد الدولة من الاقتصاد مقابل تعزيز دور القطاع الخاص حتى وصل الامر الى تثبيت ذلك في دستور 2005 ومن دون ان يكلف المتنفذون انفسهم الاجابة على سؤال عند مدى تحقيق ذلك في ظروف العراق الملموسة حيث الضعف البنيوي الذي يعانيه القطاع الخاص مقابل دور الدولة حيث هي اكبر رب عمل. ويعد هذا من المفارقات الصارخة التي انتجتها السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة منذ 2003 التي اعلنت وتعلن التزامها بالانتقال إلى اقتصاد السوق الحر. فرغم ان هذا القطاع يستحوذ على نسبة تشغيل للقوى العاملة في العراق تزيد على 85% ، مقابل 15 % للقطاع الحكومي، إلاّ إن حصته في توليد الناتج المحلي الإجمالي كانت في عام 2007 لا تزيد عن 15%، كما ان حصته في تكوين الرأسمال الثابت في العراق لا تزيد عن 4.5 % في عام 2007 وارتفعت الى (6.8%) في عام 2009 ثم انخفضت الى (3.7%) في عام 2010.
   وعلى مستوى القطاع الصناعي فانه وعلى الرغم من أن القطاع الخاص يمثل 98.3% من إجمالى عدد الوحدات الصناعية العاملة فى العراق  والبالغة17752  منشأة فى مقابل 1.5 % مملوكة للدولة،0.2% ذات ملكية مشتركة،إلا أن هذاالتوزيع لايعكس مساهمة كل قطاع فى إجمالى الإنتاج الصناعى. حيث يلاحظ أن شركات القطاع العام تمثل العمود الفقرى للقطاع الصناعى فى العراق، إذ أنها مسؤولة عن إنتاج90 % من إجمالى الإنتاج الصناعى.
   علما ان خطة التنمية الوطنية 2013-2017 تشير الى ان نسبة مساهمة القطاع الخاص في توليد الناتج المحلي الاجمالي بلغت 34.1% في عام 2010، ولا نعرف مدى صدقية هذا الارتفاع خلال 3 سنوات فقط رغم ان الكثير من مشاكل هذا القطاع ما زالت قائمة ولم تحل.
   فمثلا في بداية عام 2014 كشف (اتحاد رجال الأعمال العراقي)، "أن نحو 600 مشروع في عموم البلاد بقيمة 220 ترليون دينار لم تنفذ حتى الآن، مما تسبب في تراجع الإنتاج والإخلال بالاقتصاد العراقي، عازيا السبب إلى عدم تطبيق قانون الإدارة المالية والدين العام، إضافة إلى منح المصارف الحكومية سلفاً للموظفين بلغت أكثر من 70 ترليون دينار عراقيلم تتم تسويتها أيضا بسبب عدم تطبيق قانون الإدارة المالية والدين العام".
المعلم السابع: بينت حصيلة الفترة المنصرمة تفاقم التفاوتات الاجتماعية وتعمق الفرز الطبقي والاجتماعي.
   فقد أسهمت الوقائع أعلاه في تعميق التفاوتات الدخلية التي هي نتيجة منطقية لنوعية علاقات الملكية والسلطة، حيث يلاحظ وجود فوارق كبيرة في مستويات الدخل لصالح الفئات التي راكمت الثروة وحصلت على المداخيل العالية عبر أنشطة ريعية لا صلة لها بالإنتاج، فضلاً عن الإيرادات غير المشروعة المرتبطة بالفساد المالي والإداري.
   وتشير الحصيلة الملموسة لتراكمات آثار هذه السياسات إلى أن نمطا جديدا لتوزيع الدخل قد تبلور بوضوح صارخ ولا يحتاج الى كبير عناء للتدليل عليه. فبحسب آخر مسح متاح لدخل الاسرة في العراق، (وهو يعود الى عام 2007)، يظهر ان الخمس الأغنى من الأسر يحصل على 43% من مجموع الدخل على مستوى البلاد، بينما يحصل الخمس الأفقر على 7% منه، وتبين بيانات نسبة الفقر وجود تفاوتات شديدة فيها بين المحافظات، وبين الريف والمدينة.
   وعلى اساس الملاحظات اعلاه يمكن القول ان مجتمعنا يشهد حالة من الحراك في بنيته وتركيبته الطبقية ووزن وثقل مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية. ففي الوقت الذي تستعيد الفئات الوسطى دورها تدريجيا، لاسيما العاملة في قطاع الدولة، يتعزز دور الكومبرادور التجاري والفئات الطفيلية والبيروقراطية على حساب الكادحين وذوي الدخل المحدود.
   وتشير الحصيلة الملموسة لتراكمات آثار هذه السياسات إلى أن نمطا جديدا لتوزيع الدخل يجري الآن لصالح رأس المال وضد صالح العمل في محوره الرئيسي وهو ما يعبر عن الشكل الرئيسي للتناقض الأساسي المحرك لهذه المرحلة.
   وبالمقابل تمثل الموازنة العامة، بشقيها التشغيلي والاستثماري، مصدرا اخر للتفاوت في توزيع الدخل والثروة. فخلال السنوات 2007-2014 بلغ مجموع الموازنات التشغيلية اكثر من 437 مليار دولار (67%)، والموازنات الاستثمارية حوالي 214 مليار دولار (33%).
   وتمثل تخصيصات الرواتب النسبة الاكبر من الموازنة التشغيلية. وبسبب الاختلال في انظمة الاجور والرواتب والتقاعد، تظهر الفوارق الكبيرة بين رواتب ذوي الدرجات الخاصة وبقية موظفي الدولة. هذا الى جانب الفساد الذي يتجلى في انتشار الرشوة والتلاعب باسعار المشتريات، وفي الوظائف الوهمية، وغيرها من التجاوزات.
   وتتضافر طبعا عدة عوامل وآليات لتشديد هذا الاستقطاب والتفاوت في المداخيل والثروة. فاطلاق حرية التجارة، وغياب الضوابط، والارتفاع المستمر في حجم الاستيراد، ادت إلى ظهور فئات فاحشة الثراء بفضل تمتعها بمواقع شبه احتكارية في السوق، وتحقيقها هوامش ربح غير طبيعية، مستفيدة من غياب الضوابط المنظمة للسوق وضعف الرقابة واستشراء الفساد، ومن صلاتها بأوساط نافذة في السلطة. كما تراكمت ثروات كبيرة، بصورة غير مشروعة، لدى بعض الفئات التي استغلت حالة الانفلات الأمني بعد 2003، ولاحقاً في فترة الصراع الطائفي (2006 – 2007)، للاستحواذ على اموال وممتلكات عامة وخاصة، عن طريق التجاوز وارتكاب اعمال منافية للقانون. ويلجأ أصحاب الثروات التي جرت مراكمتها بهذه الصورة، إلى طرق وأساليب مختلفة لاضفاء الشرعية عليها، وتبييضها وإعادة ادخالها في السوق المحلية بعناوين واطر قانونية، وتوظيفها في قطاعات العقار والتجارة والمقاولات وغيرها.
المعلم الثامن: الضعف الشديد لنظام الحماية الاجتماعية واستمرار المعاناة اليومية لشرائح واسعة في المجتمع.
   تشتد هذه المعاناة بفعل العجز الفادح في ميدان الخدمات، لا سيما الكهرباء والماء، وفي ميادين الصحة والتعليم، وفي توزيع مفردات الحصة التموينية ". فمثلا تشير الاحصائيات المثبتة في التقرير السياسي للمؤتمر الوطني التاسع، الى تحديات كبيرة تواجه قطاعات الصحة والتربية والتعليم، بمؤشراتها الكمية والنوعية. كذلك معدلات تجهيز مياه الشرب، حيث لا تزيد التغطية عن 90 بالمائة في المناطق الحضرية، و 65 بالمائة في المناطق الريفية. اما في مجال الصرف الصحي فالمشكلة أكبر حيث بلغت نسبة التغطية في مدينة بغداد حوالي 75 بالمائة، وفي بقية المناطق الحضرية 30 بالمائة لا اكثر، مع حرمان كامل للمناطق الريفية منها، الى جانب النقص الواضح في التعامل مع النفايات في كافة المناطق. هذا مع العلم ان العراق لا يزال يعاني من ازمة سكن حادة وعجز كبير يصل الى ما يتراوح بين 3 و3.5 مليون وحدة سكنية.
   وتظهر احدث المؤشرات المعلنة عام 2012، ان المناطق الريفية تعاني من الحرمان بمستويات اعلى مقارنة بالمدن اذ ان درجة الحرمان تصل الى 58% مقارنة بـ 17% للحضر على وفق دليل مستوى المعيشة، مع الاشارة الى وجود احياء تعاني من الحرمان في المناطق الحضرية والتي قد تصل في حرمانها الى مستويات مقاربة الى ما هي عليه في الريف والتي تسمى عادة بفجوات الفقر الحضرية [5].
المعلم التاسع: تواصل الخلل في الجمع والتنسيق السليمين للسياستين النقدية والمالية مما ادى الى انخفاض مستوى التناغم بينهما وانعكس سلبا عليهما في التأثير على حركة المتغيرات المالية والنقدية باعتبارهما من الادوات المهمة في السياسة الاقتصادية.
ففيما يعتمد البنك المركزي توجها لتقوية العملة العراقية، ولإدامة استقرار سعر الصرف وتحديد سعر الفائدة ومكافحة التضخم، تبدو القيود التي يتبعها صارمة (اي ان السياسة النقدية المتبعة انكماشية) في مرحلة يسعى البلد فيها للنهوض والبناء، في حين تبدو السياسة المالية توسيعية نتيجة "حقن" الاقتصاد بالايرادات النفطية حيث تمحورت تلك السياسة على اعطاء الاولوية للنفقات التشغيلية. ويتطلب الامر في العموم مرونة وتناغما افضل بين السياستين النقدية والمالية، في اطار توجه استراتيجي واضح ومحدد المعالم للدولة ، وبالشكل الذي يؤمن للاقتصاد العراقي ديناميكية نمو، ويشجع الاستثمار والتصدير.
   ويمكن الاتفاق مع ما جاء في خطة التنمية الوطنية 2013-2017 حين تمت الاشارة "الى استمرار تعرض الاقتصاد العراقي لضغط الطلب الكلي الفعال والذي عمل بقوة من خلال مضاعفة الموازنة الانفاقية حيث باتت تاثيراته تفوق حدود تتوسع في السياسة النقدية نفسها مولدة فجوة تضخمية. وبهذا امست الاثار التضخمية في الموازنة العامة سمة طالما تغذيها نفقات ريعية غير خاضعة لمضاعف الضرائب" [6].
المعلم العاشر: طغيان الطابع التوزيعي والاستهلاكي على توجهات الموازنات السنوية، حيث استحوذت الرواتب والأجور والتعويضات المتنوعة والإعانات على ما بين 70 و 80 بالمائة من الموازنة التشغيلية.
فقد طغى على سياسة الانفاق الحكومي الطابع التوزيعي والاستهلاكي، وقد انعكس ذلك في احتواء جميع الموازنات السنوية على عجز تخطيطي وكذلك في نمط توزيع تخصيصات الموازنة على البنود، وقد وجد هذا التوجه ترجمته في تخصيص ما يقارب ثلاثة ارباع الموازنة من للنفقات الجارية والتشغيلية، وفي اطلاق الاستخدام الواسع في الدولة. وتشير المعطيات الاحصائية الى ان عدد موظفي الدولة ارتفع من حوالي 850 الف شخص عام 2004 الى حوالي 2,7 مليون شخص عام 2010 و الى حوالي 3 مليون شخص عام 2012، وإلى ما يقارب الاربعة ملايين موظفا ومتعاقدا حاليا هذا عدا العاملين باجور يومية والمتعاقدين، ما عدا المتقاعدين البلغ عددهم المليوني شخص تقريبا، وحوالي مليون شخص يتسلمون المعونة الاجتماعية وبالتالي فان العدد سيصل الى اكثر من 7 مليون انسان، وتبلغ المبالغ المدفوعة سنويا كأجور ورواتب وما يماثلها حوالي 45 مليار دينار. هذا اضافة المبالغة في الانفاق الترفي لوزارات ودوائر الدولة.
   لقد ارتفعت اعباء الدولة المالية المتعلقة بتغطية الرواتب والخدمات المقدمة للجهاز الاداري، وفي نفس الوقت ادت هذه الحلول الى الارتفاع في نسبة البطالة المقنعة، وتعقيد عمل الجهاز الحكومي. ولم تؤد هذه السياسة الى حل مشكلة البطالة جذريا، وانما ادت الى تعزيز اعتماد عدد اكبر من الشعب العراقي على الحكومة، وتعميق التوجه نحو سيطرة الحكومة على مصائر الشعب، ومن ثم تنامي النزعات الدكتاتورية. وفي نفس الوقت ارتفعت مطالب الجماهير من الحكومة للقيام بحل المشاكل المستعصية المتعلقة بالخدمات والفقر والبطالة والسكن وغيرها من المطالب الحياتية.
   واذا تناولنا الامور من زاوية الكفاية الانتاجية، فنجد ان القطاع النفطي الذي يهيمن على قرابة 60 -من الناتج المحلي الاجمالي وان عوائد النفط تشكل – كمتوسط - اكثر من 94% من عوائد الموازنة، نجد ان 98% من قوة العمل تشتغل في 30% من القطاعات الاقتصادية المساهمة في الناتج المحلي الاجمالي . هذا اضافة الى تنامي البطالة بوتائر متزايدة (جرت الاشارة اليها في فقرة اخرى) مما يمثل اتجاها خطيرا يؤشر ان البلاد عاطلة بقوة عن الانتاج وان الكفاية في تخصيص الموارد الانتاجية عند ادنى نقطة. وينبغي الاشارة هنا كذلك الى ان ارياف العراق التي تضم 10 ملايين نسمة او قرابة مليونين ونصف من الفلاحين والعمال الزراعيين تتعايش على البطاقة التموينية الغذائية ، وان الريف بنفسه لم يعد مصدرا قويا للعرض الزراعي وانه لايستطيع ان يسد حاجته من الغذاء الا بأقل من 30% في احسن الاحوال .
   ومن جهة اخرى فانه وحسب وثيقة (الاستراتيجية الصناعية في العراق حتى عام 2030) فان حوالى 70% من شركات القطاع العام تعمل فقط بنسبة 30-50% من طاقاتها التصميمية، هذا اضافة الى تدنى نوعية المنتجات الصناعية العراقية [7].
المعلم الحادي عشر:ونتيجة لتعمق الانفاق الحكومي الاستهلاكي، وعدم تمكن الانتاج المحلي من تغطية الحاجات الاستهلاكية بسبب تخلف القطاعين الزراعي والصناعي، فقدارتفعت استيرادات العراق من السلع والخدمات من حوالي 7.5 مليار دولار عام 2003 الى 43.9 مليار دولار عام 2010 والى 47.8 مليار دولار عام 2011، والى 75 مليار عام 2013 (انظر جدول رقم 3).
جدولرقم (3)
الاستيرادات للعراق خلال الفترة 3003-2012
السنة

الاستيرات السنوية (مليار دولار امريكي)

2003

7.516

2004

17.751

2005

22.950

2006

29.500

2007

21.332

2008

35.011

2009

41.512

2010

43.915

2011

47.803

2012

52.075

2013

75.000 *

المجموع خلال الفترة



المصدر: OPEC, Annual Statistical Bulletin 2008, 2013
* تقديرات
   وادى هذا كله الى ظهور احتكار شبه كامل للنشاطات الاقتصادية من قبل القطاع التجاري، وتشكيل فئة من التجار الطفيليين، مرتبطة مع اجهزة الدولة الادارية بمصالح متشابكة، ترعاها رجالات سياسة متنفذة تدافع عن هذه المصالح وتحميها، وتسعى بشكل جدي لاضعاف القطاعين الصناعي والزراعي.
   هذا مع العلم نسبة التجارة الخارجية الى الناتج المحلي الاجمالي في تزايد مستمر. فمثلا ارتفعت من (70.6%) في عام 2011 الى 71.5% في عام 2012. وطبيعي ان المصدر الاساسي للحصة المرتفعة للتجارة الخارجية في الناتج المحلي الاجمالي يعود الى الصادرات النفطية.
   واذا اخذنا بنظر الاعتبار بنية الصادرات العراقية التي تشكل الصادرات النفطية الجزء الاعظم منها فانه يمكن الاستنتاج ان التجارة الخارجية للعراق قد تحولت من اداة استراتيجية للتنمية الاقتصادية الى عائق للنمو واداة لتعميق التبعية.
   تعني الملاحظات اعلاه تعاظم تأثيرات العوامل الخارجية على الاقتصاد العراقي وتبعيته الكبيرة لاقتصاديات الدول الراسمالية المتطورة وما يحمله ذلك من مخاطر راهنة ومستقبلية اذا لم تتم عملية تغيير البنية الراهنة.
   وطبيعي ان هذا لن يتحقق في ظل النظام الراهن لان الخلل يكمن في بنية هذا النظام ذاته وفي طبيعة المشاريع والاستراتيجيات التي طبقت بعد 2003 والتي لا يمكن أن تنتج غير هذه البنية. وبهذا المعنى فان هذه البنية تعاني من تناقض بنيوي لا يمكن حله إلا بتفكيك نظام المحاصصات وخلق الارضية لنظام جديد هو النظام الوطني والديمقراطي في ان.
*****
   خلاصة القول، ان المعطيات السابقة تتيح القول انه والى جانب تأثير عدم الاستقرار السياسي والامني في اعاقة النشاط الاقتصادي والاستثمار وتنفيذ المشاريع فانالمعضلات الكبيرة التي تواجه الاقتصاد العراقي تكمن في ثلاثة عناصر أساسية:
-العنصرالأول: المحتوى الاقتصادي الاجتماعي لتوجهات السياسة الاقتصادية وتطبيقاتها التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ 2003 والتي يجمعها، رغم ضجيج "الاختلاف"، هدف مشترك يتمثل بالانتقال بالاقتصاد العراقي، إلى اقتصاد السوق، وهو تعبير مخفف يقصد به اقتصاد رأسمالي بصيغته اللبرالية المندمجة بالسوق والمنظومة الرأسمالية العالمية، و يُفترض ان يتحقق هذا الانتقال، كما يدعو له انصاره والمخططون له، من خلال عملية "اصلاح اقتصادي" تشمل مراجعة وتعديل منظومة من التشريعات والاجراءات والسياسات بهدف اعادة هيكلة الاقتصاد الوطني على نحو يعزز دور القطاع الخاص ويطلق العنان لعمل آليات السوق. ولكن هذه العملية تصطدم بكوابح ومعوقات موضوعية ترتبط بالضعف البنيوي للقطاع الخاص الذي يغلب عليه صفة المشروع الفردي والمنشأة الصغيرة، ودوره الهامشي في اقتصاد البلاد والتي تتجلى في ضعف مساهمته في القطاعات الانتاجية وفي الاستثمار الوطني، وبالدور المهيمن الذي يلعبه القطاع العام في الاقتصاد العراقي بحكم امتلاك الدولة لقطاع النفط وايراداته. فعلى الرغم من ان القطاع الخاص يمثل 98.3% من اجمالي عدد الوحدات الصناعية العاملة في العراق والبالغ عددها 17752 منشأة الا ان حصة القطاع الخاص في اجمالي انتاج القطاع الصناعي لا تزيد عن 10% فقط [8].
المعطيات اعلاه تطرح سؤالا ملحاحا هو: ما الذي جرى في الواقع؟ بعد أكثر من أحد عشر عاما من التغيير، لا زال الاقتصاد العراقي يعتبر اقتصاداً انتقاليا من رأسمالية الدولة الريعية المركزية إلى اقتصاد السوق الحر.
   فعلى مدى السنوات الماضية اقتصر عملياً على التشريعات الليبرالية الضامنة لحقوق الملكية والاطر المؤسسية التنظيمية والرقابية على سوقين هما: السوق المالي و السوق التجاري الذي يعتمد في تمويله على السوق المالي الحر. وقد خلق ذلك تحررا منفلتا في التجارة الخارجية يسنده تحرر مواز في السوق المالي لتأمين احتياجات التجارة مع الخارج.
   والملاحظ ان هذا التمويل يذهب لاستيراد سلع الاستهلاكية بالدرجة الرئيسية وهو يعمل باتجاه واحد، اي انتقال رؤوس أموال نحو الخارج مقابل تدفق سلع وخدمات مستوردة نحو الداخل. وفي الغالب لا يعود الرأسمال الخارج إلى الداخل مجددا بل يندمج بالسوق المالي العالمي . فاقتصاد السوق العراقي يوفر الأطر والقنوات لانتقال الرأسمال إلى الخارج مقابل تدفق سلع مستوردة تعادل قيمتها جزء من الأموال الخارجة، اي أن هذه العملية توظف لتهريب الأموال من مصادر مشروعة وغير مشروعة، اي انه يتم استيراد سلع قيمتها وكميتها الفعلية اقل من الأموال التي يجري تحويلها إلى الخارج، ويتم الاحتفاظ بالفرق في المصارف أو في توظيفات أخرى خارج العراق [9].
وقد بيّنا في الجدول رقم (3)أن حوالي ثلاثة ارباع (اي72.5 بالمائة في المتوسط) العوائد النفطية تعود الى الخارج مقابل السلع والخدمات المستوردة.
- اما العنصر الثاني فيتمثل بصراعات وتشظيات نظام المحاصصة الذي يقف حائلا دون بلورة وانتاج رؤى وتصورات مشتركة وموحدة واضحة ومنسجمة تؤطر سياسة الدولة وخطط وبرامج عملها وتشريعاتها، ما ينعكس على شكل تخبط في القرارات السياسية الاقتصادية وفي سوء استخدام وتوظيف الموارد النفطية وتوزيعها بشكل عادل وكفوء وفي عدم القدرة على تنفيذ خطط التنمية والاستراتيجيات القطاعية وبرامج "الاصلاح الاقتصادي".
- العنصر الثالث ويتعلق بالمرجعية الفكرية للمشروع الذي طبق بعد 2003. لابد من التأكيد على ان الملامح الحالية للاقتصاد العراقي تجد جذورها في السياسات المستوحاة من مرجعية الفكر النيوليبرالي والهادفة إلى الانتقال بالاقتصاد العراقي إلى اقتصاد السوق والخصخصة دون قيد او شرط. وقد شرّعت بذلك السلطة المدنية للاحتلال برئاسة الحاكم المدني (بريمر) باصدار تشريعات للاسراع في تحقيق الانتقال إلى اقتصاد السوق، وذلك بـ "تحرير" التجارة الخارجية من اية ضوابط وقيود، وكذلك اطلاق حرية انتقال رؤوس الأموال والتدفقات المالية إلى الخارج وتحرير اسعار الفائدة والائتمان المصرفي وبناء مؤسسات سوق المال وتشريع استقلالية البنك المركزي. وكنت قد عالجت في دراسة سابقة نشرت في تموز 2003 مشروع (بريمر) هذا وقدمت ملاحظات نقدية حولة ولا اجد ضرورة للتفاصيل هنا بل يمكن العودة لهذه الدراسة لمعرفة المكشوف و "المستور" في هذا المشروع [10].
   لقد افضى ذلك النهج الى جملة من الاثار والنتائج، من بينها الخمس التالية:
·        تنامي معدلات البطالة وبالتالي المساهمة في خلق جيش احتياطي متزايد من العاطلين عن العمل وتنميته بإستمرار. رسميا تبلغ نسبة البطالة اليوم حوالي 30% بل ان وزارة التخطيط تقدرها بـ 40%.
·        تفاقم التوترات الاجتماعية وظهور المزيد منها بنتيجه تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي بشأن "ازالة سياسة الدعم واثارها المشوهة " او "التكييف الهيكلي " للمؤسسات.
·        المساعى الحثيثة لـ "طرد الدولة" من الحقل الإقتصادي وإبعادها كلية عن آليات السوق واعتماد خصخصة مؤسسات القطاع الحكومي، مما يفتح الطريق أمام رؤوس الأموال الأجنبية لفرض هيمنتها، من مواقع قوية، على النشاط الإقتصادي المحلي نتيجة الضعف البنيوي للقطاع الخاص المحلي.
·        التدمير المنتظم والتدريجي للطاقات الإنتاجية المحلية من خلال تطبيق وصفة التكييف و انتهاج مبدأ" تحرير التجارة الخارجية " وأساساً تجارة الاستيراد، مما ساعد على غزو السلع القادمة من البلدان المتطورة للسوق العراقية ومنافستها للسلع المحلية، حيث الاخيرة تمتاز أصلاً بقدرة تنافسية ضعيفة، مما ادى الى تدمير الصناعات المنتجة لتلك السلع، على الصعيد المحلي، وايضا القطاع الزراعي الذي اصبحث السلع الزراعية الاتية من الخارج تنافس منتجاته وتتفوق عليها.
·        التأثير في العلاقات الإجتماعية من خلال العمل على " خلق " فئات اجتماعية تستفيد من حزمة السياسات التي تتضمنها برامج التكييف الهيكلي، حيث المسعى لتفكيك التحالفات الإجتماعية " التقليدية " والعمل على خلق الشروط لنشوء وتطور تحالفات اجتماعية جديدة، تتضمن تلك القوى الإجتماعية التي تدافع عن تلك الحزمة من السياسات الجديدة وتكون أساساً أو قاعدة متينة لسلطة الدولة ولها مصلحة فعلية في استمرار تنفيذ برامج " التكييف الهيكلي ".
   ثانيا: موازنة 2015 ...الدلالات الاقتصادية الاجتماعية
     مجددا...اسئلة تبحث عن اجابات
   نعود الى الموازنة الاتحادية لعام 2015 .. وقبل المباشرة بطرح الاسئلة اود الاشارة هنا الى انهواضافة الى المعالم المذكورة سابقا، فانه وفي الأشهر الأخيرة وخصوصا منذ شهر حزيران 2014، ارتبط توقيت الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة وتفاقمها بعوامل عدة من بينها ثلاثة اضافية هي:
- العامل الاول: احتلال " داعش " للموصل وتمددها الى مناطق اخرى بحيث سيطرت على ثلث مساحة البلاد التي يسكنها 20% من السكان، وسيطرتها على بعض الآبار النفطية وتعطيلها لمصفى بيجي ولإنتاج وتصدير نفط كركوك.
- العامل الثاني: هبوط حاد وسريع في أسعار النفط، بلغت نسبته حوالي 60% بل و في خلال شهر واحد هو شهر كانون الأول 2014 سجل هذا الانخفاض أكثر من 30 بالمائة، وبالتالي ادى هذا كله الى انخفاض العوائد النفطية بشكل كبير.
- العامل الثالث: قابل هذا الانخفاض تنامي النفقات العامة نتيجة إرتفاع نفقات العمليات العسكرية ورواتب متطوعي " الحشد الشعبي "، ونفقات تلبية متطلبات أكثر من مليوني نازح يمثلون 515030 عائلة يتركز 60% منهم اي (308817) عائلة في اربع محافظات هي: اربيل، دهوك، السليمانية، كركوك [11].
   وثمة ملاحظة استدراكية هنا وهي انه جرى البداية من قبل القوى المتنفذة وجهات رسمية ترويج اطروحات تحصر عوامل الأزمة الراهنة بالتطورات التي استجدت بعد العاشر من حزيران 2014 مع التغافل أو التقليل من دور وتاثير عناصر الخلل في بناء الدولة وفشل نهج وسياسة حكومات المحاصصة المتعاقبة، ولا سيما في الشأن الاقتصادي، وسوء الادارة والفساد المستشري في مفاصل الدولة.
نعود الى الموازنة.
   كما معروف، فان الميزانية السنوية، هي أداة رئيسية من أدوات السياسة الاقتصادية، كما انها بالمقابل أداة سياسية تترجم مصالح وفلسفة القوى المهيمنة في المجتمع. ومن هنا ضرورة التمييز بين جانبين:
أولا: الجانب الحقوقي، والمتمثل في أن الموازنة العامة هي عبارة عن آلية قانونية لتنظيم نفقات الدولة ومواردها، وهذا هو جانبها الشكلي.
ثانيا: الجانب الاجتماعي – السياسي أي مضمون الموازنة، ويعني أن الموازنة العامة السنوية أداة سياسية تترجم مصالح وفلسفة القوى المسيطرة في المجتمع حتى وان تبجح مهندسوها بانها مصممة للجميع. 
   سأحاول هنا تقديم قراءة لموازنة 2015 اعتمادا على المعطيات العامة المرتبطة بها والمثبتة في قانون الموازنة التي صادق عليها البرلمان العراقي اخيرا وصدر في الجريدة الرسمية.
   ولبناء تصور متكامل سيتم طرح مجموعة من الاسئلة، حول مغزى المؤشرات الرقمية للموازنة لعام 2015 سواء من خلال بنية النفقات العمومية أو بنية الإيرادات العمومية والعجز وطبيعته، وما هي القوى المستفيدة منها من جانب والمتضررة منها من جانب مما يتيح كشف الدلالات و المغازي الاجتماعية- الطبقية لهذه الموازنة و يتيح اخيرا البرهنة على أن الموازنة ليس مجرد مجموعة ارقام محايدة بل هي تعبير عن تناسبات القوى في لحظة تاريخية ملموسة.
والمنطلق الاول هم التعرف على هيكل الموازنة من حيث ايراداتها ونفقاتها والعجز الفعلي الموجود وهو ما يعكسه الجدول رقم (4).
هيكل الموازنة
يعكس الجدول رقم (4) ارقام موازنة عام 2015 في جانبي الواردات والنفقات كالتالي :
جدولرقم (4)
تقديراتالموازنةالاتحاديةلعام2015 (ألفدينار)
المفردات

المبالغ (الف دينار)

%

اجمالي الايرادات

99801875.000

100.0%

ايرادات النفط الخام المصدر

84266820.000

84%

الايرادات غير النفطية

15399332.139

16%







اجمالي النفقات

125203110.783

100%

النفقات الجارية

79976896.713

65%

النفقات الاستثمارية

45226214.070

35%







اجمالي العجز المخطط

25401235.783

100%

نسبةالنفقاتالتشغيليةمناجمالينفقاتالموازنة



65%

نسبةالمشاريعالاستثماريةمناجمالينفقاتالموازنة



35%

تمويل الفجوة المالية





من الارصدة المدورة لعام 2014

3000000000



حقوق السحب الخاص SDR

2098800000



اصدار سندات خارجية

6000000000



اصدارسنداتالدينالعامعنطريقالاحتياطيالقانونيللمصارف

6000000000



قروضوحوالاتخزينةمنالمصرفالعراقيللتجارة

3000000000



اصدارحوالاتخزينةمنالمصارفالحكومية

3000000000



المصدر: من اعداد الباحث استناد االى جداول ميزانية 2015.
   ان التأمل بالارقام الواردة اعلاه والارقام الاخرة الواردة في الجداول الملحقة بقانون موازنة 2015، يتيح لنا طرح عدة اسئلة تحاول " مشاكسة " ما جاء في تلك الارقام.
أول هذه الاسئلة هو: ما هي طبيعة موازنة 2015: هل هي انكماشية أم توسعية؟
     بالمعنى المتعارف عليه في اوساط المنشغلين بقضايا الاقتصاد السياسي للموازنات المالية السنوية، يجري التمييز بين نوعين من هذه الموازنات: الموازنة التوسعية والموازنة الانكماشية.
النوع الاول: الموازنة التوسعية، ويقصد بها ضمان زيادة في الإنفاق العام كنسبة من الدخل القومي،مع توجيه هذا الإنفاقبحيث يضخ الحيوية في شرايين الاقتصاد،ويتم ذلك من خلال عدة طرق منها:
- زيادة الأجور والتعويضات الاخرى وبالتالي رفع مستوى الطلب الكلى.تشير المعطيات الواردة في الجدول رقم (5) الى تعويضات الموظفين والتي شكلت 34.2% من اجمالي الموازنة و ( 50.17%) من اجمالي النفقات التشغيلية في عام 2015 علما ان تلك التعويضات شكلت 39% من اجمالي موازنة 2011.
جدولرقم (5)
نسبة تعويضات الموظفين الى اجمالي الموازنة واجمالي النفقات في 2015
مليون دينار
الرواتب (1)

40294438.665

اجمالي النفقات   (2)         

125203110.783

النفقات التشغيلية الجارية (3)

79976896.713

(1)/(2)=

34.20%

(1)/(3)=

50.17 %

المصدر: من اعداد الباحث استنادا الى جداول ميزانية 2015.
- زيادة الاستثمارات وبالتالي توسيع القدرة الإنتاجية للاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة. المعطيات المثبتة في الجدول رقم (4) تشير الى ان الاتجاهات العامة لتوزيع النفقات بين النفقات التشغيلية والاستثمارية لم يحصل عليها تغيير جذري خلال عام 2015 مقارنة بعام 2011. وقد انعكس هذا على التناسب بين النفقات التشغيلية والنفقات الاستثمارية حيث شكلت الاخيرة 35% من اجمالي الموازنة لعام 2015. في حين بقيت النفقات التشغيلية تشكل نسبة 65% علما انها كانت تشكل خلال السنوات الاخيرة بين 67% و 68%. ولنا عودة بالتفصيل الى هذه القضايا لاحقا.
- زيادة الإنفاق على الخدمات الاجتماعية الأساسية كالتعليم والصحة وبالتالي زيادة القدرة التنافسية للاقتصاد بالارتقاء بالعنصر البشري.تشير المعطيات الاحصائية المثبتة في موازنة عام 2015 الى ان حصة هذين القطاعين تبلغ 8.497 تريليون دينار (من اصل 125.213 ترليون دينار) مما يشكل 6.8% من اجمالي النفقات بعد ان كانت تشكل على سبيل المثال 14.7% من اجمالي النفقات في عام 2012 علما ان هذا مبلغ متواضع في الحالتين.
   اما النوع الثاني فهو الموازنة الانكماشية والتي تعني تخصيص اعتمادات اكبر لما يسمى بـ "الإنفاق العقيم" بدلا من الإنفاق المنتج.
   وهنا سنعتمد على المعطيات الواردة في الموازنة بشان بابين رئيسيين هم: نفقات الامن والدفاع وفوائد الدين العام التي يعكسها الجدول رقم (6)
                                              
                                               جدولرقم (6)
حصة نفقات الامن والدفاع في اجمالي النفقات لعام 2015 (مليون دينار)
التفاصيل

مليون دينار

% الى اجمالي النفقات

نفقات الامن والدفاع (1)

30965215.399

26

الالتزامات والمساهمات الدولية والديون (2)

1258894.000

1.0

(1)+ (2)

32223109.399

27.0%

اجمالي نفقات الموازنة لعام 2015

125203110.783

100.0

المصدر: من اعداد الباحث استنادا الى جداول موازنة 2015.
   بحسب المعطيات اعلاه فان نفقات الامن والدفاع بلغت حوالي 31 ترليون دينار وشكلت 26% من اجمالي نفقات موازنة عام 2015. اما الباب الثاني فهو باب فوائد الدين العام والتي شكلت 9.368 تريليون دينار وبلغت نسبتها 1% من اجمالي النفقات.
   وتعني الارقام اعلاه ان " الانفاق العقيم " يشكل 27% (26%+1.0%) من اجمالي النفقات. ومن المفيد الاشارة الى انه لا يمكن اعتبار جميع نفقات الامن والدفاع عقيمة بل جزءا منها بالتاكيد، والدلائل على ذلك ليست قليلة حيث الفساد في هذين القطاعين لا يرى بالمجهر وانما بالعين المجردة !
   ان الاجابة على السؤال اعلاه وما تركته من ملاحظات تستحث ضرورة طرح السؤال الثاني وهو:
السؤال الثاني: في ظل مستويات تطور الاقتصاد العراقي والتحديات التي تواجهه.. هل موازنةعام 2015 واقعية؟
   للاجابة على هذا السؤال علينا العودة مجددا الى معطيات الجدول رقم (4) وتفكيكها الى مكوناتها.
استنادا الى المعطيات الواردة في هذا الجدول فإن اجمالي النفقات لعام 2015 بلغت 125.203 تريليون دينار منها 79.976 تريليون دينار للنفقات الجارية (65% من اجمالي الموازنة)، اما النفقات الاستثمارية فشكلت 45.226 تريليون دولار (35 % من اجمالي الموازنة). في حين يقدر اجمالي الايرادات المتوقعة بحوالي (99.802) تريليون دينار. ويعني هذا أن الموازنة الفيدرالية لعام 2015 ستواجه عجزاً قيمته (25.401) تريليون دينار.
   ولابد من الاشارة هنا الى ان التحسن النسبي لحصة النفقات الاستثمارية في اجمالي النفقات ليس ناجما عن تغيير في الرؤية او اعتماد استراتيجية تراهن على الاستثمار وانما بسبب انخفاض العوائد النفطية نتيجة انخفاض اسعار النفط مما اجبر السلطات الحكومية الى اعتماد "استراتيجية تقشفية".
   والحقيقية انه ورغم هذا التحسن النسبي الا انه ما زال هناك اختلال في بنية النفقات لصالح هيمنة النفقات التشغيلية. ويعني هذا ان الاتجاه السائد لحد اليوم والمتمثل بالحصة الكبيرة للنفقات العمومية (ثلثي النفقات) هو في الحقيقة تعبير عن تناقض بنيوي تعاني منه هندسة الموازنة لعام 2015 وهو مماثل تقريبا للسنوات السابقة. يتجلى هذا التناقض في فترات ارتفاع اسعار النفط في الابقاء على رفاهية استهلاكية مصطنعة ومؤقتة (وفي ظل علاقات القوى السائدة فان هذه الرفاهية المصطنعة لا توزع بشكل عادل) على حساب الاستثمار وبالتالي النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة.
   لا تعني هذه الملاحظة ضرورة الحد من الانفاق الاستهلاكي بل ثمة حاجة وضرورة ملحة لزيادة الانفاق الاستثماري (شرط ضمان ادارة هذه الموارد بشكل صحيح) مقابل ترشيد النفقات التشغيلية بما يتيح امكانية التحكم باتجاهات الاستهلاك ليكون متلائما مع مرونة العرض الكلي للسلع والخدمات وبالتالي امكانية مواجهة الضغوط التضخمية الناجمة عن الاختلال بين جانبي العرض والطلب في اقتصاد مفتوح ذي آليات مطلقة السراح.
   فميزانية النفقات التشغيلية التي تلتهم 65% من النفقات العامة هي نفقات تجري على حساب الاستثمار في ظروف ازمة بنيوية عميقة، الامر الذي يجعل الميزانية عاجزة عن خلق ديناميكية على مستوى النمو الاقتصادي الذي يشترط من بين ما يشترطه وجود استثمارات تحتاجها البلاد حقا في هذه المرحلة.
   إن النقص الحاصل في نفقات الاستثمار العمومي وعدم وجود اليات واضحة تضمن التوظيف العقلاني لهذه الموارد، من شأن ذلك كله أن ينمي الطبيعة المضارباتية- الخدماتية للاقتصاد العراقي. وحيث في ظروف انعدام استراتيجية تنموية واضحة و وجود خلل امني كبير، سيتم التوجه إلى القطاعات ذات الربحية السريعة دون إعطاء أية أهمية للقطاعات المنتجة. وسلوكا من هذا النوع من شأنه أن يزيد من اختلال التوازنات الاقتصادية (ضعف المردودية، عدم تحقيق تنمية أفقية على كافة المستويات الاقتصادية...الخ).
   ومن جانب اخر، لا يمكن تقديم تفسير متكامل لطبيعة الخلل البنيوي المشار إليه أعلاه دون ربطه بتحليل بنية النفقات التشغيلية، حيث تتيح المعطيات المتوفرة في المصدر السابق (وفي جداول موازنة 2015) تسجيل الملاحظات التالية:
1. تشكل فقرة تعويضات الموظفين نسبة كبيرة من مجموع النفقات الجارية حيث تقدر بـ 50.4% (و 32.2% من اجمالي النفقات)، أي ان ما يقارب ثلث النفقات السنوية الاجمالية واكثر من نصف النفقات التشغيلية بقليل يذهب الى فقرة الرواتب والاجور وما يماثلها من تخصيصات. ولا ينبغي استخلاص استنتاج عام بشأن هذه القضية دون ربط ذلك بالحاجة الى معرفة هيكلية الأجور (توزيعها بين الفئات الدنيا والعليا) والتفاوت الواضح بينها، وكذلك انظمة الرواتب الخاصة المرتفعة جدا وان جرت عليها بعض التخفيضات.
2. ارتباطا بتداعيات احتلال (داعش) وفي اطار التحضيرات لمواجهته وطرده يشهد الانفاق الامني والدفاعي نموا ملحوظا في عام 2015، حيث تشير تقديرات الموازنة الى ان تخصيصات الامن والدفاع تشكل 26% من اجمالي النفقات في هذا العام. علما ان النفقات الجارية تشكل الحصة الاكبر في اجمالي نفقات الامن والدفاع حيث تبلغ ما يقارب الـ 60% من اجمالي النفقات.
3. لم يحدث تغيير ملحوظ بالنسبة لفقرة المنافع الاجتماعية ضمن إجمالي النفقات التشغيلية والتي ظلت تراوح في مكانها او تتناقص سنويا وتشكل 7.0% من مجموع النفقات التشغيلية و 4.8% من اجمالي الموازنة، وهذا يعكس الطبيعة الطبقية المنحازة للميزانية لغير صالح الكادحين وذوي الدخل المحدود. ولتوضيح هذه الملاحظة لا بد من الإشارة الى أن هذه الفقرة تشمل في العادة عدة بنود منها: (تخصيصات البطاقة التموينية وشبكة الحماية الاجتماعية وبدلات العسكريين ونفقات الإغاثة والمعونة للمهجرين وتعويض دعاوى الملكية وتعويضات بعض المحافظات وتعويضات الضحايا وتعويضات لجنة 140 والمنح المقدمة من قبل مؤسستي السجناء والشهداء ونفقات الحج والعمرة). وتشير المعطيات المتوفرة الى أن المبالغ المخصصة للبطاقة التموينية مثلا تشهد منذ عام 2009 انخفاضا في حجم المبلغ المخصصة. فمثلا خصصت ميزانية 2009 مبلغا قدره 4200.000 مليار دينار في حين تضمنت ميزانية عام (2012) فقط 4000.000 مليار دينار اما في عام 2015 فقد خصص لها 2500.000 مليار دينار، أي انها انخفضت بحدود 40.5% في عام 2015 مقارنة بعام 2009. والاهم من ذلك أن حصتها في إجمالي النفقات التشغيلية انخفضت في عام 2015 الى 3.1% مقارنة بالاعوام السابقة حيث بلغت مثلا 5.0% في عام 2012.
   ولهذا فان مثل هذا التخفيض المطلق والنسبي سوف يلقي اعباء اضافية على المستفيدين منها وستكون له تداعيات سلبية على البطاقة التموينية سواء من حيث تقليص مفرداتها او نوعية ما تتضمنه من مفردات وهي التي تعاني من رداءة ملحوظة. ولا بد من إثارة الانتباه هنا الى أن التعامل مع البطاقة التموينية من منطلق أنها أعباء على الميزانية وبالتالي لا بد من التخلص منها او دفع تعويضات نقدية بدلا عنها (وهو ما يروج له فرسان الليبرالية الجديدة) يمثل موقفا غير صحيح من الناحية الاجتماعية وستكون له آثارا سلبية. فالبطاقة هذه يعتمد عليها وعلى محتواها (مكوناتها) قطاع عريض من الفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة وان التقليص التدريجي سنويا لحصتها ضمن الموازنة التشغيلية قد يؤدي الى حدوث توترات اجتماعية وما يرافقها من تكاليف. وكان كان على مهندسي موازنة 2015 أن يأخذوا بالاعتبار الآثار الاجتماعية الناجمة عن هذا التخفيض، وان لا يتم اللجوء الى اعتماد خطوات سريعة لتقليصها دون توفر بدائل عقلانية وهي ليست متوفرة اليوم ولن تكون كذلك على المدى المنظور.
4. شهدت فقرة (الإعانات) التي كانت في السنوات السابقة تمثل تخصيصات الدعم المقدم للهيئات والشركات العامة المملوكة للدولة (SOEs) والتي توظف حوالي 633100 منتسب ابتداء من كانون الثاني 2010 تحولا مثيرا. فقد تضمنت "الأسس والمبادئ العامة " التي اعتمدت في اعداد موازنة 2012 النص التالي: " احدى عشر // من اجل الاتجاه نحو تشغيل شركات القطاع العام على اسس اقتصادية وتحقيقاً لمبدأ التمويل الذاتي لها فقد تم حجب مبالغ الدعم التي كانت تقدم لتلك الشركــات ( الا بعض الاستثناءات) للسنوات الماضية وترتيب اجراء حصولها على قروض من المصارف الحكومية بالتنسيق مع وزارة المالية مما يخفف العبئ على الموازنة العامة ويدفعها بأتجاه تنظيم اوضاعها وتفعيل نشاطها ". ونفس الوجهة تم تاكيدها في استراتيجية التنمية الصناعية للفترة حتى 2030. واذا ما اخذنا بالاعتبار طبيعة الاوضاع التي تمر بها هذه الشركات فان اعتماد هذا " المبدأ " لتشغيل هذه المؤسسات " على اسس اقتصادية " لا يعني سوى شيء واحد هو ترك هذه الشركات تواجه مصيرها المحتوم: الافلاس، وبالتالي توفر الحجة لنسور الخصصة دون قيد او شرط لتصفية هذه الشركات بذريعة افلاسها !
   وما يدلل على ذلك ما جاءت به الفقرة ثانيا من المادة (12) من قانون موازنة 2015 التي نصت على التالي:
" على الوزارات الاتحادية كافة ايقاف التعينات ضمن التشكيلات التابعة لها من الشركات العامة والهيئات والمديريات الممولة ذاتيا التي تتلقى منحة من الخزينة العامة الاتهادية للدولة او القروض من المصارف الحكومية على ان تحذف الدرجات الوظيفية ضمن مفردات ملاك الجهات مدار البحث عند شغورها بسبب النقل او الاحالة الى التقاعد او الاستقالة او الوفاة".
   السؤال الثالث: هل تسعى موازنة 2015 لتحقيق العدالة الاجتماعية؟
   بسبب طبيعة المرحلةلا يوجدفي الموازنة ما يشير الى السعي للتقليل من التفاوتات الاجتماعية ولكن الحكومات المختلفة ومنها الحكومة الحالية تعترف، ولو بشكل غير مباشر، بوجود هذه التفاوتات وذلك عندما حددت مرجعياتها واعتبرت ان " إستراتيجية مكافحة الفقر الصادرة في تشرين الثاني 2009 " تشكل واحدة من تلك المرجعيات، ولهذا ستتم محاكمة الموازنة استنادا الى هذه النقطة. ومن أجل تحقيق ذلك سيكون المنطلق في الاجابة على هذا السؤال وقياس مدى مطابقة الواقع مع هذه المرجعية، هو تحليل المعطيات الواردة في الجدول رقم (7).
جدولرقم (7)
تقديرات الايرادات حسب مصادرها لسنة/2015
المفردات

تقديرات سنة/2015

الاهمية النسبية %

الايرادات النفطية

84266.820

84.43

الكمارك (رسم اعادة الاعمار)

000

000

ضريبة الوارد الكمركي

2065.000

2.07

الضرائب المباشرة





ضريبة الدخل الخاصة   بالافراد

389.245

0.39

ضريبة الدخل للشركات

671.633

0.67

ضريبةالدخلعلىشركاتالنفطالاجنبية

618

0.62

ضريبة دخل الموظفين

170.372

0.17

الضرائب غير المباشرة





دخل الفوائد

15.180

0.02

حصةالخزينةمنارباحشركاتالقطاعالعام

3235.166

3.24

اجور الخدمات

105.523

0.11

الضرائب والرسوم الاخرى

7854.936

7.87

ضريبة المكس

410

0.41

المجموع

99801875.000

100.00

المصدر: من اعداد الباحث استنادا الى جداول ميزانية 2015.
قبل الاجابة على السؤال تتيح قراءة الجدول اعلاه تسجيل ملاحظتين اساسيتين في البداية:
   الملاحظة الاولى، في موازنة 2015 تشكلالايرادات النفطية 85% من اجمالي الايرادات أي ما يعادل اكثر من اربعة اخماس تلك الايرادات. وهنا علينا ان نتذكر ان تناقص حصة الايرادات النفطية ليست ناجمة عن مفاعيل داخلية بل انها خاضعة لتقلبات الاسواق النفطية العالمية وتتاثر بشكل مباشر بالاسعار والطلب العالميين على هذه السلعة الاستراتيجية (النفط). ونظرا لأن هذه الايرادات (النفطية) تشكل النسبة الأعظم من اجمالي واردات الميزانية فان الجزء الاعظم من الاداء المالي والاقتصادي يظل مرهونا بمديات استقرار تلك الايرادات. وهذه مرهونة بتفاعلات السوق النفطية وحركة اسعارها، وآلية العلاقة بين العرض والطلب على هذه السلعة، والقرارات التي تتخذ بشأنها تتداخل فيها السياسة بالاقتصاد وبالمصالح الجيوسياسية العالمية البعد.
   ومن جانب آخر فقد بنت الحكومة موازنتها السنوية لهذا العام استنادا الى سعر افتراضي للبرميل الواحد من النفط المصدر وهو 56 دولار وهو سعر افتراضي. ولكن لا يوجد في الميزانية ما يشير الى الاسس المنهجية التي جعلت من هذا المستوى، دون غيره، ليكون الاساس في بناء الميزانية لتقديراتها من العوائد النفطية. واذا عدنا للسنوات السابقة لامكننا ان نلاحظ انه عادة ما تعرضت تلك التقديرات الى التغيير (صعودا وهبوطا) مما يتيح القول ان ثمة " اجتهادات " في بناء تلك التقديرات مما ادى الى ولادة " موازنات تكميلية " جسدت في الواقع غياب منهجية علمية يستند اليها في بناء الموازنات السنوية. ويعني اننا امام نوع من الارادوية في هذا المجال وهي طريقة عادة ما تفضي الى طرق مسدودة وليس توفير بدائل قابلة للحياة.
   الملاحظة الثانية،الحصة المنخفضة للايرادات غير النفطية والتي لا تشكل سوى 15.57% فقط من اجمالي الايرات المقدرة لعام 2015. علما ان واحدا من اسباب الزيادة (ولعله السبب الرئيسي) في هذا العام مقارنة بالاعوام السابقة ناجم في الوقع عن قرار مجلس الوزراء رقم (233) لسنة/2014 بأن تدفع كل من شركات الهاتف النقال (اسيا، زين، كورك) مبلغ (307) مليون دولار اي ما يعادل 357.962 مليار دينار عراقي.
   كما ان السبب الاهم لانخفاض الايرادات غير النفطية يعزى في الواقع الى انخفاض مستوى النشاط الاقتصادي عموما، وانخفاض وتيرة نمو القطاعات الانتاجية خصوصا، وهذا ناجم عن جملة عوامل في مقدمتها انعدام استراتيجية اقتصادية متبلورة وواضحة الاهداف.
   النتيجة المستخلصة من التحليل اعلاه بسيطة وواضحة ولكنها ذات مغزى كبير: هيمنة الايرادات النفطية في بنية الايرادات العامة وبالتالي مواصلة الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي.
   نعود السؤال ذاته. سنلجأ في البداية الى اعادة بناء بعض المعطيات الاحصائية الواردة في هذا الجدول لكي نتعرف على نصيب الاغنياء والفقراء في كل من الايرادات العامة والمصروفات العامة. وطبعا في البداية لا بد من استبعاد الايرادات النفطية حتى نقدم صورة ادق.
نعود الى الجدول رقم (7) لنشير الى ان الايرادات غير النفطية بلغت 7948.848 مليار دينار موزعة كالتالي:
الضرائب المباشرة:   1185.328 مليار دينار عراقي
الضرائب غير المباشرة : 1295.000 مليار دينار
الفوائد:       50.000 مليار دينار عراقي
حصة الخزينة من ارباح شركات القطاع العام: 2.591 مليار دينار عراقي
بقية الايرادات غير النفطية:  5415.929 مليار دينار عراقي
من خلال الارقام اعلاه نتساءل من الذي يتحمل العبء الاكبر في تدبير تلك الايرادات؟ هل هم الفقراء ومحدودي الدخل ام الاغنياء؟
عند الرجوع إلى تفصيلات الضرائب والمنح والايرادات الاخرى وتقسيمها بين الفقراء والأغنياء نعثر علىالصورة آلاتية:
   الضرائب التي يقع عبؤها الاكبر على الفقراء وذوي الدخل المحدود تبلغ 3741.011 مليار دينار.
في المقابل،الضرائب التى يقع عبؤها الاكبر على الاغنياء يبلغ: 1714.813 مليار دينار.
   وبمقارنة الارقام اعلاه يمكن الاستنتاج إذن بأن الفقراء يتحملون العبء الاكبر في النفقات العامة، فالارقام اعلاه تشير الى ان حصة الضرائب المفروضة على الفقراء وذوي الدخل المحدود تعادل 2.2 مرة تلك المفروضة على الاغنياء ! لعلنا قد تفهم اليوم لماذا يتظاهر الناس؟ او بعبارة اخرى ولكن معكوسة: لماذا لا يتظاهر الناس والعدالة الاجتماعية مفقودة؟
   بهذا المعنى فان الاتجاه العام للموازنة متناقض مع جملة من الاهداف والتوجهات التي طرحت في اكثر من وثيقة ومن بينها " خطة التنمية 2010 – 2014 " و " استراتيجية التقليل من الفقر " التي جرت الاشارة اليها سابقا. فالارقام الاحصائية اعلاه تبين بما لا يقبل الشك انه في عام 2015 سيزداد الفقراء وذوي الدخل المحدود فقرا اما الاغنياء سيزدادون غنا. هذا الاتجاه ليس غريبا.. على العكس، انه منطق احد قوانين التطور الراسمالي.
   بالعودة الى السؤال الذي انطلقنا منه وجوابا عليه يمكننا القول ان موازنة 2015 لا تحقق العدالة بين السكان، بل العكس تماما انها تعمق التفاوتات الطبقية والتهميش الاجتماعي والاستقطاب.
السؤال الرابع: هل ستساعد موازنة 2015 على التقليل من البطالة؟
   ارتباطا بالوجهة العامة للموازنة والمتمثلة بالتقشف العام وتقليص الانفاق لمواجهة تحديات انخفاض اسعار النفط وبالتالي تقلص الواردات، فقد اشارت الفقرة (ثانيا) من المادة (12) من قانون الموازنة لعام 2015 الى التالي: " على الوزارت كافة ايقاف التعيينات ضمن التشكيلات التابعة لها من الشركات العامة والهيئات والمديريات الممولة ذاتيا التي تتلقى منحة من الخزينة العامة الاتحادية للدولة او القروض من المصارف الحكومية".
   وبالمقابل، الزم القانون المذكور "الوزارات الاتحادية والجهات غير المرتبطة بوزارة " بجدول حدد فيه " عدد القوى العاملة والدوائر الممولة مركزيا لسنة 2015".
   تشير الموازنة 2015 الى انها تؤمن 55408 وظيفة (تمثل الدرجات الوظيفية المستحدثة في ملاك الوزارات والدوائر الممولة مركزيا) موزعة كالتالي (جدول رقم 8):
جدولرقم (8)
عدد الدرجات الوظيفية المستحدثة لعام 2015
الوزارة

عدد مناصب العمل

النسبة الى الاجمالي %

الدفاع

20000

36.2

الداخلية

15200

27.4

الصحة

13525

24.4

اقليم كردستان

2411

4.4

العمل والشؤون الاجتماعية

1500

2.7

مجلس القضاء الاعلى

1200

2.2

التعليم العالي/الجامعات المستحدثة

750

1.3

المالية

412

0.7

جهاز المخابرات الوطني

250

0.5

مؤسسة السجناء

150

0.2

مكتب نائب رئيس الجمهورية

10



المجموع           

55408

100.0

المصدر: من اعداد الباحث استناد االى جداول موازنة 2015.
من الجدول اعلاه يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
1. تحض وزارتا الدفاع والداخلية – مجتمعتان- بما نسبته 63.5% (352000 وظيفة) من اجمالي الوظائف المستحدثة في عام 2015.
2. تحتل وزارة الصحة المرتبة الثانية وبنسبة قدرها 24.4% (13525 وظيفة).
3. اما بقية القطاعات فتحتل نسبة متواضعة تبلغ 12.3% فقط.
   وتعكس الارقام وجود حالة خلل في بنية الوظائف الحكومية لصالح المؤسسة الامنية - العسكرية التي تستحوذ على ثلثي الوظائف المستحدثة لهذا العام. وتؤكد هذه الارقام عدم وجود تنسيق بين الاهداف الاستراتيجية، على الاقل على المدى المتوسط، (من خلال الخطة 2014 – 2017) والاهداف السنوية (من خلال الموازنة السنوية). علما ان السكان في العراق في تزايد مستمر من سنة الى اخرى. ففي عام 2011 بلغ عدد سكان العراق 31,552 مليون شخص في حين ارتفع الى 32,361 مليون في عام 2012، ويبلغ الان بحدود 35.282 مليون نسمة تقريبا وتبلغ الزيادة السنوية للسكان بحوالي مليون شخص.
الاستنتاج المستخلص: البطالة ستستمر بالتزايد في ظل موازنة 2015، بكل ما يحمله هذا الأفق الاجتماعي- السياسيي من توتر وغليان.
   ومن جانب آخر فان الملاحظات السابقة تدفع للتوقف عند نزعةتتمثل بمزيد من الانفاق على الامن والدفاع. فمثلا بلغت حصة هذا القطاع 17169315.481 مليون دينار (اكثر من 17 تريليون دينار بقليل) من اجمالي نفقات موازنة 2012 والتي بلغت 117094839.278 مليون دينار، أي ان الانفاق على الامن والدفاع شكل 14.7% من اجمالي نفقات الموازنة. اما في عام 2015 فبلغت حصة الامن والدفاع – مجتمعة- 30007314.000 مليون دينار عراقي من اجمالي نفقات الميزانية لهذا العام والبالغة 125203110.000 مليون دينار، أي ان الوزارتين تشكلان سوية 24% من اجمالي النفقات لعام 2015.
   قد يقول قائل ان هذا التنامي في حصة الامن والدفاع في اجمالي نفقات الموازنة لهذا العام، 2015، مرده الاوضاع التي نشأت بعد اجتياح (داعش) وما تركه ذلك من تحديات تتطلب المزيد من الانفاق. نعم هذا القول يمثل نصف الحقيقة فالاوضاع الراهنة تتطلب المزيد من الانفاق في هذا المجال، اما نصفها الآخر فهو ان هذه الحصة كانت مرتفعة ايضا في الموازنات السابقة وتنامت من عام لآخر، الامر الذي يدفع للاستنتاج ان هذا التنامي ليس ابن عام 2015 نتيجة اجتياح (داعش) بل هو عبارة عن نزوع Tendence راسخ في الموازنات السابقة.
   وخلاصة القول، ان هذين القطاعين اصبحا يمتصان جزءاً غير قليل من العاطلين الذين يتوجهون للتطوع فيهما ليس انطلاقا من رغبة حقيقية في العمل في هذين المجالين ولكن لما يقدمناه من " مغريات " على مستوى الرواتب. وهذا يعني ان الحكومات المتعاقبة تلجأ الى استراتيجية خاطئة في مجال التشغيل، فبدلا من خلق مناصب عمل حقيقية في مجالات الانتاج المادي وفي قطاعات البنى التحتية التي تعاني من تخلف واضح، نراها تلجأ الى توطين العاطلين وخاصة الشرائح الشابة منهم من خلال احتوائهم في الاجهزة الامنية والعسكرية بهدف امتصاص غضب جيش الشباب العاطل عن العمل. وهنا يمكن القول انه وبالملموس يكون المجال الاكثر توليدا لـ " فرص العمل " هو مجال الامن والدفاع وما يرتبط به من مؤسسات وفروع واذرع مختلفة امنية وعسكرية واستخباراتية، أي تطوير المؤسسات هذه على حساب المؤسسات المدنية.
   للتدليل على هذه الفكرة لا بد من العودة الى المعطيات الاحصائية التي توفرها ميزانية 2015 ذاتها والتي حرصنا على ادراج بعضها في الجدول التالي (رقم 9):
جدول (9)
القوى العاملة لبعض الوزارات والدوائر الممولة مركزيا لسنة/2015
الوزارة او المؤسسة

عدد القوى العاملة

% الى المجموع

وزارة الداخلية

669798

22.1

وزارة الدفاع

362331

12.0

وزارة التربية

665953

22.0

وزارة الصحة

249237

8.2

التعليم العالي والبحث العلمي

105864

3.6

اقليم كردستان

669939

22.1

بقية القطاعات

303945

10.0

المجموع العام

3027067

100.0

المصدر: من اعداد الباحث استنادا الى جداول ميزانية 2015.
   معطيات الجدول اعلاه تشير الى ان حصة وزارة الداخلية في اجمالي عدد القوى العاملة للوزارات والدوائر الممولة مركزيا لسنة/2015 بلغت 22.1% في حين بلغت حصة وزارة الدفاع 12.0% من الاجمالي. ويعني ذلك ان حصة الوزارتين مجتمعة تمثل 34.1%، أي ان اكثر من 1/3 القوى العاملة للوزارات والدوائر الممولة مركزيا يتركز في هذين القطاعين (اكثر من مليون شخص).
   واذا استبعدنا حصة اقليم كردستان من الاجمالي فان حصة قطاعي الامن والدفاع سترتفع الى 43.8% من اجمالي عدد القوى العاملة أي ان ما يقارب نصفها يتركز في هذين القطاعين، الامر الذي يعكس حقيقة ان هذا التوسع لا يرتبط باستراتيجية تنموية واضحة بل باجراءات تكتيكية قاصرة لا تؤدي في الواقع الى حلول جذرية لمشكلة البطالة بل مفاقمة البطالة المقنعة واعادة انتاج الفساد الاداري والمالي.  
   ومنعا لاي التباس لا بد من الاشارة الى ان بعضا من هذا التوسع في عديد القوات المسلحة بمختلف صنوفها من جيش وشرطة وقوات امنية واستخباراتية ..الخ، وهو توسعٌ استدعته الظروف التي شهدتها البلاد والنشاط المتعاظم لقوى الارهاب المتعددة المشارب، وايضا العمل على حماية حدود البلاد وتكريس الاستقرار فيه. واليوم، بعد عدة سنوات من الانفاق المتواصل على هذين القطاعين الا ان النتائج المتحققة ليست بمستوى الطموحات والرهانات المطلوبة، والخروقات الامنية المتواصلة تؤكد ما نقوله هنا، واخرها اجتياح داعش لثلث مساحة البلاد وتدمير أو تعطيل فرق عسكرية كاملة.
   وفي ختام هذه الفقرة يمكن القول ان العسكرة المتعاظمة و الديمقراطية ضدان لا يلتقيان مهما امتدا!!
السؤال الخامس: هل تدلل الارقام الفعلية لموازنة 2015 على وجود توجه فعلي لتغيير الطابع الريعي الخدماتي للاقتصاد العراقي بتنويعه؟
ان الاجابة على هذا السؤال تتطلب العودة الى بنية الاستثمارات و حصة كل قطاع فيها وهو ما يوضحه الجدول رقم (10).
جدول رقم (10)
نسب توزيع النفقات حسب القطاعات والانشطة من اجمالي الموازنة الاتحادية لعام/2015
(المبلغ/مليار دينار)
القطاعات

تقديرات عام 2015

الاهمية النسبية %

الامن والدفاع

30007314.903

24.0

التربية

7772559.000

6.2

النفط

16501168.739

13.2

الصحة والبيئة

5649835.330

4.5

العمل والشؤون الاجتماعية

1599556.753

1.3

النقل والاتصالات

572066.025

4.5

الزراعة

903617.001

0.7

الصناعة والمعادن

159141.409

0.1

الاعمار والاسكان

575298.521

0.5

الشباب والرياضة

264322.432

0.2

التجارة

4323490.616

3.5

الثقافة

108630.719

0.1

البلديات والاشغال العامة

1132653.835

0.9

الموارد المائية

541679.068

0.4

التخطيط

58300.854

0.1

التعليم العالي والبحث العلمي

2899750.500

2.3

الكهرباء

5661701.123

4.5

العلوم والتكنولوجيا

156744.327

1.3

المهجرين والمهاجرين

1196500.000

9.6

اقليم كردستان

15440142.124

12.3

اخرى



10.0

المجموع الاجمالي للنفقات في عام 2015

125203110.783

100.00%

المصدر: من اعداد الباحث استنادا الى جداول ميزانية 2015.
 تتيح قراءة الجدول اعلاه بلورة الخلاصات السريعة التالية:
- كما ذكرنا سابقا فان قطاع الامن والدفاع يحتل 24% من اجمالي النفقات.
- اضافة الى ذلك يلاحظ هيمنة قطاع الطاقة في النفقات حيث يحتل 17.8% من اجمالي تلك النفقات. ولكن رغم ضخامة حجم النفقات الموجهة الى هذا القطاع خلال السنوات التي تلت 2003 فان النتائج جاءت مخيبة للامال واسباب ذلك كثيرة من بينها، وليس وحده طبعا، حجم الفساد المستشري وعدم وجود رؤية واضحة لتطوير هذا القطاع، وهذه ناجمة عن عدم بلورة رؤية استراتيجية للحكومات المتعاقبة، استراتيجية تعرف ما تريد.
- الحجم المتواضع لحصة قطاعات الانتاج المادي في تخصيصات الموازنة واقصد بهما قطاعي الزراعة والصناعة. وثمة العديد من الاسباب التي تفسر هذه النسبة المتواضعة وفي مقدمتها الاستراتيجية التي يقوم عليها النظام القائم على الخصخصة وآليات السوق الطليقة والتي تفترض من بين ما تفترضه انسحاب الدولة من النشاط الانتاجي وتحولها الى مجرد خفير، وتجميد ملف المنشآت الاقتصاديـة الحكومية على طريق خصخصة تلك المنشآت وبيعها بابخس الاثمان، هذا اضافة الى التوجه نحو تحويل قطاع النفط للاستثمار الاجنبي من خلال عقود التراخيص الاخيرة التي وقعتها حكومة المالكي والتي اثارت الكثير من اللغط حول جدواها الاقتصادية ناهيك عن اثارها السياسية.
- ومن جانب اخر يلاحظ ضعف حصة قطاع التشييد والاسكان بحيث بلغت 0.5% فقط من اجمالي النفقات في وقت تعاني فيه البلاد من ازمة سكنية حادة وهياكل ارتكازية ليست بمستوى تحديات المرحلة الجديدة. وهذه التخصيصات ربما لا تكفي سوى بناء (5) مجمعات سكنية فقط في جميع المحافظات اي ما يعادل 2500 الى 3000 وحدة سكنية خلال هذا العام، في حين ان حاجة البلاد من الوحدات السكنية للعام الواحد يجب ان لا يقل عن 250000 الى 300000 الف وحدة سكنية سنوياً حسب اخر دراسة اعدتها الوزارة بالتعاون مع منظمة الهبيتات التابعة للامم المتحدة وضمن التخطيط العام للحد من أزمة السكن الكبيرة في العراق "[12].
   ان ما تم تخصيصه لهذا القطاع المهم والستراتيجي لا يرتقي الى الطموح للنهوض بقطاع السكن وتقليص الفجوة الكبيرة والنقص الهائل من الوحدات السكنية والتي تتحمل الوزارة مسؤولية النهوض بها.
   علما ان هذا القطاع يمكنه ان يكون قطاعا واعدا من ناحية مساهمته في تقليص البطالة المستشرية عبر استيعاب احجام غير قليلة من العاطلين عن العمل، فيما لو تمت زيادة تخصيصاته.
- واخيرا فان الشيء المثير للانتباه هو ان حصة الانشطة السلعية في اجمالي الانفاق لا تزيد عن الربعحيث بلغت 23.5% فقط في حين بلغت حصة الانشطة التوزيعية – الخدمية 76.5%. وتدلل هذه الارقام على الطبيعة التوزيعية – الخدماتية وليس الانتاجية للاقتصاد العراقي.
   وعلى اهمية هذا الجدول والملاحظات السريعة التي ذكرناها الا انه يمكن القول ان هذه الارقام وان كانت تعطي تصورا اوليا حول موازنة 2015 لكن ليس فيها ما يشير الى مجرد محاولة لتغيير البنية الريعية – الخدماتية للاقتصاد العراقي، الا اننا بحاجة الى التوقف مجددا عند توزيع النفقات العامة بين النفقات الاستثمارية والنفقات التشغيلية حيث شكلت النفقات التشغيلية 65% من اجمالي النفقات العامة في ميزانية 2015 يقابلها 35% للنفقات الاستثمارية وهو اتجاه يماثل تقريبا الاتجاه السائد (مع تحسن نسبي ضئيل) الذي حكم ميزانيات السنوات السابقة. علما ان هذا التحسن "النسبي" فرضته عوامل موضوعية ناجمة عن انخفاض اسعار النفط بشكل كبير وبالتالي انخفاض الموارد وليس ناجما عن رؤية جديدة تراهن على الاستثمار الانتاجي، وهو ما اشرنا اليه في مكان اخر من هذه الدراسة.
   واذا اخذنا تجارب السنوات السابقة لوجدنا انه ورغم هذه النسبة الا اننا عادة ما نصطدم بحقيقة قوامها ان نسب الانفاق الفعلي من تخصيصات الاستثمار كانت عموما منخفضة وعادة ما تكون حتى اقل من 50% مما يشكل هدرا وتبذيرا للموارد والفساد. وتشمل ظاهرة الشركات الوهمية التي يتم التعاقد معها لتختفي بعد استلام بعض السلف على المشروع ويظل التخصيص المتبقي غير كاف لتنفيذ المشروع فنحصل على مشاريع وهمية. وتتضارب البيانات المتوفرة حول عدد هذه المشاريع ونسب التنفيذ. فهناك معطيات تشير إلى أنه من أصل أكثر من 3200 مشروع في عهدة الوزارات، هناك 1607 مشروعا تعاني من مشاكل في التنفيذ أو عدم التنفيذ نهائيا، منها حوالي 600 مشروعا يشك حتى في وجودها اصلا !! ما يشير الى حجم الاثر الاقتصادي والاجتماعي لانجاز تلك المشاريع والمردود الاكيد عند تسريع انجازها. في حين انه وفي حديث لعضو اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب العراقي نورا البجاري اشارت أن "هناك نحو تسعة آلاف مشروع في الخطة السنوية لوزارة التخطيط موزعة على جميع المحافظات، لكن أكثر من ثمانية آلاف مشروع متلكئ وقسم كبير منها لم ينفذ ومازال حبرا على ورق، والقسم الآخر نسب الإنجاز فيه تتراوح بين 5 و10%.". من جانبه، قال باسم جميل أنطون نائب رئيس اتحاد رجال الأعمال أن "نحو تسعة آلاف مشروع تبلغ قيمتها 270 مليار دولار أغلبها متلكئة عن العمل بسبب عدم المتابعة والرصد من قبل الجهات الرقابية وبالذات مجلس النواب" [13].
   ولهذا لا يكفي فقط ان تشكل النفقات الاستثمارية ثلث او ربع الموازنة للقول ان ثمة تقدما قد حصل بل لا بد من ربط ذلك باعتماد اليات قادرة على الاستفادة القصوى من الموارد المخصصة.
   ومن جانب اخر ومن متابعة الارقام يمكن الاستنتاج ان موازنة 2015 تبدو كما لو انها مقطوعة الجذور عن خطة التنمية الوطنية 2013 – 2017 واولوياتها. فمثلا وضعت هذه الخطة الخمسية هدفا عاما لنمو الناتج المحلي الاجمالي بمعدل سنوي قدره 13.3%، بالاسعار الثابتة لعام 2012، وان تنمو قطاعات الانتاج السلعي (الزراعة والصناعة ..الخ) بمعدل نمو سنوي قدره 7.5%، في حين ينمو قطاع استخراد النفط بمعدل نمو سنوي قدره 18.7%. ولتحقيق هذه الاهداف خصصت الخطة الخمسية المشار اليها استثمارات، بمقدار 282 مليار دولار خلال سنوات الخطة الخمس، أي بمعدل 56.4 مليار دولار سنويا. واذا عدنا لموازنة 2015 سنجد ان الانفاق الاستثماري لم يتجاوز الـ 40 مليار دولار خلال هذا العام. كما ان نسبة النمو في القطاعات السلعية لا يتجاوز الـ 203% بدلا من الـ 7.5% المقدرة في خطة التنمية الوطنية 2013 – 2015 [14].
   الملاحظات اعلاه تتيح استخلاص استناج فحواه ان موازنة 2015 بلا مرجعية اذ كما نلاحظ فان خطط التنمية الموضوعة لا تشكل مرجعا لوضع التقديرات المالية السنوية.
السؤال السادس: هل أن موازنة 2015 تكفل مكافحة الغلاء وتساعد ذوي الدخل المحدود والمتقاعدين خصوصا على تحسين أوضاعهم؟
   من المعلوم أن غلاء المعيشة يشكل هما يوميا آخر من هموم الناس، إلى جانب البطالة وتآكل الاجور الحقيقية.
   وميزانية 2015 اعتمدت جملة اجراءات سيكون لها تأثير سلبي ملحوظ على الطبقات الفقيرة وذوي الدخل المحدود عموما من خلال تاكيدها على جملة اجراءات من بينها:
- تخفيض تخصيصات البطاقة التموينية من 4 مليار دينار الى اقل من 2.5 مليار.
- تقليص التعيينات حيث تم الزام الوزارات الاتحادية كافة بايقاف التعيينات ضمن التشكيلات التابعة لها من الشركات العامة والهيئات والمديريات الممولة ذاتيا التي تتلقى منحة من الخزينة العامة الاتحادية للدولة او القروض من المصارف الحكومية على ان تحذف الدرجات الوظيفية ضمن مفردات ملاك الجهات مدار البحث عند شغورها بسبب النقل او الاحالة على التقاعد او الاستقالة او الوفاة.
- زيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة وسيؤدي ذلك الى ارتفاع الأسعار في السوق المحلية، مما يؤدي بالدرجة الاولى الى تضرر الفقراء والطبقة الوسطى والموظفين الصغار بسبب تلك الضرائب والرسوم.
- ايقاف تمويل مشاريع لا تتجاوز نسبة التنفيذ فيها عن 50% كان يمكن ان تمتص جزء من البطالة.
- تأجيل تطبيق سلم الرواتب الجديد للموظفين من الدرجة العاشرة  إلى الدرجة الرابعة (علما ان هؤلاء يبلغ عددهم 2.740.258 ويشكلون 91% من اجمالي عدد القوى العاملة للوزارات والدوائر الممولة مركزيا لعام 2015 والذين يبلغ عددهم 3.027.067 شخصا) [15]، الامر الذي سيلحق الضرر بهذه الفئات ذات الدخل الواطئ ودون المتوسط .
- تأجيل الزيادات في رواتب الرعاية الاجتماعية.
للتقشف طابع طبقي بامتياز !
   يمكن القول أن الإجراءات التقشفية المعتمدة في موازنة 2015 لها طابع طبقي واضح جوهره انها تأتي بالضد من مصالح الكادحين وذوي الدخل المحدود.  
 ففي حال تطبيق هذه الاجراءات وفرض جملة من الضرائب والرسوم والتقييدات، فإنها ستحمّل الشرائح الواسعة من الكادحين وذوي الدخل المحدود والمنخفض الجزء الاكبر من أعباء التقشف، حيث هناك حوالي 6 ملايين شخص من كاسبي الاجور والمرتبات بما فيهم المتقاعدين اضافة الى مئات الالاف من الارامل وعوائل الشهداء وما يماثلهم، ومن هنا فان تدهورا واضحا سيطرأ على مستوى معيشة القطاع الاكبر من السكان، هذا اضافة الى ان معدلات التضخم تساهم في الحاق المزيد من الضرر بذوي الدخل المحدود.
 هذا في الوقت الذي يغيب فيه أي توجه جاد لزيادة ضريبة الدخل التصاعدية مثلا على ذوي الدخول العالية، وزيادة معدلات الضريبة على مختلف أشكال الثروة. وبهذا المعنى فإنه يراد تحميل الكادحين أعباء الازمة وليس تلك القوى التي تسببت في انتاج هذه الازمة وإدامتها وهي الغارقة في "عسل" الفساد ونهب الثروة الوطنية.
   وطبيعي الاشارة الى أن هذا الخيار: " ضغط الإنفاق وترشيده" لا يمثل حلا تقنيا بل هو في جوهره حل ذي طبيعة سياسية-اجتماعية- طبقية وستتضرر منه الفئات الكادحة بالدرجة الأولى.
 ومن جهة أخرى وكما اشرنا سابقا، فانه وارتباطا بخيار "ضغط الإنفاق وترشيده"، وفي ظل عدم وضوح الأولويات في الانفاق - بشقيه التشغيلي والاستثماري – فلابد من الانتباه الى أن النقص الحاصل في نفقات الاستثمار العمومي ستكون له نتائج سلبية مهمة في مقدمتها إمكانية تنامي الطبيعة المضارباتية للاقتصاد العراقي. ففي ظروف عدم تبلور استراتيجية تنموية واضحة، ووجود ضع أمنى متدهور، سيتم التوجه إلى القطاعات ذات الربحية السريعة (والتي بدأت تأخذ طابعا ريعيا بوضوح) دون إعطاء أية أهمية للقطاعات الإنتاجية، وهذا من شأنه أن يزيد من اختلال التوازنات الاقتصادية وهي المختلة أصلا.
السؤال السابع: اجراءات مواجه العجز في موازنة 2015: هل هي محايدة ام منحازة ولمن؟
   وهذا السؤال يتعلق بالاثار التي ستتركها الاجراءات المعتمدة في الميزانية عند وضعها موضع التطبيق العملي.
   بداية، لا بد من التاكيد على أن ظاهرة العجز بالموازنة العامة للدولة هي ظاهرة مركبة ومعقدة، ولا يجوز ارجاعها الى سبب واحد ووحيد، مثلما تفعل بعض الكتابات التي عادة ما تسطح الامور وتمسك بتلابيب مظاهرها دون الخوض في جوهرها. فهناك شبكة معقدة من العوامل والمؤثرات التي اسهمت في حدوث هذا العجز، وهي عوامل ومؤثرات بعضها يعود الى التغيرات التي حدثت في النفقات العامة، وبعضها الاخر يتعلق بالتغيرات التي حدثت في الموارد العامة للدولة. كما لا بد من التذكير بان الاهمية النسبية لتلك العوامل تختلف من بلد لاخر، ومن فترة لاخرى. ومن هنا تبدو خطورة التعميم، وبالتالي لن تكون هناك " وصفة " عامة تصلح لجميع البلدان لمواجهة هذا العجز.
   واضافة الى ذلك فانه ولاسباب منهجية لا يجوز التعامل مع مفهوم العجز بالمعنى المطلق بل ثمة حاجة ملحة هنا للتميز بين:
- العجز المالي/المحاسبي حيث عجز الميزانية يتمثل بزيادة نفقاتها على ايراداتها.
- والعجز الاقتصادي/الاجتماعي حيث يرتبط العجز هنا بالاثار الاجتماعية الاقتصادية السلبية التي التي تنجم عن السياسة المالية المعتمدة وعن المنهج المتبع في اعداد الموازنة وتنفيذه.
   وفيما بين هذين العجزين يمكن أن تكون العلاقة طردية أو تكون عكسية. فليس عجز الموازنة المالي المحاسبي بالضرورة متلازماً مع الآثار السلبية الاقتصادية والاجتماعية، بل قد يترافق على العكس، بتحقق آثار إيجابية عندما يكون مقصودا لتحقيق بعض اهداف السياسة المالية. والعكس صحيح أيضاً. فليس المهم هنا الرصيد الايجابي أو السلبي بل ما هو اهم الكيفية والوسائل التي يتحقق بها والتي تحكم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تتحقق معه.
   استنادا الى الملاحظات اعلاه وبالعودة الى الملموس، اي الى العجز في الموازنة، فإنه ومنعا لأي التباس لا بد من قراءة صاحية للعجز في الموازنة الفيدرالية لعام 2015 والبحث عن مدلولاته الاجتماعية من خلال عدم التعامل معه باعتباره هدفا أو رقماً مجرداً بحد ذاته.
   ومن المؤكد انه في ظل التفاوت الطبقي/الاجتماعي الواضح في البلاد فانه لا يمكن القبول بتفسير العجز ومصادر تمويله بشكل عام ومن دون تحديد ملموس، بل لا بد من ربط ذلك بسؤال اخر هو:
ما هي القوى المتضررة من اجراءات مواجهة هذا العجز؟
والجواب ان المتضرر الاكبر هو المواطنون من ذي الدخل الثابت والمحدود، أي ان نظام علاقات الانتاج السائد يعيد توزيع آثار العجز لصالح القوى المتنفذة وبالضد من مصالح الكادحين ومحدودي الدخل مما يعني ان الموازنة السنوية طبقية الطابع وليس مجرد واردات ونفقات وارقام صماء مجردة من أي روح.
   اذا عدنا لعجز الموازنه (وقد روج في الموازنات السابقة ان هذا العجز هو مجرد عجز حسابي (وقد انتقدنا ذلك في مقالة سابقة[16]) فانه يمكن القول انه كبير، وتزداد خطورته في ظل عاملين مهمين:
الاول: الافق غير الواضح لأكبر مصدر للايرادات والمتاتي من العوائد الناجمة عن تصدير النفط الخام حيث يلاحظ تذبذب اسعار النفط في السوق العالمية إذ يشكل العجز المتوقع في عام 2015، (25%) من اجمالي الايرادات المتوقعة و 32.2% من الايرادات النفطية المتوقعة لهذا العام. علما ان العجز المذكور يشكل 20% من اجمالي النفقات لعام 2015.
الثاني: يتعلق بمصادر تغطية العجز. وتوافقا مع السياسة المالية وبحسب قانون موازنة 2015 المعدل فان هذا العجز سيغطى من "الاقتراض الداخلي والخارجي ومن مبالغ النقد المدورة في حساب وزارة المالية الاتحادية ونسبة من الوفر المتوقع من زيادة اسعار النفط الخام المصدر او زيادة صادرات النفط الخام".
   للاجابة على هذا السؤال علينا العودة مجددا الى معطياتالجدول رقم 2 وتفكيكها الى مكوناتها، وما يهمنا هنا حجم المصادر الخارجية لتمويل العجز.
   ويخول قانون موازنة عام 2015 وزير المالية الاتحادي صلاحية الاستمرار بالاقتراض لغرض سد العجز في الموازنة العامة الاتحادية من:
(1) صندوق النقد الدولي بما يكمل مبلغ (4.5) مليار دولار (اربعة مليارات وخمسمائة مليون دولار).
(2) البنك الدولي بما يكمل مبلغ الـ (2) مليار دولار (اثنان مليار دولار) خلال سنة/2015 يخصص منها مبلغ (355) مليون دولار لوزارة الاعمار والاسكان لغرض تمويل اعمال طريق المرور السريع.
(3) باستخدام حقوق السحب الخاص SDR بحدود (1.8) مليار دولار (واحد مليار وثمانمائة مليون دولار) لتغطية العجز المتوقع في الموازنة العامة الاتحادية اضافة الى الاقتراض الداخلي بموجب حوالات الخزينة.
   ويعني ذلك ان حصة المؤسسات النقدية الدولية المؤشر اليها اعلاه ستشكل حوالي 40% من اجمالي مصادر تمويل العجز. ولابد من الاشارة الى ان الخطورة في هذا النهج تكمن في تكريس تبعية واعتماد الاقتصاد العراقي على الخارج والحد من سيطرة الحكومة العراقية، على اتجاهات إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي، مما يشكل في التحليل النهائي انتقاصاً للسيادة الوطنية.
   ولابد من الاشارة هنا الى ان سؤالا مفصلي يفرض نفسه وهو: هل يجب أن يتم تمويل العجز المتوقع بزيادة الاقتراض المحلي والخارجي وما يترتب عليه هذا الاقتراض من فوائد، ام بتحسين كفاءة الاداء وتوظيف الادخارات الحكومية والاهلية والهيئات والشركات العامة والخاصة، واعتماد ضرائب مباشرة على الدخول والثروات وعلى ضرائب غير مباشرة مفروضة على السلع والخدمات، وخصوصا المستوردة منها؟
   ولا بد من الاشارة الى ان مهندسي الموازنة يراهنون مجددا ايضا، دون ان يشيروا الى ذلك علنا، على "امكانية الارتفاع في أسعار النفط الخام " للتغلب على العجز وهو ايضا رهان على عوامل خارجية ليست مؤكدة، فأسعار النفط الخام على الصعيد العالمي تتعرض للتذبذبات صعودا وهبوطا.
   خلاصة الامر، إن اتجاه العجز في الموازنات السنوية وتفاقمه يعكس اختلالا هيكليا وليس شكليا. ولهذا يمكن القول أن العجز في موازنة 2015 ليس عجزا حسابيا بل هو عجز بنيوي. ولا يمكن معالجة هذا النوع من العجز إلا من خلال مقاربة أخرى وهو ما سنتوقف عندة في الفقرة التالية.
       ثالثا: الخيارات الاقتصادية-الاجتماعية الكبرى لمواجهة الازمة الراهنة؟
الحاجة الى مقاربة اخرى لاشكالية العجز
   مثل هذه المقاربة تستلزم أولا وقبل كل شيء تدشين نقاش مجتمعي بصددها وأن تنطلق من إعادة النظر في نمط الأولويات المعتمدة من طرف الحكومات المتعاقبة. وهذا لا يتطلب حلولا ترقيعية او اعتماد سياسات الهروب الى الامام والمقاربات المجتزئة للمشكلات الفعلية التي تواجه اقتصادنا في لحظة تطوره الملموسة بل مواجهة تلك المشكلات عبر رؤية استراتيجية جديدة.
   في مسعى الاجابة على السؤال المحوري اعلاه، يبدو من المفيد في البداية ان نشير الى مجموعة من الملاحظات التي ستكون حاكمة للتفكير في بلورة منهج آخر بديل عن المنهج الذي تعتمده الموازنة لمواجهة تحديات العجز المالي الكبير:
اولا: التعامل مع العجز في الموازنة العامة للدولة ليس باعتباره عجزا حسابيا تقليديا بل احد الاختلالات البنيوية المهمة التي تعانيها بلادنا، اي انه غدا صفة لصيقة بخصائص البنية الراهنة وانه يرتبط بمجموعة من الاختلالات البنيوية الاخرى. ومن ثم فان علاج هذا الاختلال يجب ان ياتي ضمن رؤيةvisionمتكاملة، او على وجه الدقة ضمن منظور تنموي شامل، لعلاج مجمل الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد العراقي. فلا معنى لعلاج هذا الاختلال اذا ظلت الاختلالات الاخرى بلا علاج.
ثانيا: ان من الخطورة بمكان علاج العجز من خلال الانكماش، أي تعطيل التنمية وزيادة البطالة وتردي مستويات معيشة السكان. ومن هنا لا بد من النظر الى علاج العجز في الموازنة العامة باعتباره احد المحاور الاساسية لاعادة احياء جهود التنمية وليس تبذير الموارد في ظل انعدام رؤية استراتيجية واضحة.
ثالثا: لا خلاف على ان علاج عجز الموازنة ستكون له تكلفة ما، ولكن المشكلة ليس في التكلفة ذاتها وانما بالاجابة على سؤال اخر: ما هي القوى الاجتماعية التي ستتحمل هذه التكلفة وضرورة ان توزع على الناس بشكل يراعي العدالة الاجتماعية. وهذا يعني ضرورة ان يتناسب العبء مع القدرة على التحمل، فالاغنياء يجب ان يتحملوا نصيبا من هذا العبء اكبر مما يلقى على كاهل الفقراء ومحدودي الدخل. وقد بيّنا في مكان اخر من هذه المساهمة ان موازنة 2015 منحازة للاغنياء على حساب الفقراء.
رابعا: تجنب ان لا يكون النقاش حول العجز ومواجهته حبيس غرف مغلقة ومحصورا بـ "المستشارين" بل لا بد ان يكون هناك حوار حوار شعبي لمناقشة السياسات والاجراءات الجديدة المقترحة لعلاج العجز وذلك عبر المؤسسات الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني حتى يكون هناك اقتناع بجدوى علاج العجز واقتناع بتلك السياسات والاجراءات.
ملخص القول: البلاد بحاجة الى رؤية اجتماعية – سياسية جديدة تختلف عن تلك الرؤية التي حكمت الخيارات الاقتصادية الكبرى و نمط توزيع الأولويات الخاصة بالإنفاق الحالي.
وفي ضوء الرؤية اعلاه هناك عدة محاور اساسية لعلاج العجز من بينها:
أولا: ترشيد الانفاق العام. ليس المقصود بالترشيد هنا، تخفيض الانفاق العام بالضرورة، او كبح نموه بشدة كما ينادي بذلك انصار المنهج الانكماشي، بل المقصود هو زيادة الكفاءة الانتاجية للانفاق العام في المجالات التي يذهب اليها. ونبدو اهمية هذه القضية على وجه الخصوص حينما نعلم، ان كثيرا من مجالات وبنود الانفاق العام تنطوي على اسراف شديد، وعلى انعدام الرشادة في استخدام الموارد، بل واحيانا ينطوي الامر على تبديد للموارد أو نهب المال العام. وهناك الكثير من الدلائل عن نسب تنفيذ المشاريع التي غالبا لا تتجاوز الـ 50% على ابعد تقدير. بل ان بعضها لا تتجاوز نسب الإنجاز فيه تتراوح بين 5 و10% وهو ما اشرنا اليه في مكان آخر من هذه الدراسة.
     ان ترشيد الانفاق العام، سيتطلب، بصفة عامة، اخضاع موازنات الوزارات والمؤسسات والادارات الحكومية لرقابة مالية فاعلة من جانب ديوان الرقابة المالية والبرلمان وهيئة النزاهة .. الخ من المؤسسات الرقابية. ومن هنا ضرورة ربط قضية مكافحة الاسراف في تبديد الموارد ونهب المال العام بتوافر الديمقراطية وتعزيز الشفافية.
   ولا بد من التوقف هنا عند قضية يدور حولها صراع فكري، الا وهي قضية الاجور الحكومية. فهناك من يعتقد (مثل البنك الدولي) بانه لما كان بند الاجور وتعويضات المتقاعدين وما يماثلهما يستحوذ على نسبة مهمة من جملة الانفاق العام، بسبب زيادة اعداد الموظفين العموميين الذين يعملون، ويديرون، مختلف اجهزة الدولة فان اعتبارات خفض عجز الميزانية ورفع كفاءة الانجاز في تلك الاجهزة تقتضي تسريح اعداد كبيرة منهم، او خفض اجورهم، وتاجيل علاواتهم الاجتماعية، فضلا عن تجميد التوظيف الحكومي او تقليصه الى حدود كبيرة. ورغم ان هذا الاجراء قد ينجح في تحقيق ضغط لا باس به في بند الاجور والمرتبات في الموازنة العامة، الا انه يؤدي الى أثر سلبي يتمثل في مفاقمة مشكلة البطالة، وما ينجم عنها من آثار ومشكلات اجتماعية وسياسية وامنية لا يستهان بها. ومن وجهة النظر الاجتماعية فان هذا الاجراء هو اجراء غير انساني اولا، ويعامل البشر معاملة الجماد (ينظر اليهم على انهم مجرد بند من بنود الانفاق العام). وعلى المستوى الاقتصادي، فان هذا الاجراء يؤدي الى تعميق حالة الكساد في البلد، لان الاجور وان كانت اهم وأكبر بنود الانفاق العام في الموازنة العامة، الا انها من ناحية اخرى هي المصدر الاساسي لدخل قطاع عريض من المواطنين والمنبع الاساسي لانفاقهم. وبالتالي فان خفضها من خلال تسريح العمالة الحكومية – سوف ينعكس مباشرة في تخفيض حجم الطلب الكلي الداخلي، مما سيكون له تأثير انكماشي في الانتاج والاستثمار.
ثانيا: اعادة ترتيب اولويات الانفاق العام. بداية، لا بد من الاشارة الى ان اعادة النظر في نمط الاولويات هنا، وهذا يتطلب رؤية اجتماعية وسياسية مختلفة عن تلك الرؤية التي حكمت توزيع الاولويات للانفاق العام حتى هذه اللحظة، رؤية تنحاز للعقلانية الاقتصادية، ولمبادئ الترشيد، والتنمية المستدامة، وللعدالة الاجتماعية.
   ومن الضروري هنا ان يتم في موازنة عام 2015 ضغط فعلي شديد لأبواب وبنود الأنفاق غير الضرورية والتي لا تحتل اولوية، ومن أهمها بنود شراء الأثاث والسيارات ونفقات ادامتها، وباب الايفادات واقتصارها على تلك الضرورية والتأكيد على اقامة الدورات التدريبية التي ترفع من مستوى الأداء وأن يجري تنظيمها داخل العراق، كما يمكن ان يشمل التقليص بنود النثرية والضيافة والمكافآت لكبار المسؤولين.
ثالثا: تنمية الموارد العامة. هناك نوعان من الضرائب: الضرائب المباشرة والضرائب غير المباشرة.
وفيما يخص الضرائب المباشرة، فانه ايا كانت طبيعة التطوير المطلوب، فان هناك اربعة اعتبارات مهمة، نعتقد انه من الضروري مراعاتها عند تطوير الضرائب المباشرة:
- اعتبار العدالة الاجتماعية، أي ضرورة ان يتناسب العبء الضريبي مع المقدرة على الدفع ومراعاة ظروف محدودي الدخل.
- اعتبار ان الا تؤثر السياسية الضريبية الجديدة واجراءات التطوير بشكل سلبي في حوافز الادخار والاستثمار والعمل.
- ضرورة مراعاة اعتبارات الكفاءة في التحصيل الضريبي، أي خفض التكاليف الادارية لتحصيل الضرائب.
- اعتبارات " المرونة " وهو ما يعني ضرورة تحريك الحصيلة الضريبية في اتجاه موازٍ لزيادة الدخل والناتج.  
   اما الضرائب غير المباشرة وهي ضرائب لا تميز بين غني وفقير، وبالتالي فهي ضرائب لا يتوافر فيها عنصر العدالة الاجتماعية. وفي حالات كثيرة ستؤدي زيادة هذا النوع من الضرائب، وبالذات المفروضة على سلع الاستهلاك الضروري، الى المساس باوضاع الفقراء ومحدودي الدخل مما ستكون له اثار اجتماعية ونفسية ضارة.
ومن الضروري أن يتجه التفكير إلى الضرائب التصاعدية، كضريبة الدخل باعتبارها أكثر عدلا من الضرائب غير المباشرة، كأن يصار إلى رفع نسبة الضريبة على الشرائح العليا من الدخل ، وأن تشمل ذوي الدخول المرتفعة من غير العاملين في الدولة، ككبار التجار ورجال الأعمال والمقاولين وأصحاب المهن الحرة. كما يمكن رفع نسبة الضريبة على الممتلكات العقارية وعلى الميراث.
وفيما يخص تأمين التمويل اللازم للعجز، فمن الافضل عدم اللجوء للاقتراض الخارجي لما يترتب عليه من اعباء اضافية وفي مقدمتها الفوائد المفروضة على القروض وما يرتبط بها، غالبا، من شروط مجحفة، وذلك بالتوجه نحو الاقتراض من المصارف الحكومية ومن صندوق رعاية القاصرين، وكذلك النص على إصدارسندات بفائدة مناسبة للاقتراض من الجمهور، فذلك من شأنه تشجيع الادخار وتطوير الأدوات المتاحة للتداول في سوق الاوراق المالية.
بعض الخلاصات الختامية
يتيح العرض السابق بلورة الخلاصات التالية:
1. في اطار الظروف الحالية الناجمة عن انخفاظ عوائد النفط ومواجهة الارهاب وفي مقدمته (داعش) وملحقاته فإن السياسة الانكماشية التي ارتكنت اليها موازنة 2015 يمكن أن تؤدي إلى التضحية بالتنمية، وبالتالي الابقاء على ذات البنية الاقتصادية المشوهة والاحادية الجانب التي تهيمن فيها الريوع النفطية ويتصاعد فيها دور النشاطات الخدمية و تهمل فيها قطاعات الانتاج المادي. إنها تحد بذلك من هامش تحرك الميزانية العامة وعدم إيلاء الاهتمام الواجب لنفقات الاستثمار في ظل سياق يتسم بتفاقم البطالة، واتساع دائرة الفقر، وسيادة التهميش الاجتماعي، والوضع الأمني المضطرب الناجم عن جملة عوامل من بينها اجتياح داعش وما تركه من اثار وضغوطات اجتماعية-اقتصادية – سياسية .. الخ، هذا اضافة الى الصراعات بين المتنفذين حول السلطة والنفوذ واعادة توزيع الكعكة (رغم انها انخفضت كثيرا بسبب انخفاض اسعار النفط وبالتالي تناقص العوائد النفطية).
2. البديل لهذه السياسة هو اعتماد سياسة مالية تستند الى استراتيجية تنموية تسعى الى رفع معدلات الدخل القومي، واعادة بعث النشاط في فروع الاقتصاد، والقضاء على البطالة بخلق فرص عمل بهدف الرفع من القدرة الشرائية للمواطنين، ورفع مستويات المعيشة، وبعث الحيوية في قدرة الدولة على أداء وظائفها وليس تهميشها ودفعها لتلعب دور لا يزيد عن مجرد خفير ليس الا!.  
3. بهذا المعنى، تحتاج البلاد اذن اليوم الى منطق آخر للتفكير.. ليس هناك كُثر في القوى المتنفذة من هو راغب او يريد تجاوز المشكلات البنيوية العديدة، بما فيها المشكلات الاقتصادية، بل على العكس يراهن البعض على اعتماد سياسات الهروب للامام، الامر الذي يؤدي الى اعادة انتاج الازمات وليس التغلب عليها.
4. ولهذا فإن الصراع بشان الميزانية انما هو صراع بدائل وليس مجرد لعبة ارقام حسابية تبحث عن العجز في الموازنة كمن يبحث عن ابرة في كومة قش.  
5. واخيرا علينا ان نذكّر مجددا بان علاج عجز الموازنة الاتحادية لعام 2015، وهو عجز فعلي، ستكون له تكلفة. غير أن المشكلة الاساسية، كما ذكرنا سابقا، لا تكمن في التكلفة بحد ذاتها بل أن الأمر يتعلق بمن هي القوى الاجتماعية التي ستتحمل هذه التكلفة؟
   لهذا يطرح مطلب أن تعمل موازنة 2015 بشعار: من كل حسب قدرته! وبفصاحة شديدة: يجب أن لا تتم اجراءات سد العجز المتوقع على حساب الطبقة العاملة والكادحين عموما من جهة ولصالح "الحيتان الكبيرة" من جهة أخرى وهي غير المتضررة اصلا من الأزمة، فليس عادلا "تشريك" الاعباء وتوزيعها بـ "التساوي" بذريعة ان الازمة تطول الجميع !.
* النص الكامل للمداخلة التي قدمت في الندوة الجماهيرية التي نظمها التيار الديمقراطي العراقي في ستوكهولم ونادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم وبالتعاون مع مؤسسة ABF/ستوكهولم وذلك مساء يوم الجمعة 27/شباط 2015.

[1]جمهوريةالعراق،البنك المركزي العراقي،المديرية العامة للإحصاء والأبحاث،التقريرالاقتصادي السنوي للبنك المركزي العراقي، 2012. وكذلك لعام 2013.
[2]انظر: جمهورية العراق، وزارة التخطيط، خطة التنمية الوطنية 2013-2017، بغداد، كانون الثاني 2013، ص 80.
[3]انظر: جمهورية العراق، وزارة التخطيط،خطة التنمية الوطنية 2013-2017،المصدر السابق،جدول (3-9)، ص 45.
[4]انظر: وزارةالعمل : نسبة البطالة في العراق بلغت 46 % من نسبة السكان. متاح على الانترنيت على الرابط التالي:
http://www.iraqpressagency.com/ar/2014/05/16/%D9%88%D8%B2%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84-%D9%86%D8%B3%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A8%D9%84%D8%BA/
[5]لمزيد من التفاصيل راجع خطة التنمية الوطنية 2013-2017، مصدر سبق ذكره.
[6]المصدر السابق، ص 45.
[7]لمزيد من التفاصيل انظر: جمهورية العراق، رئاسة مجلس الوزراء ح- هيئة المستشاري و وزارة النفط والمعادن، الاستراتيجية الصناعية في العراق حتى عام 2030- ملخص تنفيذي، تموز 2013، ص 5.
[8]قارن: الاستراتيجية الصناعية في العراق حتى عام 2030- ملخص تنفيذي، مصدر سابق، ص 5.
[9]لمزيد من التفاصيل قارن: د.مظهر محمد صالح، رأس المال المالي للدولة ورأس المال المالي الأهلي. متاح على الانترنيت على الرابط التالي: http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=49096
[10]د.صالح ياسر ، " عملية رفاهية العراق " بين الصخب الاديولوجي وحقائق الواقع الصارمة - ملاحظات أولية حول المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال، " طريق الشعب"، العدد 22/السنة 68، 20-26/تموز 2003، الملحق الاقتصادي للعدد ذاته.
[11]احصائية اسبوعية باعداد العوائل النازحة المشمولة بمنحة الطوارئ لغاية 8-2-2015، اعداد دائرة المعلومات والبحوث/قسم الاحصاء وبنك المعلومات
[12]قارن: التخطيط تكشف ملامح الموازنة العامة للعام 2012، متاح على الانترنيت على الرابط التالي:
[13]لمزيد من التفاصيل انظر: بطء تنفيذ المشاريع يعيق النمو بالعراق. متاح على الانترنيت على الرابط التالي:
http://www.aljazeera.net/news/ebusiness/2014/11/26/%D8%A8%D8%B7%D8%A1-%D8%AA%D9%86%D9%81%D9%8A%D8%B0-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B9-%D9%8A%D8%B9%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%85%D9%88-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82
[14]لمزيد من التفاصيل قارن: د.كامل العضاض، الموازنة المالية الاتحادية لجمهورية العراق للسنة المالية 2015 وما لها وما عليها (نقد تحليلي)، متاح هلى موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين على الانترنيت:
http://iraqieconomists.net/ar/2015/01/08/%D8%AF-%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B6%D8%A7%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AA%D8%AD/
[15]راجع جدول (ج) في موازنة 2015 والذي يظهر تحت عنوان: القوى العاملة للوزارات والدوائر الممولة مركزيا لسنة/2015.
[16]انظر: د.صالح ياسر،العجزفي موازنة 2010 ليس حسابيا.. انه عجزحقيقي !. متاح على الانترنيت على الرابط التالي:
http://www.sotaliraq.com/articlesiraq.php?id=58458#axzz3TXs6owBo