مدارات

قراءة في ورقة العمل الفكري ( خيارنا الإشتراكي ) للحزب الشيوعي العراقي / محمد النهر

من يطلع على ورقة العمل الفكري ( خيارنا الإشتراكي : دروس من بعض التجارب الإشتراكية ) التي أقرها المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي ، ويتعمق بدراسة هذه الورقة ، يقدر مدى الجهد الذي بذل فيها وأهمية الأبواب التي تناولتها بالدراسة والنقاش وأهمية هذه الأبواب والدراسة للعمل الفكري والسياسي والتنظيمي للحزب الشيوعي واليسار عموما . ولا اريد هنا التأكيد على ما تناولته الورقة من أبواب وأفكار فقد تم طرح هذه الورقة مجددا للنقاش مع وثائق المؤتمر التاسع للحزب . ولكن من خلال دراستي لهذه الورقة تكونت لدي بعض الملاحظات ووجهات النظر أطرحها للمساهمة في النقاش حولها .

  في المحور الثاني : مصائر الإشتراكية في ضوء الإنهيار– تعدد المنظورات والمفاهيم – يرد  مايلي : ( ثمة اتجاهان فكريان أساسيان في أحزاب شيوعية واشتراكية يتنازعان هذه المقاربة : الأول ، لا يجد في انهيار الاتحاد السوفيتي وانظمة بلدان اوروبا الشرقية إخفاقا ونهاية للشيوعية وإنما يراها تجربة تاريخية اولى لبناء الإشتراكية وصولا للشيوعية . وإن التداعي جاء نتيجة لتراكم أخطاء وتجاوزات وتشويه للمثل والممارسات والأفكار الشيوعية ، كما جسدتها فكريا وتنظيميا  الأحزاب الشيوعية التي تأسست في أعقاب ثورة اكتوبر في روسيا . ويدعو هذا الإتجاه لاستخلاص الدروس من الإنهيار ومن تجارب القرن العشرين إنطلاقا من ذات المرجعية الفكرية والسياسية التي تمثلها الماركسية – اللينينية.

    أما الإتجاه الثاني ، فيتخذ موقفا نقديا جذريا من الأنظمة الإشتراكية السابقة وينزع عنها صفة الشيوعية ويقدم فهما وتصورا مختلفين كليا للشيوعية ولطريق بلوغها من خلال مفهوم تجاوز الراسمالية ) والذي خلاصته ( العمل المتواصل ضد منطق الرأسمال والربح في جميع ميادين النشاط الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والسياسي لإزاحته وإحلال منطق بديل يضع مصلحة الإنسان في المقدمة بدلا من الربح ) .

    و( الى جانب هذين الإتجاهين ، ثمة طيف من الآراء و الإجتهادات تتكون من توليفات وتنويعات لعناصر الإتجاهين ذاتهما ) .

    بشكل عام يمكن التعرف على الأحزاب التي يشملها هذا التصنيف ، فالمقصود في الإتجاه الثاني هي الأحزاب والبلدان الرأسمالية المتطورة خاصة في اوروبا ، وهي أحزاب اشتراكية واشتراكية ديمقراطية أو يسارية كانت فكرة الإصلاح لديها منذ السابق وعززها انهيار الإتحاد السوفياتي ودول اوروبا الشرقية ، وانحاز لهذه الأفكار الإصلاحية بعض الأحزاب الشيوعية السابقة أو قسم من أحزاب شيوعية سابقة  في هذه البلدان وغيرها .

     أما الإتجاه الأول فهو يشمل أغلب الأحزاب الشيوعية التي راجعت مواقفها الفكرية والسياسية والتنظيمية على ضوء أحداث الإنهيار ونتائجه وبدأت بدراسة وضعها إنطلاقا من الرجوع لمصادر الفكر الماركسي محررا من الجمود والمرجعيات والإرادوية التي حولتها الى قوالب جامدة أو اعتماده كطريقة واحدة في التغيير ، ومن هذه الأحزاب الحزب الشيوعي العراقي ، حيث نجد النص التالي في النظام الداخلي ( يسترشد الحزب الشيوعي العراقي في سياسته وتنظيمه ونشاطه بالفكر الماركسي والتراث الإشتراكي ) . ويتكرر هذا النص في برنامج الحزب .

   غير ان من يتمعن في صياغة الإتجاه الأول سيجد في رأي ان هناك تناقضا بين الصياغة وبين الهدف الذي ينشده هذا الإتجاه ، فالتأكيد على استخلاص الدروس ( إنطلاقا من ذات المرجعية الفكرية والسياسية التي تمثلها الماركسية – اللينيتية ) ، يطرح إشكالية تحتاج الى نقاش وتدقيق وتحديد موقف ، حيث إن مفهوم الماركسية – اللينينية الذي نشأت عليه وناضلت تحت رايته معظم الأحزاب الشيوعية في الاممية الثالثة وما بعدها والذي أصبح منظومة متكاملة فكرية وسياسية وتنظيمية هو الذي يحتاج الى الدراسة النقدية والتقييم بهدف الرجوع الى الفكر الماركسي وتحرر هذا الفكر من الروابط القسرية التي ربطته ببعض أفكار لينين وما سمي باللينينية فيما بعد ، وفصلهما معا ، أي أفكار ماركس ، وأفكار لينين ، عن الخط الستاليني الذي ربطهما بشكل قسري بسياسات وأفكار ستالين وبعبادة الفرد والجمود العقائدي وشكل وبناء الدولة السوفيتية الذي أدى الى الإنهيار . علما ان لا ماركس في حياته كان يوافق أن يطلق على أفكاره ومواقفه بـ ( الماركسية ) ولا لينين كان يوافق على إطلاق اسم ( اللينينية ) على أفكاره ومواقفه خوفا من التقديس والجمود العقائدي . غير ان ستالين استخدم هذه التسمية ( الماركسية – اللينينية ) عام 1924 بهدف إضفاء طابع التقديس وعدم المناقشة والإعتراض على إجراءاته وأفكاره وشكل بناء الدولة السوفيتية واستخدامها سلاحا ضد معارضيه داخل الحزب وخارجه .

    كان لينين ثوريا نادرا وامتاز بإقدام وشجاعة لا نظير لهما ، وكان ماركسيا ومنظرا موهوبا ، وهو لذلك أصبح صاحب مدرسة في الماركسية ، لها إضافاتها للماركسية خاصة في ظروف روسيا وتطور الرأسمالية في وقته . ولهذا دخل في خلافات وصراعات مع الإشتراكين والماركسيين في روسيا واوروبا وأنشأ حزبه الخاص ذو المركزية الصارمة والإنضباط الحديدي ونظرته الخاصة لتحقيق الثورة البرجوازية الديمقراطية والإنتقال الى الثورة الإشتراكية في بلد واحد وتحقق ذلك في ثورة اكتوبر 1917 التي يعود الفضل الأكبر لإنتصارها الى عبقرية لينين وقدرته في تحديد الأهداف وحشد القوى لتحقيقها في الوقت المناسب .

     لقد أكد ماركس وانجلز على ان الإنتقال للثورة الإشتراكية يشترط وصول الرأسمالية لمرحلة من التطور ووصول التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج الى مستويات مستعصية ، على أن تحدث الثورة في عدة بلدان في وقت واحد ، وعملا من أجل تحقيق ذلك في الواقع . وعند دراسة لينين لمرحلة الإمبريالية خرج باستتنتاج انه يمكن أن تنتصر الثورة الإشتراكية في بلد واحد في أضعف حلقات الرأسمالية وهي روسيا ،على أن تساندها ثورات عمالية في عدد من البلدان الاوربية في الوقت نفسه .  وقد أدى هذا الطرح الجديد وما تبعه من إجراءات تنظيمية وسياسية إلى إنشقاق الحزب الإشتراكي الديمقراطي الروسي وتشكيل لينين حزبه الخاص ( البلاشفة ) وشمل ذلك أغلب الأحزاب الماركسية في اوربا .

     وقامت ثورة اكتوبر 1917 ، غير ان توقعات لينين وحزبه بانتصار الثورات العمالية في بلدان اوربا ومساندتها للثورة الإشتراكية في روسيا لم تكن دقيقة ، حيث قمعت الثورات العمالية في بعض البلدان الاوربية بوحشية وتشكل حلفا معاديا للثورة في اوربا كانت نتيجته تدخل 14 دولة ضد ثورة اكتوبر بالإضافة الى الحرب الأهلية الداخلية ، مما خلق ظروفا في غاية الصعوبة والتعقيد والتضحيات أمام بناء الدولة السوفيتية . واليوم تعود للنقاش هذه الإشكالية للنظر الى الثورة الإشتراكية حسب المنظور الماركسي أو المنظور اللينيني ، وهل كان قيام الثورة الإشتراكية في بلد متخلف مثل روسيا سببا رئيسيا في فشل تجربة ثورة اكتوبر .

     ومع ذلك انتصرت ثورة اكتوبر برغم الصعوبات والتضحيات وتطويقها من كل الجهات من قبل الرأسمالية ، ويعود الفضل بذلك الى براعة لينين الاسترتيجية والتكتيكية ، ولكن مرض لينين ووفاته المبكرة واستلام ستالين لقيادة الدولة السوفيتية والحزب الشيوعي ، كانت لها تداعيات خطيرة وكانت السبب الرئيسي في هذا الإنهيار . لقد حذر لينين وهو على فراش المرض من الأخطار التي ستواجه الدولة السوفيتية والحزب الشيوعي وكتب عدة رسائل الى مؤتمر الحزب يحذر فيها من انتخاب ستالين الى قيادة الحزب والدولة ، غير ان هذه الرسائل لم تصل الى المؤتمر بسبب تعمد ستالين ذلك ولم تنشر هذه الرسائل إلا بعد وفاة ستالين . وقد أكد لينين في هذه الرسائل على ضرورة عدم انتخاب ستالين ليس لأنه لا يمتلك امكانيات بل ضرورة انتخاب رفيق آخر يمتاز على ستالين بأنه أكثر مرونة وتعامل ايجابي مع رفاقه واحترام آرائهم ، كما طالب برسالة اخرى انه في حالة انتخاب ستالين ضرورة زيادة أعضاء اللجنة المركزية للحزب بـ 50 عضوا من العمال و50 عضوا من الفلاحين بهدف إحداث التوازن في قيادة الحزب . إلا ان ذلك لم يحدث ولجأ ستالين الى تطهير الحزب من معارضيه وهم من خيرة قيادات الحزب وفرض نهجه الخاص على الحزب وبناء الدولة السوفيتية الفتية .

    ولكن هل ما حصل سببه وجهة نظر ستالين فقط أم ان هناك ما استند اليه ستالين في النهج اللينيني خاصة في بناء الحزب والدولة السوفيتية ، لقد لعبت المركزية المفرطة والإنضباط الحديدي والارادوية وضعف الديمقراطية في الحزب والدولة منذ عهد لينين الى تكريس كل هذه السلطات بيد ستالين والى الجمود العقائدي وعبادة الفرد . ويمكن أن نرى ذلك في دول اخرى ( اشتراكية ) اختلفت مع السياسة والبناء في الدولة السوفيتية ولكنها أيضا أنتجت زعامات فردية وارادوية وكرست عبادة الفرد ، مثل حالات ماوتسي تونغ في الصين وأنور خوجة في البانيا وتيتو في يوغسلافيا وشاوشيسكو في رومانيا وكيم السونغ فی کوریا الشمالیة فقد اختلفوا مع السوفيت ولكن النتيجة كانت واحدة في التفرد ومصادرة الديمقراطية بالإضافة الى المركزية المفرطة في جميع الأحزاب الشيوعية في ذلك الوقت .

      إن إشكالية الديمقراطية في الفكر الماركسي لها جذورها منذ ماركس وانجلز ، فقد أخضعا الديمقراطية السياسية لمسالة الثورة وكذلك الى الديمقراطية الإجتماعية ، وهذا ما عانت منه الدولة السوفيتية وباقي دول اوربا الشرقية والأحزاب الشيوعية عامة ، لذلك فإن الإستشهاد بقول لينين في المحور الثالث من الورقة الفكرية بهدف التأكيد على الوحدة الجدلية بين الديمقراطية الإشتراكية ( إن من يريد السير الى الإشتراكية بطريق آخر خارج الديمقراطية السياسية يصل حتما الى استنتاجات خرقاء ورجعية سواء بمعناها الإقتصادي أم بمعناها السياسي ) أعتبره غير موفق ولا يعبر عن الواقع، فقد تم حل الجمعية التأسيسية في زمن لينين وكذلك اغلقت جميع الصحف ومنعت جميع الأحزاب من العمل ، فكيف نقنع الآخرين بهذا الإستشهاد خاصة وإن الورقة نفسها أجابت على ذلك في حقل (التجربة السوفيتية ... الإنهيار كحدث وتجليات) حيث ورد فيه عن حل الجمعية التأسيسية في 5  كانون الثاني 1918 وتأثيراته ( ويكتسب هذا الإجراء أهمية كبرى في تحديد الملامح اللاحقة للنظام السياسي والحقوقي السوفيتي ) .

     كما ان الورقة لم تربط ما ورد فيها عن حتمية انهيار الرأسمالية ( خصوصا فيما يتعلق بالإستنتاج الذي توصلت اليه الأحزاب الحاكمة في البلدان موضع الدراسة لم تزكه الحياة ، والقائل بقرب انهيار الإمبريالية تحت وطأة تناقضاتها الداخلية المتنامية ... الخ ) وبين مؤلف لينين ( الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية ) والذي وصفها بانها مرحلة متعفنة وأكد على حتمية انهيارها وقرب الثورة الإشتراكية .

   اني أعتقد ان الورقة الفكرية تجنبت توجيه النقد او اتخاذ المواقف تجاه بعض مواقف وطروحات لينين .

   وبرأي ان اعتبارعام 1956 كبداية لانهيار الدولة السوفيتية كما جاء في الورقة تعوزه الدقة ، حيث إن عام 1956 كان عام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي وهو المؤتمر الذي وجه الانتقاد والإدانة علنا لسياسات ستالين ولعبادة الفرد والجمود العقائدي وانعكس ذلك على الحركة الشيوعية العالمية .

     كما أعتبر الباب الذي تناولته الورقة عن الإصلاح في الصين مغرق بالإيجابية والتفاؤل في وقت هناك ثغرات في مجال السياسة والإقتصاد والعلاقات الدولية ربما تكون لها تداعيات كبيرة على الإصلاح في الصين .

   وبرأي ان الورقة يعوزها التطرق الى المسألة القومية ، فبالتدريج بعد ثورة اكتوبر أصبحت النظرة والإجراءات الى المسألة القومية شكلية .  وصادرت البيرقراطية والمركزية المفرطة الحقوق التي كانت تتمتع بها الشعوب والقوميات الاخرى في الدولة السوفيتية . كما لم تتطرق الورقة الى التدخل السوفيتي في افغانستان حيث أصبحت افغانستان الجبهة العالمية ضد الإتحاد السوفيتي وضد الحركة الشيوعية واستنزفت الدولة السوفيتية ولا زالت آثار هذا التدخل وتداعياته قائمة لحد الآن على الصعيد العالمي .

   وفي رأي ان الورقة يعوزها البحث في وضع اليسار العراقي وأهمية بلورة مواقفه وشعاراته ونضاله وتعبئته واعطاء أهمية لذلك برغم ما يواجهه من مصاعب وتفكك ، حيث ان قوة اليسار العراقي هي ركيزة ودعم للتيار الديمقراطي والحركة الديمقراطية في العراق بشكل عام على أن يكون الحزب الشيوعي هو المبادر لذلك .

   إن أهمية الورقة وعمق دراستها وتحليلاتها وما طرحته من مهمات تدلل على وجود امكانيات فكرية غنية لا يتلمسها المتابع في اعمال وطروحات فكرية إلا ما ندر . 

***************

خيارنا الاشتراكي: دروس من بعض التجارب الاشتراكية*