مدارات

أيام مفعمة بالحب والأمل ..(18) / فيصل الفؤادي

طرحت ثلاث اسئلة على مجموعة من الرفاق الأنصار الذين عملوا في قاطع السليمانية واربيل وبهدينان وهم عادل المستشار السياسي للفوج السابع في حلبجة قاطع السليمانية و ملازم فاضل عضو مكتب الفوج ومحمد كحط (ابو صمود) من العاملين في اعلام بهدينان ونجم قرجوغ الاداري في سرية قرجوغ في اربيل، وأبو عماد أحد المسؤولين العسكرين في قاطع بهدنان واخرين وانشر الجزء الاول من الرسائل او اللقاءات والجزء الثاني في الحلقة القادمة واعتبر اجوبتهم واحاديثهم شهادات ووثائق مهمة في اطار قرار الكفاح المسلح ، وتمثلت الأسئلة بما يلي:
• كيف تعاملت مع قرار الكفاح المسلح الذي إتخذه حزبنا وكيف أحدث تغييراً في حياتك؟
• ماذا إضافت لك سنوات الكفاح المسلح على الصعيد الشخصي، لاسيما وقد جاءت متزامنة مع عمر الشباب؟
• كيف تصف عامل الصعوبات لاسيما وقد كنت قريباً من مصدر القرار؟
• أي شيء أخر تحب أن تذكره الأن؟
النصير حسين علي الضالمي (عادل)
من الأمور المهمة التي يمكن للفرد منا ان يقف عندها هي القرار الخاص بالإنسحاب من التحالف الجبهوي، والوقوف موقف المعارض لحكم البعث وسياساته التي اوصلت البلد لطريق مسدود و نهاية وخيمة على الوطن والشعب. جاء هذا القرار متأخرا لدرجة افقد القاعدة الحزبية مفردات تطبيقه و عكسه على الواقع الجديد، فقد فقدت القواعد والمنظمات الحزبية الكثير من القوام الحزبي و القاعدة الجماهيرية! واستشهد كثير من الرفاق وترك ساحة النضال كثير ايضا، فغادروا الى الخارج للحفاظ على النفس أو انزوا يائسين. ناهيكم عما لحق بالكثير من الرفاق من تغير في الافكار والمواقف و التعاون مع البعث و اجهزته الامنية و المخابراتية ... انقطعت منظمات بكاملها و صارت تعيش بالمجهول. و هنا تجدر الاشارة الى جهود كثير من الرفاق الذين حملوا الحزب بحدقات عيونهم وواصلوا النضال و تحملوا كل المخاطر، حقا يجب أن ننحني امام هذه الهمم. اما عن الصمود البطولي لكوكبة كبيرة من الرفاق و الذين ارعبوا النظام و افقدوه صوابه، وبالتأكيد هؤلاء هم شموع تضئ طريقنا دوما وقد خلّدوا في قلوب رفاقهم . مما يؤسف له ان عددا غير قليل تعاون مع البعث و اجهزته الامنية و الانكى ان بعضهم اخفى ذلك التعامل وعاد لصفوف الحزب وهنا الطامة الكبرى فمثل هؤلاء كان ضررهم كبيرا جدا لدرجة انهم كشفوا الكثير من التنظيمات التي كانت عاملة او ممن اعيد بناؤها .
لا اريد نقاش القرار و تطبيقه لكن كان بالإمكان اعطاء القاعدة الحزبية حرية المناورة و التصرف ازاء هجمة الامن و الأجهزة الاخرى على ان يكون هذا بوقت كاف قبل هذا القرار، وعلى حد معرفتي المتواضعة فأن كثير من المنظمات والرفاق تصرفوا وفق مبادراتهم الذاتية للحفاظ على كيانهم، فكان اختفائهم مبكرا او انتقالهم لاماكن سكن اخرى.
في احد المرات كلفت بزيارة الهور وصادفت مجموعة من الرفاق المختفين بشكل فردي هناك. ايضا بودي الاشارة الى إن عددا غير قليل من الرفاق العاملين في الساحة الطلابية و الذين تواجدوا في جامعات و مدارس بعيدة عن محل سكناهم و محافظاتهم، أبدعوا في الاختفاء و العمل و صيانة الذات، حيث تمت الإستفادة من عدم اكتشاف الامن في مدنهم لهؤلاء الرفاق مما مكنهم من سهولة الحركة. بالتأكيد عمل هذه المجاميع يكون انضج و اكثر فائدة لو توفرت قيادة لهم، اما عن القيادة الميدانية التي برزت في وقتها فكانت تخشى ان لا ينال هذا العمل رضى الحزب. و بالتالي أضاع تقطع الاوصال البوصلة والاتجاه الصحيح. حقا ابدع كثير من الرفاق في الحفاظ على النفس وعلى رفاقهم و اسرار الحزب.
من التجربة المتواضعة التي امتلكتها اثناء الاختفاء، ان الأمور كان بالإمكان معالجتها بشكل أو بأخر، حيث ما كان يفترض ان تترك الساحة و يتخبط الكل، كان الاسلم ان تملئ الفراغات بأي شكل ولا تترك الساحة مهجورة. اثناء اتخاذ الحزب القرار كنت في كردستان في الجامعة. في وقتها فكر عدد غير قليل من الرفاق العودة لاماكن سكناهم والبعض فكر في التوجه الى الجبل حيث وصل بشكل غير دقيق خبر تواجد افراد من رفاقنا، كنت مختفيا عند عوائل من رفاقنا، توجهت مع احد الرفاق (الشهيد ئازاد سةرسور) الى بيتهم في اربيل، ومن هناك توجه الى مفارزنا .. حاولت لملمة التنظيم حيث كان بعض الرفاق قد وقعوا تعهدا بعدم ممارسة العمل السياسي، في اماكن سكناهم دون أن يبلغوا التنظيم بذلك. منذ تلك الفترة عشت حياة الاختفاء وهذا اعطى دفعة مساعدة للتعايش وتقبل الحياة الأنصارية، الى جانب المعرفة البسيطة بالساحة الكردستانية حيث كنت قد عملت فيها اثناء تواجدي في الجامعة رغم التباين في الحالتين "الأنصارية والمدنية". ايضا لم يكن تعامل الرفاق الكردستانيين بالغريب علي (اعتز كثيرا بموقف ابناء الشعب الكردي البسطاء من الاهالي والمعارف) اما بعض الرفاق في مفاصل المسؤولية فكان لهم موقفهم الذي لم يكن منصفا او مريحا لعدد غير قليل من الرفاق من غير الكرد. طبعا هذا ما صادفته في الحياة المدنية قبل و اثناء الضربة ولاحقا، وبسبب تدني مستوى الوعي لدى كثير من الرفاق و الأنصار و بسبب سيطرة النزعة العسكرية و سيادة بعض المفاهيم العشائرية القديمة من قبيل المفهوم المتهور للشجاعة، فقدنا الكثير سواء بانسحاب عدد غير قليل من الرفاق الأنصار او انزوائهم بعيدا عن الاوضاع و الاحداث .
بنظرة سريعة للأوضاع والحياة التي يعيشها الريف في كردستان فان مواصلة هذا الكم الكبير من الرفاق خصوصا ممن هم من المدينة و متشبعين بنعمها، دليل على التزام الشيوعيين و اصدقائهم و إصرارهم بكل جهد للحفاظ على الحزب و حمل رايته عاليا. ويرى المتتبع المنصف كيف إستبدل هؤلاء راحة المدينة بتعب و مخاطر الحياة الجديدة بنمطها و تحولاتها الغير متوازنة. ان هذه الصعوبات وبعض الممارسات الغير سليمة من قبل بعض الرفاق دفع عدد غير قليل من الرفاق ان يفكروا بالعودة ثانية للداخل بغض النظر عن المخاطر لعدم توفير الامكانية لذلك.
وفي الظروف الصعبة التي واجهت عموم الحركة والتقلبات السياسية التي عاشتها الساحة الكردستانية الأنصارية والمدنية، وتبادل الادوار وتحالفات قيادات الأحزاب الكردستانية مع رأس النظام الدكتاتوري، فإن بقاء الغالبية العظمى من الرفاق صامدين يعد بحد ذاته مفخرة للشيوعيين و محبي الحياة المدنية و الديمقراطية. إنه إضافة كبيرة للتجارب الشخصية التي عاشها الأنصار و انعكاساتها على الحياة المدنية لاحقا، رغم ما رافق هذه النجاحات من هنات و تلكؤ هنا وهناك .
ان الصعوبات كثيرة و منها كبير و نوعي لكن جرى تذليلها و تكاد تضمر وتتقلص عند الانتصارات التي تتحقق بين الحين و الاخر. كانت اللغة صعبة وساعدت محاولات الرفاق تعلمها على تحمل الظروف الصعبة وقربت بين رفاقنا وجماهير المنطقة و حسنت التأثير على مستوى الوعي لديهم لا سيما ان بعض المناطق شهدت نزوح اعداد كبيرة من الرافضين لنهج النظام و شن الحرب ضد الشعب تارة و ضد ايران تارة اخرى .
بتقديري ما جرى من تعايش وعن قرب فيما بين القاعدة و القيادة كان له انعكاسات كثيرة اهمها ان القاعدة تلمست وعن قرب كيف تفكر القيادة واي مستوى يمتلكه بعض الرفاق القياديين سواء من الجانب الفكري او تغليب الانا والذات على المصلحة العامة، حيث وصل الامر عند بعض الرفاق ان يرفضوا حتى تقبل هكذا قيادة و بناء موقف تجاه كل ما يصدر منها. ان هذه الحالة رافقت كثيرا قاطعي بهدينان واربيل في حين برزت بشكل اخف في قاطع السليمانية وبالذات في المفارز المتحركة، حيث بعدها عن القيادة التي برز تأثيرها على القوى القريبة منها. مع هذا فأن زيارة المفارز للمقرات وتوفر الإتصالات فيما بين القواطع زاد من التعرف على مختلف القيادات و نوعيتها، وهذا كان اساسا لمواقف حزبية لاحقة، حيث ما لبثت بعض العناصر أن إستقرت في ساحة مدنية كأن تكون في سوريا او البلدان الإشتراكية فبرز عند البعض منها و بشكل مفتعل مسألة استقلال الاقليم وتشكيل الحزب الشيوعي الكردستاني و غيرها من الأمور التي جاءت بشكل فوقاني من لدن بعض الرفاق القياديين من الكرد حيث اداروا الصراع بشكل غير ودي و رفاقي في بعض الاحيان مما اوصل الأمور لهذا الوضع " بالتأكيد هذا احد الاسباب " .".
إن افراغ الداخل من الشيوعيين "الهجر والانقطاع" الاضطراريين، كان له انعكاساته اللاحقة على عموم الساحة حيث استفراد البعث و تشديد قبضته و سطوته على الجميع و جرى تغييب حتى اسم الشيوعية لجيلين او ثلاث و بالتأكيد لهذا ضريبته التي ندفع فاتورتها الان وعلى كل الصعد والمستويات.
تموز 2015
النصير كفاح جلبيه ( ملازم فاضل)
بعد منتصف عام 1978 تحول الإرتباط الحزبي لي من منظمة الشعلة الى منظمة سرية تشمل عدة مناطق من بغداد. ثم بدأت مرحلة الإختفاء والعمل السري في شهر ايلول 1978 عندما اجبرت على ترك بيت العائلة ومن ثم ترك الجامعة في كانون الثاني 1979. في اثناء العمل السري كنت التقي احيانا برفيقي الشهيد محمود عسكر والذي غاب عن حضور اللقاءات الاخيرة بسبب القاء القبض عليه ومن ثم اعدامه لاحقا. في احد اللقاءات جاءني رفيقي المسؤول (الإنسان المثقف النبيل) والكدمات تملئ وجهه. تحدث لي بحزن شديد وقال بأنه تم القاء القبض عليه في الدائرة وتعرض لضرب شديد ولكن الامن لا يملك معلومات عنه ولا توجد اعترافات وكان المطلوب منه فقط براءة ولكنه رفض الى ان جاء احد اقاربه من الامن بأخوات الرفيق وهدد باغتصابهن امامه فرضخ وقدم البراءة خوفا على اخواته. ثم قام بتسليمي الى رفيق اخر بقيت صلتي به عدة اشهر. وقد وجد لي عملا عند احد اصدقائه في صناعة الحقائب. مرت على اختفائي اكثر من سنة ونصف وحملات البعث لم تتوقف يوما. اصبح الوضع اكثر خطورة وفي نفس الوقت بدأت المعلومات تصل عن تشكيل قواعد الأنصار.
عندما عرف رفيقي المسؤول بحراجة وضعي في السكن عند اقاربي اقترح علي الذهاب الى كردستان فوافقت فورا. كان لرفيقي صلة بإحدى الرفيقات الكرديات التي سهلت ذهاب العديد من الرفاق للالتحاق بقواعد الأنصار. للأسف رفيقي المسؤول والرفيقة التي ساعدتنا تم القاء القبض عليهما لاحقا واختفت اثارهما. سببان كانا وراء قبولي الذهاب الى كردستان بعد ان تبين ان الحديث عن سقوط النظام خلال أشهر كان محض خيال. الاول هو ان كانت المواجهة مع النظام حتمية فمن الأفضل ان لا تكون من خلال إلقاء القبض علي في مسكن سري او في سيطرة طارئة لا يكون فيها لي لا حول ولا قوة، بل من خلال مواجهة حقيقية ولتكن بأي ثمن كان. والثاني ان لا يتعرض احد من الأهل والأقارب لضرر بسببي من خلال العقوبات الجماعية التي برع النظام في ممارستها بما فيها الاعتداء على شرف النساء.
كان السفر من بغداد الى السليمانية سهلا نسبيا ولكن لم تكن الصورة واضحة لنا بالمخاطر التي يمكن ان تواجهنا في سفرنا من السليمانية الى قلعة دزة ولكنها انتهت بسلام ودخلنا بيت احد الرفاق في قلعة دزة. ومنذ الساعات الاولى بدأنا انا والرفيق (ستار) تعلم اللغة الكردية. بعد ليلتين في البيت جاء من ينقلنا الى قاعدة ناوزنك التي وصلناها بعد ليلة كاملة من المسير. منذ اليوم الاول شعرت بحجم التغيير الذي اواجهه والصعوبات المحتملة خاصة وان الوضع النفسي لكثير من رفاق القاعدة كان متوترا بسبب الطريقة التي ادارت بها قيادة الحزب العلاقة مع السلطة والانتقال الى المعارضة. بدأت أمر بنقطة تحول لم اشهد لها مثيلا في حياتي وبدأ الصراع الداخلي للقبول بالحالة الجديدة والتكيف معها. حالة غريبة لشاب قليل التجربة ان يكون بعيدا عن الاهل مئات الكيلومترات ولا افق في امكانية اللقاء لاحقا. كيف ستعاني والدتي وأبي الذي أرى دموعه لأول مرة وهو يودعني قبل السفر الى كردستان وأسئلة اخرى كثيرة كانت تحفر في العقل الباطن.
لم تمض سوى اشهر على التحاقي حتى بدأت الحرب العراقية الايرانية ونزلنا في اول مفرزة لنعيش الحياة الحقيقة للمفرزة الأنصارية بحلاوتها ومرارتها.
كانت الانتقادات والمرارات الموجهة لقيادة الحزب هي السائدة وما يتبعها من حالات ترك الحركة الأنصارية. غير ان الجو الحميمي والرفاقي والصداقات الجديدة والعنفوان الذي يمتلكه اكثر الرفاق لمواجهة البعث ورد الصاع له صاعين، جعلت من حياتنا الجديدة شيئا نفتخر به ونريد الانتقال به الى مراحل جديدة. وقد جاء قرار قيادة الحزب لاحقا باعتبار الكفاح المسلح كأسلوب رئيسي للكفاح ما يشبه برد اعتبار الى الطروحات السياسية التي سادت في الجو الأنصاري.
كان من اكبر الصعوبات التي واجهتنا هي اللغة وجغرافية المكان وقد بذلنا جهودا استثنائية لتعلم اللغة غير ان تعلم المكان كان صعبا للغاية لان الانتقال بين القرى كان متواصلا ومن غير الممكن التعرف بسهولة على كل هذه الطرق خاصة وان المسير يتم ليلا. ومن الصعوبات الاخرى هو الطعام سواء في المقرات او في القرى. فقد تمر اسابيع في المفرزة والطعام يشمل فقط الخبز واللبن او البرغل.
ملأت سنوات الأنصار جعبتنا بتجربة ثرة فيها الشهد والمر، فيها الخسارة والربح وأجمل ما فيها هذه الصداقات والعلاقات الحقيقية الحميمية وحتى السلبية منها قدمت تجربة غنية. سنوات الأنصار صنعت تغييرا كاملا في حياتنا اكثره ايجابي ولكنها ايضا تركت جروحا وخلقت معاناة لا يسهل التخلص منها رغم انتهاء التجربة منذ اكثر من عقدين.
تجربة الأنصار اضافت لنا كثيرا، سياسيا وفكريا وتنظيميا، وخلصتنا من المثالية لتضعنا في مواجهة الواقع سواء من الناحية الاجتماعية او الحزبية. انها تجربة انسانية عميقة ولتجربة الأنصار الفضل الاول لما نحن عليه الان وستبقى تأريخا نعتز به ويعتز به ابناؤنا وأحفادنا.
تموز 2015
النصير سامي سلطان(أبو عماد)
نعم ليس من السهل الكتابة عن أحداث مر عليها زمن طويل، لكن رغم هذا كله تبقى بعضا من صورها وكانها حدثت البارحة، لأنها كانت بمثابة الجرح العميق الذي يعصى على السنوات، ليبقى شاهدا حيا. أقول هذا، لأن الحديث عن حياتنا نحن الانصار، لم يكن قد بدأ في اللحظة التي وطأت أقدامنا فيها أرض كوردستان، إذ ان أحلامنا الثورية لم تنقطع يوما منذ اعتناقنا الفكر الماركسي، حيث كنا نلاحق تطورات ونجاحات الحركة الثورية في أنحاء العالم كافة، من آسيا إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية، وكذلك حركات الاحتجاج العالمي في بلدان العالم الرأسمالي، ونتفاعل مع نضال الشعب الفلسطيني المقاوم للاحتلال الاسرائيلي، وكثيرون من جيلنا من تطوع في المنظمات الفلسطينية المختلفة، ابتداءً من الجبهة الشعبية، مرورا بالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وغيرها .
كان يدفعنا حماسنا الثوري إلى أن نكون في الصفوف الأولى، في أي موقع في جبهات النضال ضد الانظمة المتسلطة على رقاب شعوبها، وعلى استعداد تام للتضامن مع الشعوب التي تناضل في سبيل استعادة سيادتها واستقلالها، فترانا ننظم الوفود، المؤلفة من مجموعة من الأصدقاء، لزيارة مكاتب بعض المنظمات، مثل،حركة تحرير ظفار والساقية الحمراء وغيرها من المنظما.
في هذه الأجواء، كنا نشعر بأن النداء الذي أطلقه البيان الشيوعي، ليس للعمال وطن، بمعنى أن الجبهة التي يناضلون فيها ضد أعدائهم الطبقيين، تشمل العالم بأسره. كنا على أتم الاستعداد لأي عمل نحضى فيه بشرف القيام بواجبنا الثوري، بمعنى آخر، كانت الرومانسية الثورية التي ثقفنا انفسنا بها ، من خلال قراءة الأدب الثوري، وتاريخ الشعوب المناضلة، رائدا لنا نحن الطامحين إلى بناء العدالة الاجتماعية، ودولة المساوة. أكتب هذا بقدر ما يتعلق الأمر بكاتب هذه السطور، الذي وجد نفسه مبكرا في ميدان العمل، كعامل أجير، عاش مكافحا في سبيل الاعتماد على نفسه، واعالتها، لتأمين حاجاته المعيشية في نهار عمل مظن، تحت رحمة الرأسمال الجشع، الذي أخذت أفكك مفردات استغلاله لقوة عملنا نحن العمال، من خلال التركيز على قراءة، ما كتبه ماركس في رأس المال. واقوم بشرح ذلك لرفاقي في العمل وزملائي في المدرسة، لا أود الاسترسال، لكني فقط أردت أن أضع قاعدة لحديث قد يطول أو يقصر، عن الفترة التي بدأت حين وضعت الخطوات الأولى على طريق نحو كردستان .
أستطيع القول أن خروجي من العراق، كان آواخر عام 1977، حيث كانت الأوضاع السياسية ملبدة بغيوم سوداء كما كنا نعبر عنها حينذاك، حيث كانت حملات الاعدامات والاعتقالات والمضايقات وتواقيع التعهدات التي تحرم العمل السياسي لغير صالح حزب البعث الحاكم، هذا كله رغم وجود ما يسمى بالجبهة الوطنية والتقدمية. في هذه الظروف جرت الاستعدادات للخروج من العراق، ليس هربا من الأوضاع المعقدة التي كانت تحيط بالحزب، إنما كان الهدف الاساس هو التزود بسلاح المعارف الماركسية ورفع المدارك، وهذا جاء انسجاما مع الطموح في امتلاك ناصية المعارف الإنسانية، فضلا عن الاطلاع المباشر على الحياة في البلدان الاشتراكية التي كانت تعد بمثابة القبلة التي تتوجه اليها أنظار كل أحرار العالم .
شددت الرحال من بغداد ألحبيبة وقلبي يعتصر الماً، على امل العودة اليها بأقرب وقت، حيث كانت السفرة التي كلفت القيام بها لا تتجاوز السنة. ولكن للمفارقة وأنا اودع اختي الكبيرة وخالي، همست بآذانهم، اني عائد في القريب العاجل، حيث انهم لايعلمون بوجهتي، إذ كان كل شئ محاط بالسرية المطلقة. اقترب مني المرحوم خالي وقال: إبني هولاء كلاب مسعورة، وليس لهم امان، وفي هذا كان يعني، البعث وبالتأكيد عندها، بادلته النظرات دون ان اعلق على ما قال .
لا ابالغ اذا قلت ان الاشهر الاولى في موسكو كانت رغم ما حملت من مواصفات الدهشة والانبهار، صعبة، لانها كانت نقلة نوعية بكل المقاييس، اضافة الى انها وضعت على عاتقي مسؤولية اضافية فيما يتعلق بحجم المهام التي تنتظرنا على ضوء ما عول عليه الرفاق في بغداد على انجاز هذه المهمة، لهذا ظل هاجس العمل في الداخل حاضرا وبقوة بما في ذلك مطاردات ازلام الامن ومضايقات عناصر البعث اللذين حولوا العراق الى ثكنة عسكرية بمعنى الكلمة، رغم كل ما كان يقال عن العلاقات الجبهوية وما يشاع عنها من انها كانت على احسن ما يرام، حتى ان ذلك اصبح امرا واقعا شجع البعض على أن يدافع باستماته عن النظام القائم بالعراق على اعتباره من الانظمة التي يمكن الاعتماد عليها في بناء الاشتراكية !!
لا اريد الخوض في هذا، لان ذلك يحتاج الى وقفة وتامل اكثر، خصوصا وان الحياة اثبتت ما كنت شخصيا واخرين غيري على قناعة تامة به، من ان نظام البعث هو من اخطر الانظمة بالمنطقة .
عودة الى ما ذكرته في معرض الحديث عن ما كان يجول في خاطري بخصوص افاق مستقبل الوضع في العراق على ضوء ما تصلنا من معلومات ضبابية لا تشير الى هدف محدد، انما كانت الابواب مشرعة في كل الاتجاهات، والشئ الواضح تماماً هو ان نظام البعث يرسخ اقدامه يوما بعد يوم في السلطة، واخذ يزيح كل العقبات التي تقف في طريقه، حتى صارت العديد من الدول الأوربية فضلا عن الدول العربية والاسلامية نصيرا بلا منازع للبعث الحاكم في العراق، وقد استخدم موارد النفط وثروات البلاد الاخرى في خدمة توجهاته، وتحولت سفارات العراق الىقوة ضاغطة مهمتها ملاحقة المعارضين وتصفيتهم، وهناك العشرات من الامثلة على ذلك.
ان هاجس العودة للوطن لم يفارقنا ابدا، وهنا لا اريد التحدث عن غيري، انما اتحدث عن نفسي، لان الحياة افرزت العديد من الامثلة التي جسدت رغبات وطموحات انسانية، تميزت هنا وهناك. وهذا أمر مشروع ليس لي الحق في تقييمه، ولا حتى محاكمته خصوصا بعد كل هذه السنوات التي اظهرت مختلف النتائج، ولكن ووفقا لبيت الشعر القائل ( الشجر يبقى شجر .... والخاويه اتطيح). وهكذا سار في طريقه كل من أَمن بعمق، بعدالة القضية التي وهب حياته لها، وبقى مؤمنا بانتصارها في نهاية المطاف.
بعد ان تعقدت الأوضاع في داخل الوطن، واشتدت الهجمة على الحزب الشيوعي العراقي، حيث تصاعدت عمليات الاعتقال والتصفية الجسدية والتسقيط السياسي، وفق قانون تأطير المجتمع، الذي يذكرنا بقرار رقم 13 سئ الصيت الذي اتخذته عصابات البعث بعد انقلاب شباط الاسود عام 63، الذي استهدف الشيوعيين والديمقراطين ودعى الى تصفيتهم، وعلى ضوءه ارتكبت جرائم بشعة بحق بنات وابناء الشعب العراقي.
في بداية عام 79 بدأت الأوضاع تزداد وضوحا وبالأخص فيما يتعلق بتحديد الموقف من النظام بعد أن اغلق كل الابواب امام اي محاولة لإعادة المياه الى مجاريها مع القوى السياسية التي كانت تربطها في يوم ما علاقة بالنظام إلا انه ادار ظهره لها وتصرف بعنجهية المتجبر بعد ان فرغت الساحة واصبح يلعب لوحده دون منازع .
في هذه الأجواء بدأ الحديث عن امكانيات العودة للوطن، ولكن كيف؟ هذا السؤال المحير لم يجد له جواباً حتى لدى الكثيرين من هم في الصف الاول في قيادة الحزب، حيث لم يكن هذا موقفاً متبلورا بخصوص العلاقة مع النظام بالوقت اخذت بعض منظمات الحزب في داخل الوطن حسب ما فهمنا فيما بعد، تتحدث بهذا المنطق على ضوء ما يصلني من معلومات عن طريق القنوات الحزبية، وكنت على استعداد للقيام باية مهمة يكلفني بها الحزب. لايمكن وصف مشاعري عندما بدأت بشائر التوجه الى دمشق قادمين من موسكو، وستكون دمشق هي المحطة المؤقتة التي ستليها الخطوة التالية وهي العودة للوطن الذي ظل حاضرا في وجداننا، وقد فارقناه مبكرا، إنما كنا قد غادرناه كي نتزود بما سيساعدنا على مواصلة كفاحنا في سبيل ازالة الظلم واقامة مجتمع العدالة والمساواة، إذ كانت تلك بمثابة استراحة محارب.
لم تكن الفرحة الممزوجة بالقلق تراودني وحدي إنما كانت سائدة للمجموعة التي كنت انا واحدا منها، وزاد التوتر والفرح، كما بدأ الفرز الحقيقي عندما جاء التوجيه المغلف بالسرية التامة، بالتوجه الى منطقة معلولة، المكان الذي ستستضيفنا فيه الجبهة الديمقراطية حيث كان لها معسكرها المخصص للتدريب. توافدنا افرادا وجماعات للمكان المخصص، حيث كانت فرحتي لاتوصف، ومازاد من فرحتي، ذلك الاستعداد المنقطع الذي تميز به الجميع للقيام بهذه المهمة، وحين سئل البعض منا، أن كنا قد خدمنا في الجيش سابقا، انبرى بعضنا لعرض خبراته، وكنت واحدا منهم، حيث كلفت في تدريب المشاة. كم كان جميلا وممتعا ذلك العمل لايمكن وصف المشاعر التي كانت تراودني حيث تلك الصداقة الحميمية التي نشات مع عناصر الجبهة الديمقراطية ومسؤول المعسكر جلال، ذا الشخصية الرائعة بكل معنى الكلمة .
كانون الاول 2015
النصيرمحمد كحط (ابو صمود)
حالما سمعت بإعلان الكفاح المسلح، كتبت رسالة طلب الالتحاق بفصائل الأنصار، ايمانا مني بمبادئي والقيم التي آمنت بها، كما هيأت نفسي لذلك. وكان الظرف الموضوعي يتطلب اتخاذ موقف أمام ممارسات النظام الفاشي وما فعله برفاقنا، فقدمت الاستقالة من العمل، حال وصول قرار الموافقة على طلبي ولم يكن أمر قبول الاستقالة سهلا، بل كانت الأمور تتطلب موقفا وبذلت جهودا لإقناع المسؤول في العمل لقبول الاستقالة، لأنهم كانوا يعتمدون علي في الكثير من المشاريع. وحمل السلاح لحماية الحزب ورفاقه، مسألة كانت مهمة جدا. رغم ظروفي الخاصة، فوضعت كل شيء على جانب وتركت العمل وتوجهت الى الوطن بظروف خطرة ومعقدة.
كانت التجربة صعبة جدا، وواجهنا المشاكل تلو المشاكل، وصبرنا وتحملنا. كانت خبرتي السياسية قليلة وبسيطة، لكن خلال تلك السنوات يمكن القول تفتحت ذهنيتي على كثير من الأمور، ومن خلال المساهمة في العمل السياسي والإعلامي والثقافي، ازدادت ثقتي بفكري، لكن كانت هنالك أخطاء كبيرة، وممارسات سيئة عرقلت العمل وأعطت صورا مشوهة، مما دفع العديد من الأنصار للتفكير بترك كردستان والعودة للخارج، خصوصا نحن الذين تركنا خلفنا أعمالنا أو مقاعد الدراسة والحياة الطبيعية، ولم نكن مجبرين أو في وضع خطر.
اللغة لم تكن العائق فقط، بل البيئة بشكل عام والجماهير البسيطة لم تعِ مصالحها، والحلفاء لم يقدروا تواجدنا وعطاؤنا بالشكل الصحيح، ناهيك عن الأخطاء التي تكررت، وعدم الحذر، كما حصل عند تعرضنا للضربة الكيماوية.
كانت سنوات عجاف، قدمنا الكثير، لكن للأسف لم نجنِ شيئا يستحق الذكر، ومما يؤلمنا تسلق اللصوص والمفسدين والمرتزقة على سدة الحكم، أما نحن فبقينا على الهامش، لم يتم تقييم عطائنا وما ضحينا به من قبل الدولة الجديدة التي ناضلنا من أجلها
بداية تموز 2015
النصير نجم خطاوي (رياض قرجوغ- قاطع اربيل)
من الصعب العودة بالذاكرة بعيدا صوب الأيام واللحظات والبدايات الاولى التي شهدت قوة وإصرار الاستعداد من اجل التكيف والتلاؤم مع تضاريس جغرافية ومكانية قاسية وأجواء اقرب للخشونة والجلد والقسوة ممتزجة بتفاصيل الحرمان والفقد والشح، كانت دروس في التدريب النفسي تدرجت في كيفية مقاومة الصعاب والتكيف مع الجديد واستيعابه.
في السنوات السبع التي مرت علي كنت قد دخلت في مدرسة الحياة بعد ان منحتني الفرصة لحظات لن تتكرر ثانية في ان أحط رحلي في أماكن بعيدة وسط قمم الجبال الجبارة وسهول الحقول الخضر الواسعة واللقاء بالبشر من سكان وأهل الريف في مدن وقرى كوردستان العراق. الصداقات طموح للإنسان فكيف بك وأنت تحيطك مجموعة من الطيبات والطيبين ومن ألوان الوطن التي لا تعرفها بالفضول والسؤال بل بسبب لون البشرة واللهجة.
بعد احداث بشت ئاشان التي عشت تفاصيلها وتجربتها المؤلمة سرت سوية مع جمع كبير من الأنصار باتجاه منطقة بارزان في أربيل القريبة من نهر الزاب على سفح جبل شيرين، كان ذلك في خريف 1983 حيث صارت منطقة قرية بارزان مكانا لقاطع أربيل. يبدو ان البعض لم يكن يروق له ان يتواجد الشيوعيون في منطقة بارزان بدلالاتها القريبة من العمق وإرثها التاريخي ورمزها المقاوم، فاختلقوا الحجج مصرين على مغادرة الشيوعيين المنطقة، وكانت لحظات قاسية ومصيرية ونحن نخلي أماكننا. كنت يومها في فصيل تمركز قريبا من قمة جبل شيرين وكان الرفيق جاسم الحلفي مسؤولا للمجموعة، وكنت مكلفا بالإتصالات وعبر جهاز لاسلكي صغير وعبر الشفرة بين قيادة قاطع أربيل ومجموعتنا حول تفاصيل المراسلات مع الديمقراطي الكردستاني والرسائل المتبادلة حول موضوع اخلاء مقراتنا وتفاصيل أخرى وكان الألم والحزن يغمرني وأنا اشهد تفاصيل موضوع اضطرارنا لترك المكان تفاديا للصدام. وبعد ان تطورت الأمور صوب لحظات كان من الصعب تصور تطورها لو لم يعالجها الشيوعيون بروح الحكمة.. في منطقة الزيباريين عند قرية كافية حط الشيوعيون رحالهم لتكون مقرا لقاطع أربيل، ومع تطور الأحداث اتخذ الشيوعيون منطقة باليسان مكانا لقاطع أربيل حيث تنقلوا هناك في اكثر من مقر.. كنت ضمن سرية قه رجوغ او سرية الشهيد ئارام بعد استشهاد الرفيق الملازم ئارام ابن مدينة ديبكه في عملية استشهادية وسط مدينة أربيل. تنقلت سرية قه ره جوغ بين أماكن مختلفة في العمق عند سهل أربيل ومرتفعات وهضاب منطقة وكيسنجر ومخمور وغيرها، بفصائلها الثلاثة حيث اتخذ كل فصيل منطقة لتواجده وإخفاء المركبات التي كان يتم التنقل بواسطتها.
هذه الحركة وهؤلاء البشر لم تكن الأحقاد والكراهية والتعصب وروح الانتقام شعارات لحركتهم، بل كانوا طامحين حالمين بحياة ومستقبل لوطنهم وبعد ان سدت دروب النضال والكفاح المدني السلمي. إن اي تقييم ودراسة لظروف تلك السنوات يفترض ان لا يكون متعاليا وغير موضوعي، أو أن يتناسى ظروف تلك الفترة سياسيا وإقليميا وطبيعة التعقيد والتشابك الذي غلب تفاصيل الحركة وحدد معالمها.
منتصف تموز 2015