مدارات

"أحوال العراق والعرب وخيبات الزمن الردي"


تأليف: أ.د. قاسم حسين صالح
عرض: كاظم غيلان
صدر عن (دار ضفاف) بغداد-الشارقة مؤخراً (الكتاب الثلاثون- أحوال العراق والعرب وخيبات الزمن الرديء - تحليل سيكوبولتك) لمؤلفه أ. د. قاسم حسين صالح مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية وبواقع(250) صفحة من القطع الوسط.
الكتاب وبأقسامه الثلاث يزيح الستار عن مسرح أحداث دامية صاخبة عاشها عراق ما بعد التغيير (2003) بمكاشفات صادمة مستندة إلى معرفيات المؤلف التي تتصدرها تجربته كمثقف نهل من ثقافة الفكر التقدمي الإنساني الحر ما أعانه على تعزيز تخصصه في علم الاجتماع ومن المقربين لقدوته وأستاذه عالم الاجتماع الأبرز الراحل د. علي الوردي الذي خصه بالوفاء في تكريسه القسم الثالث والأخير من الكتاب له.
لعل ما جاء في مقدمة الكتاب يشير إلى فحوى البحث والتقصي الذي عمد له المؤلف بالقول:
" لأننا نحن العراقيين، نعيش في زمن الخيبات فقد تضمن الكتاب موضوعات توثق أسباب تلك الخيبات وتحمل أصحابها ما أصاب العراقيين من فواجع في بلد ينفرد في المنطقة بامتلاكه ثلاث ثروات هائلة: ثروة تحت الأرض وأخرى فوقها وثالثة في العقول" ص5.
هذه الثروات التي لخصها المؤلف أصيبت بما يفوق العقل من تصورات وأهوال عجيبة تلخصت في فساد عارم جرف الأخضر واليابس في مجرياته الحادة بسبب غياب حكومة نزيهة عادلة حريصة على ثروات البلاد وما لعبه نظام المحاصصة من ارتكاب أفظع الجرائم الاقتصادية والإنسانية حيث شهد مسرح العراق- الديمقراطي - كما يسميه المؤلف احتراب طائفي نابع من استغلال الدين وطقوسه وشعائره حتى أفتضح أمر الإسلام السياسي وجوبه بالرفض والاحتجاج الشعبي العارم الذي شهدته ساحات التحرير في بغداد وسائر مدن العراق فضلاً عن إقصاء العقلية المدنية الخلاقة في بناء العراق الجديد في إشارة إلى ثروة العقول التي ذكرها المؤلف مستشهداً بقامات بارزة كالراحلة زها حديد كأفضل معمارية عالمية والى أفضل مهندس مدني جعل فيينا تفوز كأنظف عاصمة في العالم هو أمينها ( عمر الراوي) متسائلاً ومجيباً في الوقت نفسه بالقول:
" تأمل لو أن خمسة ملايين من هذه العقول المبدعة مسكت ثروات العراق الطائلة فكيف سيكون العراق؟ أليس جنة الله في الأرض؟ فمن يقبل بوجود هذه الجنة من دول الجيران والمنطقة؟ وأي محتل يسمح لبلد أحتله أن يكون جنة؟ أما أسبابنا التي فينا ، نحن العراقيين ، فإن أقبحها – من بين أقدمها- اننا نتذابح بثأر جاهلي على نزاعات حدثت بين أجدادنا قبل ألف وأربعمائة ألف سنة . وأقبحها – من بين أحدثها – أننا منتجون للطغاة ومستعينون بطغاة على تخليصنا من طغاتنا" ص13.
إن من بين أبرز الإشكاليات التي اصطدم بها العراقي تتلخص بقادة عهد بناء جاء على أنقاض حكم دموي أورث العراق كل ما يعيق حاكميه على التمدد وإحياء موروثاته بأساليب أشد غلاظة وقسوة وفساداً.
ففي فصل( السياسة في العراق.. خبل عقلي) يبحث المؤلف وبتشخيص دقيق مستنداً إلى تخصصه لهذا (الخبل) ونتائجه المتوحشة في إشارة الى وقائع تاريخية شهدها العراق في تاريخه الحديث وبإحصائيات مدهشة معلومة لمن عاصرها ففي يومي 8 و10شباط 1963 وصل رقم القتلى الى خمسة آلاف عراقي من الشيوعيين وأنصار الزعيم الوطني الشهيد عبد الكريم قاسم من عامة الناس وفي أيلول 980 1شن النظام حرباً على أيران جرت فيها عسكرة الناس وتسليح أساتذة الجامعة بالكلاشنكوف وما أن توقفت في 8 آب 1988 شن حرباً أخرى على الكويت وهو خبل سياسي أن تخرج دولة من حرب كارثية لتدخل أخرى وفي 1988 أبيد مئة وثمانين ألف كردي في عمليات الأنفال فضلاً عن مجزرة حلبجة.
الى ذلك يعيد المؤلف سؤاله المرير بالقول:
" ..ومع أن العراق أحد أغنى البلدان ، وميزانيته أكثر من ميزانيات ست دول عربية مجتمعة فإن من هم تحت خط الفقر في زمن الديمقراطية زاد على ستة ملايين بحسب تقارير رسمية حكومية نشرت في 24 آب 2013 وآلاف( النباشة) يفتشون في (الزبالة) عن شيء يؤكل، يقابلهم برلمانيون وأعضاء حكومة جاءوا لا يملكون ثمن تذكرة الطائرة وصاروا يكنزون المليارات . وكنزها خبل عقلي ، وخاف من خبلهم حمسة ملايين عراقي هجروا وطنهم الى بلدان الشتات وآلاف يقتلون في الشهر الواحد " ويمضي المؤلف كاشفاً الأسباب الثلاثة لهذا (الخبل العقلي) ليعزوه الى التعلق بالسلطة واثنان يعودان الى أن العراقيين ورثوا من ماضيهم ( سيكولوجيا الخلاف مع الآخر) وتشبعوا من حاضرهم بـ( ثقافة العنف) ص89.
وفي دراسة استطلاعية أجراها المؤلف عن موضوعة غاية في الحساسية عن الفساد.. من ابتدأه.. ومن أشاعه؟ جاء في إجابة العينة التي اعتمدها خلاصة أسباب الفساد لــ( غياب الرقابة المالية، عدم تطبيق القانون، عدم استغلال القضاء، المحاصصة، ازدواجية الفرد العراقي، الفقراء بوصفهم مسؤولين عن إطالة مدة بقائه، الوضع السياسي المنهار والفوضى الأمنية، صمت المرجعية الدينية) الا أن المؤلف يعود بنا وعبر تحليله السيكولوجي الى بدايات الفساد والى عام 1980 في (المؤسسة العسكرية تحديداً بين ضباط وميسوري الحال من المجندين بدفع رشا و(هدايا) الى آمريهم للحفاظ على حياتهم بغية الحصول على أجازة يمارسون فيها أعمالاً تدر عليهم رزقاً أوفر من رواتبهم وشراء قادة عسكريين بمنحهم أوسمة شجاعة بمكافآت مالية ضخمة وأراض خلقت منهم فئة ثرية جداً" لينتقل بعدها الى ظروف الحصار التي اضطرت أساتذة جامعيين ليعملوا (سواق أجرة) ويفتح مدرسون (بسطيات) لبيع السكائر حتى يصل العام2003 الذي أطاح بالنظام ولم يطح بالفساد بل توزع المحرومون على صنفين سياسيين استلموا السلطة واستولوا على ممتلكات أشخاص ودولة( حواسم) نهبوا وفرهدوا ونطوا من الحضيض الى(القمة) بنوا العمارات في بغداد واشتروا الشقق الفاخرة في عواصم عربية" ص96.
الكتاب تضمن العديد من فصول ساخنة جدير بالقارئ العراقي أن يبحر فيها جيداً ليصل الى قناعات ترسخ في أن الإخفاقات التي تعيق مشروع بناء الدولة المدنية المنشود.