مدارات

الثقافة الجديدة .. مجلة وقضية

صدرت «الثقافة الجديدة» كمجلة شهرية في تشرين الثاني 1953 ولثلاثة اعداد فقط.. ولكنها شاءت ان تتحول الى قضية موصولة بالتطلع الى الحريات العامة، بل وصارت «رمز معركة من أجل الديمقراطية ومن أجل حرّية الفكر في العراق».ومأثرة المجلة الأولى التي اسهم في الكتابة لها شيوعيون وديمقراطيون وقوميون، أنها أمسكت، منذ أول عدد، بخيط الموازنة الصعب.. الموازنة بين عملية البحث والتنوير وبين الأسلوب المناسب للعبور من « خرم» الحريّة الضيّق الى فضاء القراء في وقت اطبقت فيه يد النظام على كل ما يحض على التفكير والوعي بصلة وكل ما له علاقة، على أي نحو، بالأفكار الشيوعية والاشتراكية.ولم يبق ذلك « الخرم» سالكاً حتى عندما عادت الثقافة الجديدة، بعد اغلاقها لأول مرة- بعد العدد الثاني تحت ملكية النائب الوطني عبد الرزاق الشيخلي ..فصدرت بعد ذلك لعدد واحد ثم أغلقت.ومع أن الشيوعيين كانوا أحد روافدها، وربما هم وأصدقاؤهم يشكلون رافدها الأساسي، الا أن السلطات الملكيّة اعتبرتها شيوعية خالصة. ودلل الحوار الذي جرى في مجلس النواب بين النائب الشيخلي ورئيس الحكومة فاضل الجمالي على حجم خوف السلطة الاستبدادية أزاء التفكير العلمي التنويري.. فقد جرى ذلك الحوار، كما جاء نصه في الصحف العراقية، هكذا:
الجمالي يرد على استفسار الشيخلي عن سبب اغلاق - الثقافة الجديدة- : أنها مجلة حمراء.
ــ الشيخلي: دلني على سطر واحد فيها - شيوعية - .
الجمالي: المجلة كتبت بعناية ولكنها حمراء من الغلاف حتى الغلاف.
ــ الشيخلي: انكم تضطهدون حرية الفكر.. وسيأتي يوم ما إما تعلقونا فيه على أعمدة الكهرباء في الشوارع، وأما أن نعلقكم عليها.
وعندما اصرت الحكومة على قرارها باغلاق الثقافة الجديدة رفع واحد وأربعون شخصية سياسية وثقافية وجامعية عراقية مذكرة الى رئيس الحكومة احتجوا فيها على اضطهاد حريّة الفكر وطالبوا بعودة المجلة «التي سدت فراغاً كبيراً في الحياة الثقافية، واحتلت مكانة حسنة.. واننا في وقت أحوج مانكون الى امثالها.ومما له مغزى أن الثقافة الجديدة شددت في افتتاحية العدد الأول منها على انها مجلة «تقدمية» تؤمن بوجود أفكار رجعية تحاول منع تقدم المجتمع.. وهي « علمية» لأنها ترى الوسيلة الصحيحة للوصول الى الأفكار التي يتوق لها المجتمع هي البحث العلمي. وهي « شعبية» لأنها تعتبر نفسها وسيلة من وسائل الشعب، وسلاحاً في يده. وهي « قومية» لأنها تعتبر أن من حق، بل من واجب، كل قومية من القوميات أن تعنى بتراثها القومي وتبذل جهدها في تطويره وتنميته، وهي كذلك» أنسانية» لأنها تعتقد ان البشر يستطيعون العيش اخواناً على الأرض.وفي هذا العدد نشرت مقالات عدة وبحثاً عن «البيروقراطية والدولة» تناول نشوء الدولة في ضوء التحليل الماركسي اللينيني وخلص الى تسليط الضوء على « نمط» الدولة في العراق. ويضم العدد الثاني مقالات عن - بابلونيرودا- و- الحرب في اسبانيا - و- تداعي النظام الكولنيالي- و- قيمة الوعي في الأدب- وعن واقع المسرح العراقي.أما العدد الثالث فقد تصدرته افتتاحية بقلم عبد الرزاق الشيخلي أستهلها بتثبيت الحاجة الى صحيفة تنقل الى الناس من الأدب ما اعتقد أنه يلائم روح العصر ويوافق مقتضيات التطور الانساني، ويصور لنا حياتهم القائمة على حقيقتها الحالكة: ذليلة، عسيرة، جوفاء... وكما يجب أن تكون : كريمة، رضية، حافلة. وفي صدور» الثقافة الجديدة» واغلاقها بعد ثلاثة اعداد وعودتها بعد أكثر من أربع سنوات ثمة معاني، هي سر اعتبارها جزءاً هاماً من تاريخ حركة الأدب والفكر في العراق:
الأولى، أن المواد المعّدة للعدد الرابع بقيت في المطبعة بعد اغلاق المجلة بحماية العمال واعتزازهم ،وكانت هي نفسها مواد أول عدد صدر في العهد الجمهوري وفي هذا مغزى للوشيجة العميقة بين « الثقافة الجديدة» ونخب العمال المتنورين، واشارة الى خط تواصل المجلة على اهمية مواد تحتفظ دائماً بقيمة تحليلاتها العلمية.الثانية، أنها صدرت في عددها الرابع عن مركز الحزب الشيوعي العراقي، وكان يرأس تحريرها الشهيد عبد الرحيم شريف، عضو اللجنة المركزيّة للحزب، وسكرتير أول نقابة للصحفيين العراقيين .. دليلاً على احترام الحزب للاجتهاد والبحث ووجهات النظر الديمقراطية .. المؤمنة بالعلمية .الثالثة، أن صيغة التحالف الثقافي الرحب التي تأسست في العدد الأول، بين الشيوعيين والديمقراطيين والقوميين اغتنت ، فيما بعد، وتشربت مضموناً جديداً ينهل من المعطيات الجديدة للحياة ويستشرف مستقبلها المنير.
ـــــــــــــــــ
* من «العصبة» الى «طريق الشعب / عبد المنعم الاعسم