مدارات

بريماكوف .. عندما يكون رجل السياسة عالماً / عبد الله حبه – موسكو

صدر في موسكو آخر كتاب للسياسي المخضرم الراحل يفجيني بريماكوف بعنوان " روسيا .. الآمال والسياسة". لقد أراد الكاتب إصداره بعنوان آخر هو " افكار صائتة-2"، حيث صدر قبل هذا كتاب آخر هو الأول بهذا الاسم. ويتضمن الكتاب رؤية بريماكوف للاحداث في روسيا وخارجها خلال الفترة الاخيرة، والتي تعكس شخصيته المثالية بصورة أكثر من كونها براجماتية. وحسب قول حفيده الصحفي يفجيني بريماكوف الاصغر"ساندرو" فانه لم يكن يتوقع أن تكون السياسة بهذه القذارة، ولهذا تألم كثيرا لخيانة الاصدقاء أو من اعتبرهم من الاصدقاء. ولكنه لم يكن يدخل في مماحكات مع أحد أو يذهب إلى المحاكم عند الإساءة اليه. وكان يقول انني لا احاول ابداً إرضاء أحد أو نيل اعجابه " باستثناء النساء".
وقد أثار دهشتي اهتمام الكرملين بتنظيم مراسم جنازة بريماكوف بعد وفاته، حيث وضع جثمانه في قاعة الاعمدة في دار النقابات بوسط موسكو؛ أي في القاعة التي وضع فيها جثمان لينين ومن ثم ستالين سابقاً. ووقف حرس الكرملين في صفوف متراصة من المدخل الى الطابق الثاني، واصطف عند الجثمان كبار رجال الدولة بالتتابع. ووضعت أكوام الزهور هناك لكثرة الناس القادمين لتوديع الراحل. كما جرى دفنه في الساحة المخصصة لرؤساء الدولة قريباً من قبر الرئيس الاسبق يلتسين في مقبرة العظماء في دير نوفوديفيتشيه . وجدير بالذكر إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حضر في قاعة الاعمدة وفي المقبرة، وألقى كلمة أشاد فيها بخصال بريماكوف وخدماته الى الدولة الروسية. كما خصصت وسائل الاعلام المرئية وغير المرئية برامج خاصة عن الفقيد، ونقلت مراسم جنازته كما لو كان الشخصية الاولى في الدولة وليس رئيساً لنادي ميركوري للعلاقات التجارية الدولية.
إن شخصية بريماكوف تطرح مغزى أن يكون رجل السياسة عالماً وواسع الثقافة مما يجعله متوازناً في أحكامه وذا قدرة كبيرة على التحليل، بالاضافة إلى الحزم وعدم التسرع في اتخاذ القرارات قبل دراسة الاوضاع. ويذكرني الفقيد بشخصية هوشي منه الزعيم الفيتنامي الذي التقيته في عام 1962 حين زرت فيتنام لحضور مؤتمر طلابي دولي. فهذا الرجل الذي هو خريج جامعة السوربون وقاد نضال الشعب الفيتنامي ضد الاستعمار الفرنسي ومن ثم الامريكي، استقبل الوفود الطلابية بملابس الخاكي وبالشورت ونعل مصنوع من اطارات السيارات، وكان يسكن في كوخ متواضع وينام على سرير حديدي بسيط. لكن هذا الزعيم كان واسع الثقافة، ووضع بين اهدافه الرئيسية محو الأمية في البلاد قبل كل شئ، واستفاد من خبرات الشعوب الأخرى في النضال ضد الاحتلال الاجنبي وفي طليعتها تلاحم الناس حول فكرة وطنية وتحشيد كافة الطاقات لتحقيق هذا الهدف. وقد شاهدت في المدارس الفيتنامية التلامذة أيامذاك جالسين على الارض ويكتبون على أوراق الموز حيث لم يكن يتوفر لدى الدولة المشغولة بمقارعة المستعمر المال لشراء الورق والاقلام لهم. ان هوشي منه كان يعلم إن النصر على المحتل الاجنبي لن يحققه الانسان الجاهل الذي يغدو ببساطة لعبة بأيدي تجار السياسة. هذه نظرة الزعيم العالم ورجل السياسة المتنور. إنه ليس مثل بعض حكامنا واكثرهم من الجهلة بالوراثة والحاصلين على المناصب في غفلة من الزمن أو بانقلاب عسكري أو باحتلال الاجنبي للبلاد الذين يعتبرون المواطن المتعلم والمتنور خطرا عليهم.
لقد كان بريماكوف يتمتع بلقب اكاديمي وبعضوية هيئة رئاسة اكاديمية العلوم الروسية، وترأس في اوقات مختلفة السوفيت الاعلى في الاتحاد السوفيتي وجهاز الاستخبارات الخارجية ووزارة الخارجية والحكومة الروسية وغرفة التجارة والصناعة في روسيا الاتحادية. بدأ حياته صحفياً في إذاعة موسكو ومراسلا لجريدة البرافدا ومديرا لمعهد العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي ومن ثم معهد الاستشراق بموسكو. وقد واصل طوال تلك الفترات كتابة البحوث العلمية ولا سيما في مجال الاقتصاد السياسي والعلاقات ادولية. والتزم في جميع المناصب التي تولاها بمبدأ الدفاع عن المصلحة العامة، وليس كسب المنافع الشخصية. ولهذا لم يصبح من كبار رجال المال كحال الكثير من السياسيين في الغرب وفي بلداننا العربية ومنها العراق. وكان في جميع المناصب التي شغلها يجذب للعمل معه كبار العلماء والخبراء في مختلف الاختصاصات. وعندما عمل مديراً لجهاز الاستخبارات الخارجية، أراد انقاذ هذا الجهاز المهم من الانهيار بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. وصار يصدر سنويا "الكتاب الابيض" حول الاخطار الخارجية التي تهدد روسيا. وعندما تولى منصب وزارة الخارجية، اختار الى جانبه العديد من الخبراء في القانون والاقتصاد ومختلف الاختصاصات، من أجل تحديد سياسة الدولة في المرحلة الصعبة التي مرت بها البلاد بعد زحف الناتو نحو الشرق بهدف تهميش دور روسيا في أوروبا. وكان بريماكوف السياسي الوحيد في روسيا الذي أمر طائرته المتجهة الى واشنطن بتغيير اتجاهها والعودة الى موسكو عندما علم أن الناتو بدأ بقصف البلقان خلافا للاتفاق بشأن حل مشكلة البلقان سلمياً. وقد عارض دوماً حل المشاكل الدولية بقوة السلاح. وهذا كان موقفه من الحرب في افغانستان ومن الاحتلال الامريكي للعراق وقصف ليبيا ومن الاوضاع في بلدان " الربيع العربي" ودور القوى الاجنبية في ظهور " داعش". وكان ينطلق في جميع احكامه بشأنها انطلاقاً من ثقافته الموسوعية وخبرته العملية في مختلف مناصب الدولة .
لقد اتيحت لي الفرصة للعمل معه عند ترجمة أربعة من كتبه الى العربية وسلسلة مقالاته الاسبوعية لجريدة "الشرق الاوسط". وقد ادهشتني معرفته الجيدة للغة العربية، حيث كان يتصل بي هاتفياً ليبلغني أن المصطلح الفلاني الذي اوردته في الترجمة يتعارض مع ما كان يريد التعبير عنه. وأثار عجبي مدى تواضعه في التعامل معي حيث انني بالنسبة له مجرد مترجم. وعندما كنت أزوره في مبنى غرفة التجارة والصناعة الروسية، أجده رغم مشاغله الكثيرة يصغي إلى أقوالي ويقدم لي نصائحه. وحدث مرة ان قرر نشر مجموعة مقالاته المترجمة الى العربية ( لم تنشر مع الاسف بسبب الخلاف حول حقوق النشر)، أن دعاني اليه وابدى عدة ملاحظات حول المقدمة وذكر فيها انني مترجمه الخاص. وكان يدهشني انه يقوم بجميع التعديلات في الجمل بنفسه. وقد علمت من سكرتيرته أنه يكتب كل شئ بخط يده، ولا يسمح لأحد من مساعديه بكتابة أي شئ بإسمه كما يفعل عادة كبار المسئولين في الدولة.
يتناول بريماكوف في كتابه الاخير بالتحليل أحداث الفترة الثانية من ولاية بوتين الرئاسية. ويشير فيها إلى دور الرئيس بوتين الكبير في الحفاظ على الدولة الروسية من التفكك والانهيار في فترة عصيبة من تاريخ البلاد في مطلع القرن الواحد والعشرين من دون شطب انجازات البلاد خلال سبعين عاماً من الحكم السوفيتي. فقد حال دون عودة البلاد الى النظام الشمولي السابق، وكذلك دون سيطرة الطغمة الاوليجاركية التي سادت في فترة التسعينيات من القرن الماضي عند انتقال الاقتصاد إلى نظام السوق بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ووضع بوتين حداً للحرب الشيشانية، وحافظ على النظام الفيدرالي وعلى وحدة روسيا وحال دون انزلاق روسيا الى مستنقع " اللبرالية الجديدة"، وأبعد البلاد عن خطرين رئيسيين هما التطرف القومي والنزعة الشوفينية. علما أن بوتين عارض تغيير الدستور من اجل البقاء في منصب الرئيس لولاية ثالثة، بالرغم من قدرته آنذاك على تمرير القانون بهذ الشأن لتمتعه بالاغلبية في البرلمان.
ويشير المؤلف في مؤلفه إلى ظهور واقع جديد على الصعيد الدولي هو تعدد القطبية، بالرغم من محاولات الولايات المتحدة فرض سيطرة القطب الواحد. وكان هدف البلاد هو المحافظة على استقلالها والدفاع عن المصالح الوطنية مع ابقاء الابواب مفتوحة للتفاوض مع الغرب بشأن مواجهة الاخطار التي تواجه البشرية مثل الارهاب والنزاعات الاثنية وتجارة المخدرات وهلمجرا.
واجه بريماكوف الكثير من المصاعب لدى توليه المناصب الحساسة، ولاسيما في منصب رئيس الوزراء الذي تولاه من اجل انقاذ اقتصاد البلاد بعد إعلان كيريينكو رئيس الحكومة السابق افلاس الدولة. وروى بريماكوف أنه حين جاء الى مكتبه الجديد وجد فيه عدداً من العاملين في ديوان الحكومة وبينهم الملياردير بوريس بيريزوفسكي. وقد دهش لذلك، لأن بيريزوفسكي ليس من العاملين في جهاز الدولة. فطلب منه مغادرة مبنى مجلس الوزراء فورا. ومجمل القضية ان الطغمة الاوليجاركية اليهودية ومن ضمنها بيريزوفسكي وخودوركوفسكي وجوسينكسي وفريدمان وآفين وغيرهم سيطرت في عهد الرئيس بوريس يلتسين على جميع مفاصل اقتصاد الدولة ودوائرها الاعلامية، باستغلال العلاقة مع زوجته اليهودية. وكان أفرادها يتدخلون في شؤون جميع دوائر الدولة. ولهذا فعندما تولى بريماكوف منصب رئيس الوزراء عمد فوراً إلى تقييد نفوذهم واعادة تشغيل المصانع والمؤسسات الانتاجية التي توقفت عن العمل، وإعادة سيطرة الدولة على المواقع الاستراتيجية في الاقتصاد ووضع حد لتهريب مليارات الدولارات إلى الخارج ولاسيما الى مناطق الاوفشور. وأثار موقف بريماكوف هذا حفيظة الاوليجاركيين الذين استغلوا تاتيانا ابنة يلتسين ومستشارته السياسية آنذاك بمنحها الاسهم في شركاتهم في ابعاد بريماكوف عن منصب رئيس الحكومة بعد عدة اشهر فقط من توليه هذا المنصب.
يتناول بريماكوف في كتابه العديد من القضايا الداخلية والخارجية التي تتعلق ببناء الدولة، وبالاخص الاقتصاد وعدم الاعتماد على تصدير النفط والغاز وتطوير الصناعة الحربية وتقوية الجيش ومواصلة البرامج الفضائية وعلاقات روسيا مع الدول الاخرى. ويشير بصفة خاصة إلى أخطاء غورباتشوف ويلتسين التي أدت الى اضعاف مواقع روسيا لاحقاً. ويشير بصورة خاصة إلى موافقة غورباتشوف على توحيد المانيا بدون طرح أية شروط مسبقة، ومنها قضية انضمامها الى الناتو وتوسع الحلف باتجاه الشرق. فقد قاد ذلك إلى طرح فكرة القطب الواحد المتمثل بالولايات المتحدة، وإبعاد روسيا الدولة النووية ووريثة الاتحاد السوفيتي عن السياسة العالمية. وحسب قوله، فإن السياسة الامريكية اعتمدت وما زالت تعتمد على التوسع الاقتصادي في كافة انحاء العالم، ووضع اقتصادات الدول الاخرى تحت سيطرتها وبضمن ذلك باستخدام القوة العسكرية من دون اخذ موافقة مجلس الامن الدولي. كما إنها استغلت "الثورات الملونة" لتغيير الانظمة كما جرى في جورجيا واوكرانيا. وتطرح الولايات المتحدة عندئذ حجة نشر الديمقراطية في العالم. إن حكام الولايات المتحدة لم يرفعوا الآن شعار مكافحة الشيوعية كهدف لهم، بل نشر الديمقراطية. إنها الفكرة الايديولجية نفسها التي كان يلتزم بها الاتحاد السوفيتي سابقاً؛ أي فرض نظام ما على البلدان الاخرى من دون مراعاة تقاليدها ومستويات تطور مجتمعاتها. وكانت النتيجة نشر الفوضى في بلدان الشرق الأوسط بما يسببه ذلك من مآس ودمار وظهور القوى المتطرفة من قبيل " الدولة الاسلامية "، حيث دعمت واشنطن القوى الاسلامية المتشددة المعارضة للحكم في سورية والعراق، وأدى ذلك إلى نشوء الصراع الطائفي الذي لم يكن بهذه الحدة سابقاً. ويدفع الثمن غاليا ابناء هذين البلدين،علماً أن كل هذا يجري دون ايلاء أي اهتمام إلى هيئة الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي. وحسب رأي بريماكوف، فإن خطر " الدولة الاسلامية " يكمن في تحولها إلى مركز عالمي للتطرف الديني، حيث صار يلتف حوله الجهاديون من مختلف القارات وبلغ عددهم حسب معطيات وكالة المخابرات المركزية أكثر من 30 ألف مقاتل. ويتلقى هذا التنظيم المتطرف الدعم من بعض الدول المجاورة وغير المجاورة، فهو لا يستطيع البقاء بدون الحصول على الدعم ولاسيما اللوجستي من أجل نقل السلاح ومختلف السلع الى المناطق التابعة له.
أما فيما يخص الازمة الاوكرانية، فيرى بريماكوف إن الوضع حالياً يختلف عنه عما كان في التسعينيات في عهد وزير الخارجية اندريه كوزيريف، حين كانت موسكو توافق على جميع ما تطلبه واشنطن منها. وقررت روسيا الآن معارضة واشنطن والناتو بالوسائل الدبلوماسية والسياسية حصرًا دون الانزلاق إلى المواجهة العسكرية. وحسب قوله، فإن الازمة الاوكرانية بدأت في عام 2013 حين قررت الحكومة تأجيل توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الاوروبي. وقام بدور رئيسي في اعمال العنف في ساحة " ميدان" بكييف أعضاء التنظيمات الفاشية التي ساعدت في اثناء الحرب العالمية الثانية القوات النازية في محاربة الجيش الاحمر. وتضم هذه التنظيمات العناصر القومية المتطرفة المعادية لروسيا. وجرى الاستيلاء على السلطة بالقوة، واضطر رئيس الجمهورية إلى الهرب بسبب التهديد بقتله من قبل المسلحين من تنظيم " القطاع الايمن" القومي المتطرف. وباعتقاده إن الرئيس الاوكراني يانوكوفيتش حاول الحصول على المنافع من روسيا والاتحاد الاوروبي في آن واحد ، ولم يقم بدوره كرئيس دولة ملتزم، بل وفشل في ذلك. وبعد استيلاء القوميين على السلطة في كييف، لم يؤخذ بنظر الاعتبار موقف ابناء الاقاليم الشرقية الروس من الاحداث في البلاد الذين طالبوا يمنحهم الحكم الذاتي واقامة نظام فيدرالي في البلاد. كما اعلنت جمهورية القرم انفصالها عن اوكرانيا، لاسيما وانها ضُمت الى اوكرانيا في عام 1956 بقرار أصدره الزعيم السوفيتي خروشوف من دون موافقة البرلمان ومعرفة رأي اهالي القرم الذين يشكل الروس نسبة 96 بالمئة منهم. وبدلا من التفاوض مع أهالي المناطق التي اعلنت انفصالها، عمدت السلطات الجديدة في كييف بدعم الاتحاد الاوروبي والناتو إلى استخدام القوة العسكرية ضدهم، حيث استمر قصف مدن وقرى اقليمي دونيتسك ولوغانسك. إن القوميين الاوكرانيين ما كانوا ليفعلوا ما فعلوه بدون الدعم الغربي القوي وفرض العقوبات على روسيا. ان هذا جزء من سياسة القطب الواحد الرامية الى إبعاد روسيا وتهميش دورها في العالم.
سيبقى بريماكوف في الذاكرة بصفته واحداً من السياسيين "الحكماء " في روسيا الذين عملوا دوماً من اجل تعزيز وطنهم وتجنيبه ويلات الحروب والازمات، وذلك باستخدام الخبرة والمعرفة في آن واحد. إنه عالم ورجل سياسة في الوقت نفسه، وحبذا لو وجد رجل يجمع هاتين الصفتين في السلطة في العالم العربي.
28/7/2015